- كتب: محمود ياسين
الصباح هنا في سيئون خليط من التوتر والحرارة. القصر ينتظرني. لا أحد يتوقف، كلها دراجات نارية خاصة. ما أكثر الدراجات النارية هنا.. في الشوارع الضيقة، كان يسير ميخائيل رديونوف الذي حيرني وصفه للمدنية بأنها طويلة:
سيئون الطويلة
عاصمة الشعراء
وسائقي الدراجات النارية
هذا الشاعر ربما رأى سيئون من خلال عدسته الخاصة..
تتكرر الشوارع الضيقة والدراجات النارية ولسعات الشمس.. أخيراً وجدت عيناي ما يملؤهما؛ إنه قصر السلطان الكثيري؛ أحد أبرز معالم سيئون.. كنت ساعتها في قلب المدينة.
زحمة وعرق وسياح يشترون التحف، ويلتقطون الصور، ويستبدلون النقود، ودراجات وسائقون يلبسون المقطب والفانلة البيضاء النصف كم.
صعدت إلى باب القصر الذي أصبح الآن متحفاً ليس فيه أية تحافة.. الآثار موضوعة كيفما اتفق، وموزعة على بعض غرف القصر الرائعة. هنا الآثار القديمة والنقوش الحجرية، ثم العصر الإسلامي والسيوف والدروع، وفي هذه الغرفة أعلام السلطنة الكثيرية والقعيطية، وملابس السلاطين وأسلحتهم. لا شيء يستحق جملة “يا للروعة”.
متحف بائس يختبئ في دهاليز قصر الذين جاؤوا من يافع، وأسسوا سلطنتهم في هذه البلاد..
مرت الدولة الكثيرية بثلاث مراحل من القوة والضعف، تاريخ لا أعرف عنه الكثير.
أعرف فقط أن مؤسس الدولة الكثيرية هو عمر بن جعفر الكثيري، وأن السلطنة امتدت على كامل حضرموت عام 922هـ، وأن أقوى السلاطين هو بدر الدين بن عبدالله، الذي وحد حضرموت، وختم حياته ذليلاً أسيراً في أحد الحصون، بعد أن أطاح به ابنه، وتوفي عام 977هـ. في كواليس هذا القصر دارت مؤامرات، ومن بابه خرج السلاطين، وبقي القصر متكبراً لا يعبأ بكونه متحفاً فوضوياً ومسروقاً.
انتهت السلطنة الكثيرية عام 1967، عندما غادرت القصر التقيت بعمر سعيد بن علي، أو باعلي، وأظنه الأخير هذا الذي فقد ربع قرن من حياته في سلسلة من الرعب ومحاولات الفرار الفاشلة أيام حكم الجبهة القومية (هكذا قال)، وفقد أيضاً 6 سنوات في أروقة المحاكم، بحثاً عن حقه في قطعة أرض اشتراها أخوه في المكلا، واستولى عليها بعض المتنفذين.
قال عمر ضاحكاً: قاضٍ مرتشٍ أحسن من الخوف اليومي على أعراضنا وحريتنا.
عمر يعيش على التحويلات المالية القادمة من تبوك في السعودية، حيث يعمل أخوه في التجارة. التحويلات القادمة من المهجر هي التي صنعت جيش العاطلين في هذه البلاد.
كلهم مهاجرون، وكلهم ينتظرون تحويلات المهاجرين.. تاريخ هجرة ونتائج هجرة..
يتحدث نقش مصري عن جالية من جنوب الجزيرة، استوطنت جزءاً من الدلتا، وظلت محتفظة بخصائصها الحضارية. يعود تاريخ النقش إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
رغم كل شيء تظل حضرموت بيئة طاردة، جعلت الربح ضالة الحضرمي أينما وجدها التقطها..
يركبون الموج، أو يجتازون الصحراء؛ بحثاً عن فرصة، أو فراراً من كوارث طبيعية.
في العام 833هـ؛ حدثت مجاعة حضرمية اضطرت الناس إلى أكل الكلاب والقطط، وفي أوائل الأربعينيات من القرن الـ20، حدث ما هو أشبه بالمجاعة، عندما عاد معظم المهاجرون الحضارم من إندونيسيا، بسبب الحرب العالمية الثانية.
معظم مهاجري حضرموت استوطنوا إندونيسيا وجزر الملايو، وللهجرة مآسيها، بل إنها ليست أكثر من مأساة رغم التحويلات، ورغم الأسماء الكبيرة في سوق المال والأعمال: باعظيم، آل الكاف، والسقاف، باخشوين، وبا لا أذكر.
