- ضياف البراق
• أحب في القرية صدقها الجميل الذي تفتقر المدينة إليه. في القرية لا يصاب المرء بالكآبة، مهما اشتد عليه سوء الحال، ولا يشعر بثقل الوقت ولا يتلوّث قلبه بأوساخ الماديات، كما هو الحال في المدينة. الحياة في القرية صادقة في كل الأحوال والظروف، وأنا أموت قهرًا حيث لا أجد الصدق. الأشياء في القرية تتحدث إليَّ بحيويّة هادئة ولذيذة، بصدقٍ طبيعي مُنعِش، فضلًا عن الهواء الطلق الذي يحتويني دائمًا من كل جانب. والقرية أيضًا أكثر ليونة من المدينة. الأشياء في المدينة لا تتحدث إليَّ بنقاء، لا تتناغم مع حواسي وأحاسيسي، والوقت فيها لا يكفيني ولكنه يسلخني بسكينه باستمرار، وأمّا كثرة هذه الزخارف الكاذبة والإسمنتيات اللعينة التي تلفني من كل جانب، فهذه تحجب عن قلبي حنان الطبيعة وجمال الله المُطلَق. في المدينة لا تستطيع أن تلتقط حتى أنفاسك، بسبب الحركة السريعة وضجة الأشياء وكثرة الوجوه ذات الأقنعة الخادعة، القاتلة. المدينة كاذبة وإن صدقتْ، إنها هذا الكابوس الشَرِه الذي يأكل من قلبي ويشرب، كل يوم. القرية ينبوع حنان لا ينضب. القرية سيّدتي الوحيدة الصادقة، التي لا تسلخ قلبي بالكذب، ولا تتركني أموت وحيدًا يوم أموت. وما الجمال إلا الصدق، وما الصدق إلا أساس الحياة. المدينة تموت من قِلة الصدق.
• أعجز عن الكتابة عندما أكون مُطمئنًا من الداخل، أو عندما أخلو من بعض الفوضى الفكرية. أكتب وأنا مضطرب. القلق يحفّزني كثيرًا إلى اقتراف فِعْل الكتابة بمنتهى الشغف. إنني لا أستطيع الكتابة إن لم أكن قَلِقًا أو خائفًا بعض الشيء. لكنْ، عندما يشتد قلقي أو اضطرابي أكثر من اللازم، عندئذٍ أصبح عاجزًا تمامًا.. لا عن الكتابة فحسب بل حتى عن البقاء في نفسي. الكتابة الصادقة لا تخلو من وهجات القلَق، ولا تخلو كذلك من بعض التناقضات النفسية المثيرة. لا تهزّني الكتابة الصامتة، أو تلك الجافّة لفرْطِ صرامتها. أظن أنّ قلَقَ الكاتب يطلق الكتابة من أسرها، أو يحرّرها من الخَواء. الكتابة القَلِقَة تُضيء، تُدهِش، تُمتِع. كتابات كافكا نموذجًا. أكتبُ، حين أكتب، كالذي ينتشل جسده الصريع من داخل قبر عميق، وأحيانًا كاليائس المُنتحِر الذي يحفر قبره بيده. الكتابة الصادقة، دخولٌ في المجهول كله، إشعال النار في الجسد كله ليرى نفسه وجهًا لوجه. في الكتابة الإبداعية المفتوحة، المتعددة الأجناس، فلا يعنيني الحياد ولا أراعي شروط الجمهور، وإنما أفضِّل التطرُّف، أعشق الاقتحام والكشف ولا يخيفني أن أفشل، إذ لا بُدَّ عندي من تلهيب الكلمات والأشياء… لأنّ الكتابة اختراقٌ متواصل، وإدهاش متجدِّد، وأنا دائمًا أسعى لاختطاف قارئي معي، وإيقاعه في هاويتي على الأقل.
