- كتب: ضياف البراق
التقينا اليومَ من جديد، بعد غيابٍ جاوز الشهر، تعانقنا ثُمَّ جلسنا على حصير الحزن نفسه، أراحني ببعض تنكيتاته الجديدة الطريفة، فضحكنا كثيرًا، وهذه عادتنا في كل لقاء. بعدها سألته عن أُوْلى محاولاته الشعرية، فقال بروحٍ ساخرة، خفيفة الظل: كنتُ في سن العاشرة، تقريبًا، وأذكر حينها أنني بدأتُ جنوني الشعري بهذه المحاولة التي قد تصير يومًا قصيدة:
عندما قلتُ لكِ: أحبكِ،
صاح المؤذِّن: الله أكبر، الله أكبر..
وعن اليأس، قال لي باختزالٍ عميق: هو الوقوف عند نقطة سوداء!
أمّا عن الحب، فقد أجابني بقفزةٍ شعرية مدهشة:
المحبة سمكة
لا تموت
لو خرجتْ من البحر!
وهو القائل أيضًا:
فكّرتُ بكذبةٍ لا تضر أحدًا،
فقلتُ: أنا بخير!
أول شيء عرفه في حياته، قبل الشِعر، بل وقبل أن يعرف نفسه، هو الحزن. ها هو يسرد جزءًا صغيرًا من قصته الطويلة مع الحزن:
عندما كان صغيرًا،
كان يذهب إلى المرآة كلما شعر بالحزن،
يقف أمامها ويبكي.
كان يحب مراقبة دموعه.
وعندما كَبُرَ،
كان يذهب إلى المِرآة كلما شعر بالحزن،
يقف أمامها
فتبكي المرايا!
إني هنا أكتب عن صديقي الحداثي الموهوب، أوراس الإرياني: هذا الثلاثيني المتمرد الذي صقلتْهُ حياتُه القاسية منذُ صغره – صقلته شاعرًا وإنسانًا معًا. وهو بالطبع من أنقى المثقفين اليساريين الذين منذُ عرفتُهم، فتنتني أرواحهم الحزينة الشفّافة، الواسعة الجمال، البسيطة في كل الظروف. ثُمّ إنه لا يحب التنظير، يكتب لكي يعيش فقط، ساخر النزعة رغم كل شيء، تمامًا مثلما عاش الشاعر السوري الكبير، محمد الماغوط. ومع ذلك، هو لا يقلِّد شخصية الماغوط، ولا يتطفّل، شِعريًا، على أسلوب غيره. باختصار، أوراس ليس من مثيلٍ له سوى ذاته هو. إنه عالَمٌ جماليٌّ لوحده.
أشعلَ سيجارته المتواضعة، جَرَّ من صميم جوفها نَفَسًا عميقًا، نفثه في وجهي، بكل ثقة، ثُمّ قرأ لي نَصًّا ساحرًا – بالتأكيد، هو من أجمل نصوص هذا الماغوطي اليمني المُدهِش – يقول:
من أجل الطريقة التي أخفيتُ بها الدموع،
قلبتُ الطاولة ونسيتُ أوقات الكتابة.
من أجل الطريقة التي أحببتُ بها الناس،
دافعتُ عن نفسي.
من أجل الطريقة التي فَرَّقتْ حروفَ اسمي،
كلّمتْ نفسيَ، وابتسمتُ.
من أجل الطريقة التي تمنّتْ بها امرأةٌ وقْفَ الحرب،
تبرّعتُ بظلي، وحملتُ أطفالَ الريح.
من أجل الطريقة التي جعلتني أحبكِ،
جلستُ على عيني.
من أجل الطريقة التي أكل بها الحزنُ قلبي،
تذكّرتُ البحر.
من أجل كل شيء جميل،
ذابَ الجدار.
