- كتب: محمد ناجي أحمد
قراءة ثانية لـ(جوهرة التعكر)
كنت قد قدمت قراءة نقدية لهذه الرواية ، وقد توقفت عند عتبة الرواية ، وامتزاج المعقول واللامعقول فيها، وها أنا أعود إليها بقراءة ثانية لأتوقف عند:
المكان في رواية (جوهرة التعكر) يثير إحساسا بالانتماء المتجذر في التاريخ ، والمتحرك في الحاضر والصانع للمستقبل، وهو إحساس بالزمن كتجل من تجليات المكان وتمظهراته الجمالية.
المكان كامتصاص للأحداث والنبوءات ولعنة/نعمة الكشف للمستور. بدون المكان لا أحداث ، فهو الحامل للتاريخ اليمني ، بطموحات حكامه ومُعانات محكوميه ، سلطة السيف والكتاب في آن ، المعرفة والقوة.
بواقعه ورموزه ، وقراه ومدنه، المكان ، جبل التعكر وجوهرته التي تتدفق حياة وقرى على امتداد سفحه ، سيرورة التاريخ وديمومة المكان. المكان الذي نتخيله بمنظوراته السحرية أو نعيش قسوة وقائعه…
في هذه الرواية ( جوهرة التعكر) لمؤلفها همدان دماج، والصادرة بطبعتها الأولى عن دار أروقة ، عام 2017- نجد المكان ميدانا للأسطورة / النبوة الإطار ، ذات شقين ، إحداهما تتعلق بنبوءة سطيح السبئي/سطيح التعكر بحتمية الغزو” اعلم أنه لتهبطن أرضكم الحبش ، وليملكن ما بين أبين وجرش” وهي النبوة العابرة للأزمنة ، وزمانية متلقيها ، فهي تتحقق كلما وَهَن المكان بتناقضات الداخل، فتخرب الأسواق والسدود ، وتتحول المدرجات الزراعية إلى أرض يباب ، أو صخور عارية من تربتها، والسواحل والوديان إلى مرتع لقراصنة الاستعمار!
والمقولة النبوئية الثانية لسطيح السبئي/ سطيح التعكر تتعلق بانتقال مركز العمران والملك من اليمن إلى الحجاز ، حين حسم أمر عفة (هند بنت عتبة) عند لجوئها إليه وأبيها، ليقول قوله الفصل ببراءتها من تهمة زوجها( الفاكه بن المغيرة) لها بالزنا. وهند هي من قالت للنبي محمد حين طلب منها ومن نساء قريش بعد الفتح أن يبايعنه على ألا يزنين ولا يسرقنا ولا يقتلن أولادهن ،فقالت له : وهل تزني الحرة أو تسرق !
هنا يصبح شرط الملك العفة التي شهد بها سطيح لهند، وعبرت عنها باستفهامها الاستنكاري والنافي ” وهل تزني الحرة أو تسرق”.
لم يكتف سطيح ، الكاهن السبئي التعكري بأن يشهد لهند بالعفة وإنما تنبأ لها بأن تكون حاملا بيولوجيا لمُلْك العرب ودولتهم المرتجاة، تلك التي كانت وقع حوافرها كأمل ينتظر نبيا وكتابا…
وكأن نبوءة سطيح الكاهن السبئي التعكري و”لفافته ” التي سلمها لـ(هند) كان تمهيدا أو بشارة ، ترى مُلْك العرب مقترنا بموجهات النبوة، كونها جامع الملك واكتمال الدين ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”…
المكان في هذه الرواية، هو رحلة وكشف لثقافة المكان وأسراره، والعلاقة مع المكان ليست علاقة انتماء لإرث وتاريخ فحسب وإنما إعادة تخليق للمكان وتوليد للأحداث …
هناك مخيلة واسعة ولغة وصفية نشيطة في هذه الرواية . وتداخل بين الواقع والرمز والأسطورة.
لن نجد في هذه الرواية شخصيات ذات توجه أيديولوجي بشكل حاد وواضح، وكأن المكان هو الأيديولوجية المحورية والواضحة لهذه الرواية. ولماذا أقول “وكأنَّ” بل إن أيديولوجية هذه الرواية هي المكان بتحولاته الجمالية ووقائعه السياسية وأحداثه الطبيعية، أو بحسب مفهوم المكان لدى غاستون باشلار في كتابه ( جماليات المكان) ترجمة (غالب هلسا) والذي يشمل العلاقات الحسية التي تربط الإنسان بواقعه ، فهو مجسد أصيل لماضي الشخصية أصيل لماضي الشخصية من خلال الذاكرة التي تجد صداها الحقيقي في مدركات مادية ، كالغابة وبيت الطفولة وملاعب الصبا، هو في الوقت نفسه مترجم لأحلام الإنسان وأمنياته المقبلة.