• لا أمزح، كتاباتي هي أنا نفسي. أسلوبي في الكتابة ليس سوى صورة حقيقية عنّي. اِقرأني، تعرفني على حقيقتي، تمامَ المعرفة. ذلك لأنني أكتب من قلبي، أكتب بكل صدق. عند الكتابة، لا أرتدي الأقنعة، لا أخالف قناعاتي، صحيح أناقضني كثيرًا، ولكنّي لا أكذب أبدًا، لا أزيّف نفسي ولا أخون لغتي المتواضعة. كل الصدق أنني أكتب ما يغتلي في قلبي وكفى. لا أكتب شيئًا لا أحبه. الكتابة الصادقة تعيش طويلًا، إنها بصدقها تشق طريقها إلى الخلود. غير أني لم أصل بعد إلى مستوى الكتابة الحقيقية، والطريق إليها طويل جدًّا. لا أحب الخلود، ولكنّي أحب كتاباتي البسيطة، الساذجة، كتاباتي المشحونة بعواطفي المتأججة، والمعجونة بنزيفي الروحي، نزيفي الإنساني المحض.
• أحب الصدق كثيرًا، وكذلك الصدق يحبني كثيرًا. أحب الصدق في الكتابة، وخارج الكتابة أيضًا. لقد تعلّمتُ الصدقَ من أمي الحبيبة التي ظلت طفلةً حتى آخر لحظة في حياتها. وأصْدَق من ذلك، أنها جسّدتْ الصدق بحذافيره حتى في موتها. من غير شك أنّ الصادق مِنّا يعيش حياته في حزن لا ينتهي. الحزن لغة الصادقين الوحيدة. طبعًا ليس كل الصادقين. كانت أمي صادقة حتى ضد نفسها. كنتُ أجد الصدق حتى في كذبها البريء. الدنيا تبتلع الصادقين لفرط ليونة أرواحهم. ولكن المجانين هم أصدق الناس في هذا العالم. وأجمل ما في المجانين أنهم غير حاقدين على أحد، غير عابئين بشيء. جمال المجانين هو صدقهم الكامل إزاء الحياة. جمالُ الأشياءِ هو صِدقها.
• حتى حين أمارس الكَذِب مع نفسي أو مع غيري، فإنني أمارسه بصدق. إنني أحترم ذلك الذي يكرهني بصدق، أو بوضوح، أحترمه أكثر من ذلك الذي لا يحبني من قلبه. أحترم عدوّي الواضح. هذا مع أنني لم أفهم نفسي بعد؛ هل أنا صادق بالفعل أم لا.. أو بالأصح لم أعرفني بشكل واضح. لذلك لا يزال موقفي من الآخر غير واضح. أو رُبّما لم يتبلور بعد. أحسُّ أن هنالك علاقة ملتبسة بيني وبين الآخر. ومع ذلك، لا أعتقد أن لي أعداء حتى الآن. في الحقيقة، أنا لا أَكره أبدًا، ولكنني لا أحب جميع الناس، إنما فقط أحب الذين يستحقون الحب، وأولئك الذين يقدّرون معنى الحب. أمّا الشخص الذي يحب جميع الناس، ومن غير شروط، فهذا لا وجود له لا في الواقع ولا في الأساطير. كذّاب كبير من يزعم أنه لا يكره أحدًا أو ينكر أنه لا يحب نفسه. أحب الصادقين منكم. ولكنّي أكره الصدق المُتطرِّف، بذات القدْر الذي أكره به الصدق الكاذب. إنّ الصدق الذي غرضه إشعال الفتنة بين الناس، أو تلويث نقاء الأشياء، فلا أستسيغه على الإطلاق، ولا أتعامل به في شيء ولا في مكان. نَعم، أكره الصدق الاحتقاري. بالتأكيد، لستُ هنا أدّعي الصدق لنفسي، ولكنه سيظل هو لغتي الوحيدة في الحياة. كذبي ضئيل ومحدود جدًّا. أمقت الأقنعة. وأخيرًا، أعترف بأني أحب ذاتيّتي كثيرًا. أحب ذاتيّتي التي لا تؤذي الآخرين. أحب الصدق ولا أكثر.