- حسن الدوله
كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني من دون تناقض مع الدين أو مع متطلبات الدولة الحديثة، ومن دون رعاية للتطرف؟ قبل الإجابة على هذا السؤال تجدر الإشارة إلى ما أكدنا عليه في الجزء الأول من هذا المقال، بأن العلمانية ليست ديناً ينافس الإسلام على الوجود والأتباع، ولا فلسفة تعادي الدين ولا تعادي المسلمين، وإنما هي فلسفة في فهم الإنسان نفسه بحرية وعقل أولاً، وفلسفة في فهم الناس مقومات الدنيا التي يعيشون فيها علمياً ثانياً، وإذا فهمت العلمانية على هذا الأساس فالمسلمون أحرار في الموقف منها، وكلا المبدأين حرية الإنسان وعقلانيته وحقه في فهم الدنيا بالعلم هما من مبادئ الإسلام الأساسية، أي أن أسس الإسلام وأسس العلمانية في النظرة إلى الإنسان والحياة على اتفاق ووفاق، من ناحية الدعوة إلى الحرية الإنسانية واحترام العقل والأخذ بالعلم ومنجزاته، وعدم بناء الحياة على الجهل والخرافة وإلغاء مقومات الحياة الدنيوية والانتفاع بها على أكمل وجه وأتمه وأحسنه. ولكن ما ينبغي تجنبه أو الحذر منه أن لا يستبد مفكر إسلامي بتفسيره للدين على أنه ضد العلمانية بناء على قراءة خاصة به، ولا أن يستبد مفكر آخر بفهمه للعلمانية على أنها ضد الدين أيضاً، فإذا وجد دين يمنع الإنسان من حريته وعقله فإن العلمانية ضده حتماً، وإذا وجدت علمانية تمنع الإنسان من دينه أو حريته وعقله وعلمه فإن الدين الحق ضدها حتماً، وللجهل بالعلمانية يعتقد البعض أنها لا تصلح إلا في بلد تتعدد فيه الأديان فقط، العلمانية كما قلنا هي وسيلة تقي المجتمع من احتكار رجال الدين من فرض وصايتهم على الدين والسياسية وفي حال تعدد الأديان فان واجب الدولة أن ترعاها جميعا ، وكذلك حين تتعدد المذاهب فأن الدولة تمنع على أصحاب مذهب واحد أن يحتكروا فهمه للدين، وفرضه على الأخر، وبما أن العلمانية مجرد وسيلة تنظم شؤون الحكم، وأنها ليست عقيدة أو إيديولوجية تنافس ألأديان والمذاهب، بل لو نظرنا مليا في صحيفة المدينة التي جعلت المسلمين واليهود أمة واحدة متساوون في الحقوق والواجبات سنجد أن الإسلام هو او دين طبق العلمانية ورفض القيمومة على الدين، قال سبحانه لنبيه الكريم (لست عليهم بمسيطر )….
وعليه نود في هذا الجزء الثاني والأخير أن نؤكد أن ثمة مجال لنظام سياسي اجتماعي علماني لا يتناقض مع الدين، ولا بأس بتكرار مقولة أن العلمانية أفضل فهم وتطبيق للدين، فلم يكن في عالم الإسلام استحضار للدين وتطبيقه في أنظمة سياسية واقتصادية وتعليمية كما هي الحال اليوم، ولم تكن معروفة من قبل مفاهيم وتطبيقات سائدة في المؤسسات السياسية والدينية وجماعات الإسلام السياسي مثل الدولة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والحكم الإسلامي.
والواقع، أنها «بدع» لكنها بدع حسنة ، وبخاصة أن التراث الديني القائم في مراحله وتطوراته لا يساعدنا في بناء نموذج فكري وتأصيلي يستوعب العلاقة بين الدين والدولة على نحو ينسجم مع طبيعة الدول والمجتمعات الحديثة واتجاهاتها منذ قيام الثورة الصناعي.
لكن المحير هو المواجهة الرسمية السياسية بلا هوادة مع الدراسات والمبادرات الفكرية الإصلاحية في عالم العرب والإسلام. لقد تعاملت الأنظمة السياسية العربية مع الدين بالنظر إليه كمسألة «أمن دولة»، ولم تسمح بالدراسات النقدية للفكر الديني مقابل رعاية مؤسسية ومالية واسعة من البحث والتدريس والرسائل العلمية والمبادرات المجتمعية والاقتصادية لعمليات «الأسلمة»، وهي مواجهة تذكر بحالات تاريخية في عالم الإسلام لقيت تجاهلاً وحرباً شرسة، ولم تجد حتى اليوم الاهتمام الكافي لفهمها، مثل المرجئة والمعتزلة، والمطرفية …الخ.
يبدو مرجحاً بالطبع، أن الدول في مراجعتها المنظومة الفكرية الدينية والتراثية وعلاقتها بالدين ستلاقي معارضة شعبية واجتماعية، ولكننا نتوقع أن تكون في بداية الأمر، وبعد ان تتلمس الجماعات الدينية نجاح التجربة سوف يلتف الجميع حول تلك البحوث التي ستطور الفهم الديني ، سشأن الكنيسة التي وقفت ضد العلمانية والعلوم التي تثبت صحتها دراسات علمية خطت خطى واثقة، اضطرت الكنيسة أ تمضي خلفها، وفي ظني أن كل من يقف ضدا على العلمانية هو يقف منطلقا من حرص شديد على العقيدة، ولذا ما أن يجدوا أن التجربة سثبتت لهم عكس ذلك التخوف فإنهم حتما سوف يدعمون العلمانية ويؤيدونها طالما وهي لا تمس بالعقيدة بأي حال من الأحوال بل تحميها، وستكون هناك مصالح اقتصادية وطبقات اجتماعية واسعة متضررة. فقد نشأت مصالح اقتصادية «إسلامية» تعكس تحالفاً معقداً بين نخب سياسية واقتصادية غير إسلامية واتجاهات شعبية واجتماعية واسعة. والحال، أنها لم تكن سوى توظيف تسويقي لتحويل اتجاهات الناس وأفكارهم إلى سلع تجارية واستهلاكية. ويمكن على الدوام الملاحظة أن البائعين أكثر فهماً وإدراكاً لاتجاهات الناس واحتياجاتهم من الإصلاحيين والتنمويين، لذلك أنتجت الظاهرة الدينية أسواقاً وأعمالاً تجارية واسعة، ولم تنشئ تقدماً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولم تساهم في تحسين الحياة. فهي لم تعمل لشديد الأسف، إلا لمصلحة مصرفيين وتجار أسلحة ومواشٍ وملابس ومقاولين وموردين في التعليم والمسابح والأطعمة والتداوي والسياحة…
لكن أسوأ ما يلحق بالإصلاح، أن النخب والقيادات السياسية والاجتماعية تشعر في نظر نفسها بهزيمة عميقة، وتوافق على رأي الجماعات الدينية بها، وتخوض المواجهة مع المتطرفين وهي تعتقد أنهم على صواب. وقد صارت ويا للغرابة، في حاجة إلى أحد يقنعها بأنها ليست ضد الدين، ولا تحتاج لتكون منسجمة مع الدين أن تفهم الدين وتطبقه كالجماعات المتطرفة. فالدين دين رحمة يسعى لتحقيق العدل والمساواة بين الناس، دون محاباة، أو تحيز عقائدي،فالناس سواسية كأسنان المشط لا ضل لعربي على عجمي ، ولا ابيض على اسود ألا بالتقوى التي لا يحكم فيها إلا الله سبحانه يوم الدين. قال سبحانه { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ). صدق الله العظيم .هذا والله من وراء القصد.