- كتب: محمد ناجي أحمد
هي نبوءة سطيح السبئي /التعكري لربيعة بن نصر ، أحد ملوك التبابعة ، حين فسر له رؤياه التي هالته وأقلقته ، فقال لسطيح ” رأيت حممة خرجتْ من ظلمة ، فوقعت بأرض تهمة ، فأكلت منها كل ذات جمجمة ” فكان تأويل سطيح لهذه الرؤيا قوله للملك ” اعلم أنه لتهبطن أرضكم الحبش ، وليملكن ما بين أبين إلى جرش ، وهو بعد الملك بحين، أكثر من ستين أو سبعين من السنين ثم ينقطع ملكهم ويُقتلون ويُخرجون …يكون ذلك على يد إرم بن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك أحدا منهم في بلاد اليمن، ثم ينقطع سلطانه على يد نبي ذكي، يأتيه الوحي من العلي القدير”. ص31.
رمزية سطيح قادرة على تطويع المكان وعجنه وتشكيله والتنبؤ بالأحداث والأحوال ، وتوجيه الرياح وتحريك السحب الممطرة ، إنه علم اليقين ، الذي يحج الناس إليه لمعرفة ما التبس عليهم، تكثيف رمزي وتركيب أسطوري لليمن، المكان والمعمار والمركز الحضاري المضيء في الجزيرة العربي، المتموضع خلف الحاجز الصحراوي (الحجاز) الذي يفصله عن الشام، ويمثل البحر الأحمر له شريان التواصل مع مصر والهند ، الذي تنتقل عبره التوابل واللبان وغيرها من المنتجات …
كانت اليمن قبلة (الحجاز) و(نجد) كلما ضاقت بهم الرؤية والمعيشة وجهوا وجوههم قِبَل اليمن، ليعودوا محملين بجلاء البصيرة وقوافل الشتاء المحملة بالمعيشة والثراء.
لقد كانت هند بنت عتبة في رحلاتها إلى اليمن تعود بيقينها من خلال نبوة سطيح لها بملك الأرض ، وكذلك تعود محملة بتجارتها التي اشتهرت بها ، كونها من نساء قريش اللواتي عملنا بالتجارة قبل الإسلام وبعده…
تناولت هند بنت عتبة “لفافة” المعرفة التي لا تبوح لمكنونها قبل الأوان، فتظل مصونة رموزا وطلاسم ، وكذلك مستبشرة بنبوة واضحة جلية ” إنما أنت امرأة ذات شأن ، ولسوف يأتي من نسلك ملوك عظام يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ” ص35.
هو تواز للمكان والملك الصليحي ، بين جبلين : جبل التعكر وجبل صبر وبينهما معول الفلاح و”أتلام” وشيجة تجري فيها ينابيع الحياة، جواهر هابطة من على جبلين.
ليس غريبا أن يكون حصن التعكر مقرا الملكة أروى في الصيف ، وأن يكون لها في سفح جبل صبر (بركة احمر) ومسجد (الحمراء)أو (مسجد أحمر) في دلالة على صفتها التي عُرِفتْ بها (الحمراء)والبركة والمسجد يقعان في الجهة الشمالية لجبل صبر ، في قرية (ثُعَبَات) أو (ثَعَبَات) ، والتي عرفت فيما بعد في عهد الدولة الرسولية بـ(مدينة الملوك) لاتخاذها سكنا لملوك بني رسول…
فجبل صبر بقمته الشمالية كلما زالت الغمة تماهى مع قمة جبل التعكر، تماهي بصر وبصيرة ومٌلْك عماده الدولة الفاطمية ثم الرسولية ثم الطاهرية…
حصن التعكر الذي يشرف على شريان الاتصال واللحمة بين تعز وعدن وصنعاء شاهد بصر ورؤيا ، وليس من رأى كمن سمع، وكلاهما الجبلان يطلان من حيث الرؤية على أفق اليمن ووطنيته…
بانتقال ” لفافة” سطيح السبئي /التعكري – من هند بنت عتبة إلى الملكة أروى بنت أحمد الصليحي حازت القدرة على تطويع الملوك والسلاطين والمكان وتسيير الرياح. وكما ترك سطيح آثار أقدامه وكفيه على حصن التعكر ، تركت الملكة أروى آثارها في جبل التعكر وجبلة وجبل صبر، وفي العديد من أمكنة اليمن شمالا وجنوبا وشرقا وغربا…وفي تلك الأمكنة سنجد لغة لفافتها من خلال أثرها ، مساجد وسمسرات وسدود وبرك مياه تتدفق بالحياة الدائمة ، وأوقاف ظلت تحمل اسم (أوقاف الحرة سيدة) وبصيرة علم لا يعرفها سوى خواص الخواص.