تظل مآسي الغربة التي حاول أحمد السقاف الشاعر، الحديث عنها عندما قال:
وهاجر لاستكشاف حالة قومه
بجاوا فألفاها أشد وأشأما
الحضرمي دائم القلق على مستقبله وموارده، فهو غير مستقر بالفطرة. هم مدنيون ومسالمون، لكنهم حريصون على المال أكثر مما ينبغي، ويدفعون الثمن من استقرارهم ودفء وطنهم.
يقول الشاعر الشعبي خميس الكندي:
والحضرمي مسكين عاده في بلاده ما استقر
من آسيا لافريقيا عدت حياته في خطر
دايم وهو حامل جوازه والحقيبة للسفر
مأساة الهجرة ضللتني وأنستني أشياء كثيرة من ضمنها 7 آلاف ريال. لا أدري أين فقدتها. كان المبلغ هو كل ما أملك.
من أين أدفع إيجار الفندق؟ ومن أين آكل؟
اقترحت أشياء كثيرة من ضمنها: بيع الكاميرا، الاتصال إلى صنعاء، البحث عن شاعر اسمه علي أحمد بارجاء. أفكار سخيفة.. لم أشعر بالضياع في حياتي مثل هذه اللحظات..
فكرت في كل شيء، وأنتهي دائماً إلى أنني في مأزق لعين.
أخبرك هذه القصة لتدرك كم هم طيبون وعاطفيون أهل هذه البلاد (لا يذهب خيالك بعيداً، أو تستنتج أنني تسولت أمام أحد المساجد، فعطفوا عليّ، لا. لا)، هم كذلك، لأن موظف الاستقبال في الفندق وعمال النظافة سمعوا تفاصيل المأساة أثناء حديثي في التليفون مع مسؤول التحرير في المجلة.. كلهم يسابقون لتقديم خدمة إنسانية.
حتى إن مدير الفندق حمل العشاء بنفسه إلى غرفتي، وعرض عليّ قرضاً سخياً حتى تصل النقود عبر فرع شركة الصرافة في سيئون.
في أحد ممرات الفندق سألني أحد الموظفين قائلاً: “أنت الصحفي الذي أضاع النقود؟ أي خدمة أنا مستعد، هل تريد شيئاً؟”..
هم هكذا دائماً. متعاونون ونموذج رائع لليمنيين الأرق قلوباً والألين أفئدة، وأظن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعني بأهل اليمن، أهل حضرموت بالتحديد.
الميراث الأبيض
صباح الجمعة؛ كان الهدف مدينة المساجد والمخطوطات والأربطة ومشائخ العلم، تريم، والوسيلة سيارة عتيقة..
عيدروس السقاف إلى جواري، فتى في مقتبل العمر، ملابس بيضاء من الحذاء حتى الطاقية.
عيدروس جاء من إندونيسيا للدراسة في رباط المصطفى العلمي. هكذا هم المهاجرون يرسلون أبناءهم للتطعيم ضد فقدان الهوية.
يدرس عيدروس أصول الفقه ومصطلح الحديث والنحو والصرف (علوم الآباء والأجداد)، وكأي فتى مهاجر عاد علي أحمد باكثير من جاوة في مقتبل العمر.
تعلم باكثير، وحاول في ما بعد فعل شيء لهذه البلاد. كانت حضرموت تعيش صراع العلويين والإرشاديين، كمذاهب وشيوخ علم، وكان الظلم ومخلفات الهجرة، أصدر جريدة اسمها “التهذيب”، ضايقه الجميع وحاربوه، فهاجر حتى استقر أخيراً في القاهرة. كان قبلها قد ألف روايته الأولى “همام أو في بلاد الأحقاف”.
باكثير الذي عرفناه في “واإسلاماه” و”جلفدان هائم” و”زوجة عبدالمتجلي” و”حبل الغسيل” و”فرعون الموعود” و”سر الحاكم بأمر الله” و”مأساة أوديب”، وهي مسرحية تحاول إسقاط الأسطورة على مأساة الشعب الفلسطيني. وقبل أن يموت باكثير من مأزق الحصار الإبداعي الذي فرضته عليه مؤسسات السلطة الثقافية حينها، صرخ قائلاً: “لأن أكون راعي غنم في حضرموت، خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة”.. رحل راعي الغنم الحضرمي عن هذا العالم عام 1969، تاركاً قصة المهاجر الحزين التي لم تظهر كما يجب في ثنايا كتاباته.
