- ريان الشيباني
في وقت ما من العام 2007 منحني جاري في الحارة بتعز تذكرة مجانية لحضور فعالية تنموية، قلبت الورقة المستطيلة قبل أن أدرك أنها محاضرة لمدرب التنمية البشرية الشهير إبراهيم الفقي.
بعد صلاة المغرب توجهت إلى قاعة نادي التعاون، كانت ممتلئة بملتحين واصحاب ربطات عنق وأسر حالمة سعيدة.
أضيئت القاعة المغلقة وأعتمت المنصة إلا من شاشة تلفزيونية وأريكة سلطت عليها دائرة من الضوء.. هناك جلس إبراهيم الفقي، بجسده الضئيل، وهندامه الرسمي، وتسريحته المخيطة بشعرات جانبية بيضاء، ويغطي فمه بكف مرتخية.
سردت الشاشة التلفزيونية، سيرة ذاتية؛ لسوبر مان بشري، بنى حياته على وهم مقدرته الخارقة على تحويل البشر إلى مكائن ATM.
لقد كانت ربع ساعة، استطاع فيها رجل واحد، إقناعنا بحل نصف مآزق البشرية، من خلال استعراض فيديو حفلات عشاءاته الدبلوماسية، في كل من نيويورك والقاهرة وعمان وسويسرا.
أصبت بالرجفة. لا شك أنني علقت في فعالية خاصة برجال المال والأعمال؛ أنا الشاب الذي يرتدي قميصا تبقعه دوائر سخام مطبخ العمل، وحصى يقذفها العقب الطويل لشنبل أبو حمامة إلى جيوب البنطال.
آلت الشاشة التلفزيونية إلى خفوت بطيء، فتحركت بقعة الضوء، مع توثب رجل الأريكة وقد أنهى الجزء الأول من مسرحية إعتقد أنه نجح بها في السيطرة على عقول الناس، بتكريس كونه شخصا نافذا.
كان يقف في منتصف المنصة عندما أعيد إعتام القاعة. وضع كفه على ناصيته لتمعن الجمهور، وسأل: من منكم مستعد لأن يقف مكاني هنا؟
سادت لحظة إطراق، سمحت له بالمناورة أكثر: هل تشعرون بالخجل؟ ليرفع يده كل من ينتابه هذا الشعور.
أرتفعت في الظلام أيادي مرتجفة مثل حقل ذرة دنا بحمولته. أعاد الرجل تمعن الحاضرين ليتأكد من أنه لا يوجد من يتحداه، وقال: هل تدرون؟ أنتم لستم خجلى. هل أثبت لكم ذلك؟
ظن البعض أنه سيستدعيهم إلى المنصة فاسبلوا أذرعتهم، لكنه بدلا من ذلك واصل حديثه: الشخص الخجول لا يمتلك القوة لرفع يده.
هكذا بظرف أقل من دقيقة، عالج الرجل واحدة من أكثر المواضيع اشكالا في تاريخ علم النفس.
يخلص كتاب الخجل لروي كروزير الواقع في 432 صفحة الصادر عن سلسلة عالم المعرفة إلى احتمالية أن يكون الخجل شأنا نفسيا سويا. وكل الدراسات التي أقتربت من الموضوع على أنه مرض، أخفقت في فصل المكتسب عن الذاتي فيه.
وتطرح الكثير من التداخلات العرضية بين هذا الشكل النفسي وأمراض أخرى كالرهاب، تساؤلات حول ماهيته. وعمق هذا الاخفاق من التباينات حول طبيعة علاجه هل يكون سلوكيا أم بالعقاقير؟
كنت ولازلت عندما أرى إبراهيم الفقي، في التلفاز، أتيقن فيه مريضا نفسيا، يحاول بالحركة اللامتسقة ليديه، وبالإجالة المتسارعة لعينيه وإغماضهما، أن يثبت عكس ذلك.
لكن لا يمكن أن أغمطه شجاعته، وقد استطاع إيهام الناس، بدأب، وهشاشة الروح التي تفتقر للموهبة، أنهم هم المرضى، وليس هو.
في بداية فبراير 2012 توفى الفقي حرقا في شقة بالقاهرة، وأسدلت نهايته الستار عن فصلا سودادويا لملهاة علم الخلاص الناجز. لكن كيف لكل هذه السخافات وقد أصبحت تحكم قبضتها على العالم، أن تتركنا نعيش بسلام؟
التنمية البشرية هي شعوذة هذا العصر، هكذا اتفق لي وصديق أن نعرف الأمر، حيث بإمكان العلمانية أن تلتقي أعتباطا بالتطرف الديني، دون أن تكون هناك حاجة لافتعال شجار.
لقد أوجدت الحاجة المعيشية الملحة، عقيدة مشتركة للناس، وأملا دائما بالعمل، دون الحاجة لاستجداء السماء، أو وضع الخبرة والموهبة، محل نظر.
ثم ماذا؟
أتى هؤلاء، أنصاف اللاهوتيين، للتبشير بالثراء السريع الأقل كلفة ودأبا، فكيف يتم ذلك؟
وعود جوفاء بعالم نفسي مثالي يتم استجلابه بجملة عموميات، وجلسات نيرفانا قصيرة تجبرك على السلوك مسلكا تلفيقيا في شخصيتك والاكتفاء بترديد آمالك بمتوالية تشبه تسابيح الانتهاء من الصلاة، وستأتي بعد ذلك الحياة طوعا..
غير أن الكثيرين من معتنقي هذا الفكر، والمتدينين منهم، لا يمكن أن يقتنعوا بالعالم باعتباره إرادة محضة، إلا بهذه الصيغة الكسولة من العيش والمشبعة بالوعود.
وآخر شيء يمكن الحديث عنه بشأن هذا العلم السبهلل هو التخصص، وحتى يستطيع المدرب أن يضبط إيقاع وجوده الفارغ، ليناسب الذوقية العامة المتفاوتة، فلا هو بالواعظ الديني، ولا هو الكوميديان شو، ولا المتخصص النفسي. إنه كل شيء، كل شيء بشأن نفسه. نفسه فقط.
لقد سيطر الفلاسفة الارادويين، وهم أكثر عمقا ودراية، على فكر ما قبل الحربين العالميتين، ونسب إلى القادة الذين أعتنقوا أفكارهم المسؤولية عن الدمار الذي حاق بالعالم.
وبتأمل المآلات الفردية لهؤلاء ومفكريهم، يمكن فهم زاوية، ولو ضيقة من الحقيقية.