وهو ما نجده في رواية (جوهرة التعكر)يتمثل بحصن التعكر ومائه وقرية المجمرة ودار البخور الخ.من هنا يصبح تاريخ حصن التعكر ومدافن الحبوب فيه وقراه ودوره وجوهرة مائه ، الخ – هو نداء ودفاع عن وحدة اليمن ، وبحسب باشلار : نداء من أجل إدامة الحياة. ولهذا فإن السارد الخارجي وهو يتحدث عن جبل التعكر ، يراه جغرافيا موازيا في قمته وارتفاعه لـ(جبل صبر) في تعز ز فجبل التعكر يطل على الطريق المؤدية إلى تعز وعدن وصنعاء…
إنها رواية /نداء من أجل ديمومة الحياة الوحدوية. فعتبة الرواية التي اقتبسها السارد في بداية الرواية ، عن سطيح التعكر ، لم تكن تخبرنا اعتباطا بغزو الأحباش كلما وهن المكان ، وإنما كانت تقول لنا إن الخراب والغزاة إذا حلوا باليمن فإن سائر الجسد اليمن سيعاني من ذلك ، فلا فرق بين “أبين” في الجنوب و”جرش” في منطقة عسير شمالا، في الحال والمآل!
المكان هو أيديولوجية هذه الرواية ، ولهذا نجد شخصياتها ليست ذات أيديولوجية عقائدية ، بل هي غير واضحة في أيديولوجيتها ، وهو ما نجده جليا في شخصية (العمدة)” النقيب محمد بن حمود قائد” ففي أيام الانتخابات يتجمع حوله الشباب بعد خروجهم من المسجد ممازحين له ، فقد ” كان العمدة يغير من انتمائه السياسي والحزبي بمزاجية وبسرعة ، كما يغير تبغ ” مداعته” وجد شباب القرية في هذه المسألة موضوعا جديدا للتندر ، …كانوا يجلسون حوله ، وقد أشعل سيجارة ، ويبدؤون ممازحته:
-أنت اشتراكي يا عمدة …أكيد !…
يهز العمدة رأسه نافيا ، ويضيف ، مكشرا :
-كلا …الاشتراكيون ملاعين…! كذابون …لا فائدة منهم أبدا…خِرَقٌ مبتلة …صدقوني !…يضحكون ولكي لا تفوت هذه الفرصة الثمينة لسماع راي العمدة في البقية يصرخ أحدهم:
يا جماعة العمدة من المؤتمر …رجل دولة…مش أي كلام…
يهز العمدة رأسه نافيا مرة أخرى، ويضيف وقد رفع حاجبيه مستنكرا:
-كلا …كلا…أصحاب المؤتمر ملاعين…سرق!…يعني لصوص!…عليك ان تحترس منهم دائما…يستطيعون أن يلتقطوا اللقمة من فمك بسرعة البرق!…
-إصلاحي إذا؟!… أخيرا يا عمدة رجعت إلى جادة الصواب !…
-إلى جا…ماذا ؟ المطاوعة ملاعين …خنازير …يعني نجاسة على نجاسة…يحقدون عليك وأنت جثة هامدة صدقوني!…”ص136-137.
المكان الخاص هو الحياة بحسب باشلار ، وهو بحسب الرواية “حصن التعكر” الذي تتسع جغرافيته إلى ما يطل عليه من أفق ومدى، فحصن التعكر يطل من ارتفاع ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر على شرايين طرق البريد والقوافل المسافرة شمالا إلى صنعاء وجنوبا إلى تعز وعدن.
حصن التعكر تكثيف مكاني لليمن الواحد بأفقه ، والممتد رأسيا في أعماق التاريخ.
إن رمزية الكاهن سطيح السبئي/التعكري الذي عاش طويلا تمثل أزمنة المكان ، والقدرة على تشكيله وتخليقه مرات عديدة ، تاركا آثار كفيه وأقدامه مطبوعة على صخوره، سطيح ذاكرة المكان ومستشرف الأحوال والأحداث والأزمان التي ستمر به ، يرى بأم بصيرته الأحباش في قادم العقود وهم “يقعون” بأرض تهامة ويملكون ما بين ” أبين وجرش” ثم يلفظهم المكان في عهد سيف بن ذي يزن، وصولا إلى الوحي المحمدي ، الذي رآه أبو سفيان ملكا ، وحين استدرك عليه العباس قائلا له إنه الدين ، فقال نعم! وكأن الملك لا تستقيم مداميكه إلاَّ بالدين ، وهنا أهمية استدراك العباس بن عبد المطلب وسرعة استجابة أبو سفيان لهذا التصحيح الاستدراكي!