وأخيراً منحته الدولة اليمنية الوسام ضمن مشروع تكريم أدباء حضرموت، الذي ضم علي أحمد باكثير وحسين أبو بكر المحضار (الشاعر المعروف)، بالإضافة إلى الباحث والمؤرخ الأديب عبدالقادر الصبان.
هذه تريم إذن، إلى اليمين من مدخل المدينة قصر رائع سأعود إليه في ما بعد، ثم ممر ترابي، ثم الساحة التي تكتظ بالناس.
مكبرات صوت، وجوائز وزحمة.. علمت أن إحدى شركات المنظفات تقوم بحملة إعلانات عن طريق توزيع الجوائز بعد بيع المنتج وتوزيع الأرقام، ومن ثم اختيار المحظوظين (نوع من التعريف بالمنتج).
الحكاية هي أن الجوائز عادية جداً، والناس يتزاحمون حول السيارة، أملاً في الفوز بإحدى هذه الجوائز الرخيصة..
قال لي المسؤول عن حملة الإعلانات إنه لم يرَ هذا الإقبال إلا في هذه البلاد.. هؤلاء القوم حريصون ويبحثون عن الفرصة دائماً، ويتسابقون عليها.
القصر الذي أذهلني عن زحمة المهرجان، كان أبيض وكبيراً وفخماً أيضاً، لكنه حزين مهلهل. إذ أصبح مقراً لحزب المؤتمر، وقسم شرطة المدينة..
انفض الناس من الساحة، وعادوا بملابس الجمعة. رائحة الجمعة هنا نفاذة جداً، ملابس نظيفة، وطاقيات دائماً بيضاء، ووجوه متوضئة.
في الجانب الآخر من الساحة، مسجد فتح الإمام الحداد. أحاول تخطي الرقاب، الجميع يقرؤون القرآن، وصلت الصف الأول، والتفت لأرى أكثر من ألف شخص يرتدون زياً موحداً، وتختلط أصواتهم لتصنع سيمفونية ملائكية طاهرة. ملخص ما حدث أنني كنت أسود، وحدي كنت كذلك. والباقي مجرد بياض.
الذي يتجه نحوي كان كهلاً وقوراً، الجميع يتسابقون على لمس يديه وإفساح الطريق أمامه. يداه ترتعشان وتوزعان البركات على رؤوس الجميع، بمن فيهم الأسود الوحيد في هذا السهل المضيء..
خطيب الجمعة قال: “الحمد لله”، فردد الألف متدين: “الحمدلله”..
خطيب الجمعة يبكي، والبعض يشاركونه، وأنا أوشك أن أبكي لأنني لم أتمكن من مشاركتهم، ولأنني أيضاً شعرت أنهم شيء وأنا نقيضه، وهذا ما كان يعنيه عبدالكريم الرازحي عندما قال:
يتقاتلون.. وأنت تبكي
يتصالحون.. وأنت تضحك
يتقاربون.. وأنت تنأى
يتوحدون.. وأنت وحدك
بالفعل: لقد توحدوا وأنا وحدي، وهذه مأساتي مع حضرموت من المكلا إلى تريم..
بعد الصلاة مباشرة كانوا يتعانقون، وأصوات الأناشيد وعبق التصوف تنطلق من أشرطة الكاسيت، حيث محلات التسجيل تعلن عن جديدها.
في هذه المدينة 360 مسجداً (هكذا سمعت)، وفيها أربطة العلم. في الماضي كان الطالب في الرباط يصنع طعامه بيديه، والآن تمكنت الأربطة من توفير الخدمات.
في رباط المصطفى أكثر من 1400 طالب، من حضرموت وأفريقيا وإندونيسيا وجزر الملايو،
كان الطلبة قد احتشدوا حولي ليحدثوني عن الدرس الأول الذي يتعلمه الطالب، وهو الأدب “الأخلاق الحميدة”.
فترة قد تمتد لشهر كامل، لا يسب الطالب فيها ولا يشتم، ويقدس العلم والشيخ، ويقيم الشعائر الإسلامية،
يتسابقون على الإجابة على أسئلتي، وعلى الحديث عن شيخهم وكأنهم يتحدثون عن مخلوق خرافي أبيض.
فقهاء أولياء وأضرحة، وتاريخ تدين وحركات عبدالله بن يحيى الكندي، الملقب بطالب الحق، جاء إلى حضرموت بالأباضية التي انتشرت كالنار، وتراجعت وتحولت إلى رماد بعد صراع فقهي مرير..
أما أحمد بن عيسى المهاجر، فقد فر من مكة عقب هجوم القرامطة عليها، وسرقة الحجر الأسود.. فر إلى حضرموت، وأصبح قبره مزاراً كأحد أهم الأولياء.