انتهى من قراءة النص، مُبتسِمًا من قلبه. صوته هادئ، عذب. إنه يقرأ مثلما يكتب، أعني دون أيّ تكلُّف. خجول جدًا أمام المديح. سألتُهُ على الفور: هل هناك فَرْق بين أوراس الشاعر وأوراس الإنسان؟ قال: أنا لا أتجزّأ أبدًا، كالمحبة بالضبط.
سأتركه الآن يمسح دموع قلبه بدموع كلماته، لاعنًا الحرب بطريقته الإدهاشية الخاصة:
تعالي نُراقِص أحلامنا،
أقدارنا،
لا أسئلة اليومَ،
لا نوافذ،
فكل من حولنا ضائع!
قبل قليل، مات أحدهم.
وبعد قليل، يموت أحدهم.
هكذا تنام الشوارع!
كان عمري ثلاث سنوات،
عندما قتلتْ الحربُ الكثيرَ من الناس.
وعندما بلغتُ الثلاثين،
صارتْ الحديقةُ مقبرة.
استمري بالرقص،
هناك أغانٍ لا أفهم معنى كلماتها،
لكني أحبها.
هكذا ينام قلبي!
أطرح عليه سؤالًا آخرَ، فتجيء إجابته بهذه البساطة المرعبة:
أغلَقوا علينا جميعَ الأبواب
حتى لو رسمتُ بابًا مفتوحًا
يأتي رسامهم ويغلقه!
إنها الحرب التي تعصف بحياته طول العمر، بل تعصف بكل شيء من حوله، لكنه على الدوام يهزمها بقصيدته الساخرة العميقة.
شخصيًا، أنا من أشد المُعجبين بقصيدة النثر التي يكتبها هذا المجنون الواسع الأكثر من جميل. حقيقةً، جميع الذين يعرفونه، يحبونه كثيرًا، شاعرًا وساخرًا. تنكيتاته اليومية القصيرة الساخرة، الفيسبوكية، أخّاذة وهادفة، طبعًا، ولذلك تحظى بشهرة واسعة. نُشِرَتْ له قصائد معدودة في بعض الصحف المحلية، في السنوات الماضية، وأخرى تم نشرها في المواقع الرقمية التي تُعنى بالشعر والأدب، إلى جانب قصائده التي ينشرها هو، بين وقتٍ وآخر، على صفحة حسابه الأزرق. غالبًا، هو كسول بعض الشيء، ولا يلهث وراء الأضواء، كما أن مشاكل البلاد المتزايدة مع الوقت، هي التي تشغله عن تجهيز مجموعته الشعرية الأولى للطباعة ومن ثم إخراجها إلى ساحة النور. لكنه، بحسب قوله، يعمل حاليًا على تجهيزها ولو على نحو بطيء.
مأساة هذا الشاعر الحالم، الواقف مفتوحَ الصدر في مهب الريح العصوف، مأساته الحقيقية أنه يريد إسعاد كل الناس، ويحلُم بحياة مفتوحة نظيفة من الأشباح، بينما أقدام قلبه معلّقة على شفير هاوية ليس لها عيون. أخيرًا، سأتركه يطرد فوضاه من جميع أعماقه، ويتمرّد حتى على التمرُّد نفسه:
الوجوه تنتظر المرايا،
والأحذية تتعرّى في نشرة الأخبار.
عاقل الحارة زوّجَ ابنته على أمام الجامع.
القلق يُشبهِ جاري.
الماء يلعب القمار.
التعب مع البرتقال سر رشاقة جدتي.
الثواني حكايات خبأتها أمي.
الأمل قطة عمياء.
الحياة نظارة اِنكسرت.
الحزن حكايات كثيرة لم نسمع عنها
لكننا نراها ..
الهواء رصاصة.
المدرسة عنكبوت مقلوب.
الأصدقاء ذاكرة تحت العين.
الخوف قرية صغيرة توزع
الماء.
البحر وسادة تحت رأسي .
الحقيقة اِبتسامة في الظلام.
المحبة نملة تحت الباب.
- ضياف البَرَّاق