- عمار البذيجي
قبل حوالي شهر من الآن، أقمت في فندق ماريوت تعز لأربعة أيام، وسرّني ما لمسته فيه من مستوى خدمة متميّز وسرعة استجابة من إدارة وعمال الفندق، لكن ليس هذا بيت القصيد.
بيت القصيد هو البسطاء من عمال الخدمات في الفندق الذين تفاجأت بهم كلّهم، ودون استثناء، يرفضون وبشدّة أخذ ما يُعرف بالبقشيش والإكراميات رغم الإلحاح الشديد عليهم وتكرار المحاولة معهم، والأعجب أني أرسلت أحدهم إلى السوق مرتين وفي وقت متأخر، ولم أتمكن من إقناعه ليأخذ حتى مقابل المشوار والمواصلات مع أنه من حقه وخارج عمله.
في اليوم الأخير صادفت أحد مقدّمي الخدمات في المصعد وسألته:
_ هل تمنعكم إدارة الفندق من أخذ إكراميات من الزبائن؟
_ فقال: المسألة مش مسألة إدارة الفندق تمنع أو تسمح، وإنما الخدمة حق للنزيل، فلماذا نأخذ مقابلها؟
_ قلت له: هذا أمر شائع ومُتعامل به في كل دول العالم، وليس فيه شيء.
_ ردّ علي: أصلًا عندما تأخذ من زبون بقشيش أو إكرامية تصبح كأنك عبدًا له، ولا تقدر أن تعتذر منه أو ترفض له طلبًا بعد ذلك.
_ أجبته: أنت تبالغ كثيرًا، فالأمر لا يؤخذ بهذا الشكل، وإنما هي عادة جرت في أماكن تقديم الخدمة.
ومع أن المنطقين، منطقي ومنطقه، لكلٍّ منهما وجه صحيح من النظر، لكن في قرارة نفسي أحسست بالحرج والتقزّم أمامه، وأكبرته وزملاءه من العمال والمراسلين في الفندق، واستحضرت المثل القائل: “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”، وقلت لنفسي حقًا: “يجوع اليمني ولا يأكل بأنفه”.
أستحضر هذا النموذج ليس لتقبيح أو نقد سلوك ومنطق من لا يرون بأسًا ولا حرجًا في قبول الإكراميات، لأنها بالفعل كذلك، خصوصًا بالنسبة لذوي الوظائف البسيطة في أماكن تقديم الخدمات متى ما كانت لا تخالف قوانين ولوائح المنشأة.
وإنما أستحضرها وأشارك القصة لأنها عكست في نظري أمرين مهمين:
الأول: قيم وثقافة المؤسسة والعلاقة بينها وبين الأفراد، وكيف يمكن لمؤسسة صغيرة منتسبوها من البسطاء أن تجعل من قيمها وقوانينها ثقافة مؤسسية وسلوكًا عامًا يمارسها الأفراد بوعي وإيمان وليس كنظام ولوائح، بينما تفشل مؤسسات كبيرة في مجتمعات متقدمة مع أن المستوى العلمي والثقافي لمنتسبيها وأفرادها يُعد مرتفعًا جدًا.
الثاني: الصورة المشرقة والأنموذج المتفرّد الذي عُرف به الإنسان اليمني شديد الحساسية تجاه الكرامة، والذي لا يساوم فيها مطلقًا، ولا يقبل التفريط في ماء وجهه وعزّة وأنَفة نفسه تحت أي ظرف وفي أي مكان وزمان.
احدهم علق في صفحتي وهو محق في ذلك انها حالة نادرة، والحقيقة انها من حيث الموقف والتفاصيل حالة نادرة ونادرة جدا في مجتمعات اكثر تقدما وشرائح اكثر وعيا واعلى تعليما ناهيك عن مجتمع شديد الفاقة واكثر جهلا واقل وعيا وشريحة معدمة لا تجد ضروريات الحياة وفي ظروف استثنائية قاهرة، لكن من حيث دلالاتها والقيم والمعاني التي تجسدها وتعكسها ففي حياتنا كيمنيين الكثير من النماذج المشرقة والمواقف المشرفة والتجارب الملهمة في تمثل العزة والكرامة والترفع عن كل ما يشين او يهين والكثير من الجلال والجمال في السلوك والثقافة والالتزام والامتثال.