وإلى المهاجر ينتسب العلويون في حضرموت
قبل مغادرة تريم كان عليّ دخول القصر الرائع الذي بناه أحد أفراد آل الكاف.. هذه الأسرة التي كان لها جزء من القرار في حضرموت.. فهم يملكون أضعاف ما كان يملكه بعض سلاطين الدولة الكثيرية.
وآل الكاف الذين أطلق عليهم أحد الرحالة اسم “مدتشي حضرموت”، إسقاطاً على أسرة مدتشي الإيطالية التي كانت تملك جزءاً من القرار السياسي في روما، على أساس امتلاكها الثروة.
عاد القصر إلى أصحابه بعد الوحدة، وتم تحويله إلى فندق تمنيت النوم فيه ليلة واحدة، أحلم فيها بأنني أصبحت ثرياً يصدر عدداً من الصحف والمجلات في جزر الملايو أو سنغافورة، كما يفعل أحد أفراد هذه الأسرة التي تصنع المال والجمال والفخامة.
غادرت ساحة القصر وأنا أحاول البحث عن جديد، إذ إن هذه الأرض بدأت تتكرر. سلما “تدين، قصور”، أناس ينتظرون تحويلات المهجر المالي، بالإضافة إلى النخيل..
حتى مارينا التي تماهت في حضرموت، ولم أرها بعد وصولنا (أظنها تحجبت)، وأخرى رأيتها في الفندق مع رفيقها، ورأيتها فور خروجي من قصر الكاف، لنعود إلى سيئون على سيارة واحدة..
إنهما ألمانيان يحبان حضرموت (هكذا قالا)، ولديهما كتب فيها أدق تفاصيل حضرموت في التاريخ والجغرافيا والإنسان.
تحدثنا كثيراً عن فلاسفة ألمانيا وموسيقييها، ولم أفهم منهما شيئاً. كان حوار طرشان..
متواضعان وأليفان، جعلاني أعيد التفكير في قناعتي عن عنصرية الألمان ذوي الدم الأزرق، لغتهما أشد غموضاً من آراء فلاسفة ألمانيا الحديثة. كانت السائحة الألمانية قد أبلت حسناً عندما استجمعت كل ما لديها من عربية قائلة: “حضرموت، تمام، طيب، هدوء”. وهذا كل شيء.
إلى اللقاء أيتها المدينة
عدنا إلى سيئون لنتناول بقايا غداء، ونشتري بقايا قات. لكن درجة الحرارة العالية جعلتنا نمضغ القات كمن يتناول جرعة هروين، إذ كان تأثيره قوياً لدرجة أن الخواجة الألماني لم يكف عن ترديد “أوه، كات، تمام”..
المسكين لم يكن يدري ساعتها ما سيحدث له بعد هذه التخزينة الجهنمية (يستحق ما سيحدث له لأنه كان مزعجاً للغاية).
مطار سيئون ليس له علاقة بالمطارات، هذا إذا استثنينا صديقي الذي يعمل هناك في برج المراقبة (لأنه لا يعمل إلا في مطارات)، وكذلك طريق إسفلتي تعيس يصلح للإقلاع (لم أجربه في الهبوط).
والباقي مجرد مقاعد مهلهة، ورجل تظنه يعمل في ضرائب القات، لا يحفظ شيئاً سوى “أيش هذا اللي في الشنطة؟”. ورغم كل شيء، فالطائرة أقلعت، وبدأت تسافر في طريق فرعي يشبه طريق قريتي. أي طيار هذا؟
كان علي باوزير إلى جواري، وأنا إلى جوار النافذة، والنافذة إلى جوار مساحة الرعب التي شغلتني عن باوزير وقصة فراره من أحد المخيمات الطلابية في أوائل الثمانينيات، وأشياء أخرى من ضمنها: “أكملت دراستي، أصبحت تاجراً”.. (حضرمي: ماذا تظنه سيصبح؟).. يواصل علي باوزير سرد سيرته الذاتية، وتفاصيل اعتقال والده، وكيف رق قلب الرئيس علي ناصر لكهولته، وإطلاق سراحه. كان يردد في آخر كل عبارة: “تظل الغربة غربة”..
أنا بالطبع لم أقل كلمة واحدة. كنت أكتفي بهز رأسي مردداً: آها، وأعود للغرق في الرعب من عطل يصيب المحرك الرئيسي وبقية التفاصيل حتى ارتطام الطائرة بإحدى القمم الجبلية، ووقوع الكارثة بضياع الكاميرا وجهاز التسجيل والاستطلاع، فأفقد بذلك وظيفتي.