فالملكة الحرة سيدة(أروى) بنت أحمد الصليحي وصلت في سلم دعاة الإسماعيليين إلى مرتبة ( حجة الإمام) أي أعلى درجة بعد درجة داعي الدعاة ، فالإسماعيلية لا تلتفت إلى الأشكال الجسمانية للرجل والمرأة ، فذلك لا يعني شيئا “بل تنظر إلى ما يظهر عن هذه الأشكال الجسمانية من الأفعال الخيرة والأعمال الصالحة” ص46- الحياة الفكرية في اليمن في القرن السادس الهجري-الدكتور محمد رضا حسن الدجيلي – 1405-1985- منشورات الخليج العربي بجامعة البصرة.
انتقال اللفافة” من سطيح إلى هند إلى الملكة أروى ، الحجة بعلم الباطن ، كان سر ملكها بما ورثته من علوم الأوائل وصولا إلى علوم زمانها، مما سهل لها القضاء على خصومها ومنافسيها بضرب بعضهم ببعض، ولو كان بقرب ” المفضل بن ابي البركات ” الذي أراد أن ينازعها المُلْك فانتزع منها حصن التعكر ، ثم وجدوه جثة هامدة في ” مدفن جهنم” “أكبر مدافن الحبوب الصخرية المنحوتة منذ القدم التابعة للحصن، وأكثرها اتساعا وجمالا، بعد أن انزوى فيه صامتا بجانب خزينة صخرية فارغة منحوتة في جدار المدفن، وقد غشيه ألم الخديعة وهذيان الخيبة والألم”ص45. ليصير ” شبح ابن أبي البركات ” طلسما من طلاسم ورموز وحكايات حصن التعكر :” عندما كان العمدة يُسْأل بإلحاح عن شبح ” ابن أبي البركات ” كان يرد ساخرا:
-لا وجود للأشباح ، ولا حتى للجن، إلاَّ في رؤوسكم !…”ص47.
عديدة هي الرموز التي تتكرر في العديد من الأمكنة اليمنية ، سواء مقامات لأولياء صالحين أو شخصيات أسطورية ، أو من الجان، فحكاية الولي (مُحُمَّد) أو حُمّد نجدها في جبل التعكر وفي تعز في الجهة الغربية من (جبل القاهر) لديه مكان منحوت في ضاحة الجبل بعمق يكفي لقليل من الزوار ربما ثلاثة أشخاص، والعلاقة بين الجن والضاحة في الجبال متلازمة-وقد عُرِف باسم (الشيخ محمد ) أو (حُمَّد) بحسب نطق أبناء المدينة القديمة ، وقد كانت النساء والأطفال يضعون فيه الشموع والعطور والند، وعُرِف كذلك بصفة (شيخ الجن) لكنه في جبل التعكر اسمه (الحاج محمد) وهو ولي من الأنقياء يسكن قرية ” ذي قلسن” التي اندثرت منذ زمن بعيد ، وهي قرية غير بعيدة عن قرية” ذي المجمرة” التي لم تكن قد بُنيت بعد. ومن حكاية هذا الولي يبدأ تدفق (جوهرة التعكر) وهي جوهرة حمراء اعطاها النبي محمد للحاج محمد ، حين التقاه في الحج، وعند عودته فتح هدية النبي قبل الموعد المحدد له ، فكان أن غشي عليه وسقطت ” الجوهرة من بين يديه متدحرجة إلى أسفل أحد مجاري السيول . وبعد ساعات مرَّ بعض الرعاة من ذلك المكان ، ولم يصدقوا ما شاهدته أعينهم …كان شيخا مسنا مرميا على الأرض مغشيا عليه تحت أقدام بغلة متهالكة ، لا تحمل فوق ظهرها أي شيء ، وعلى مسافة غير بعيدة كانت المياه تخرج صافية غزيرة من عين ماء لم يروها من قبل.” ص54.
ومن يومها أصبح ” الولي محمد” مزارا لطلاب البركة والشفاء ” ومازال بعض الأهالي ، وخاصة النساء يداومون على زيارته حتى اليوم، موقدين البخور وعيدان الند…”ص54.