- ضياف البراق
تقدّم الطفل المحتاج بمظهره الباعث على الوجع، نحو السيارة الحديثة الفارهة وطلب من صاحبها المساعدة البسيطة، فردَّ عليه بتكبُّرٍ شاعريّ مقرف: على الله يا ابني. عندها مباشرةً، احترم الطفل المحتاج نفسه وانطلقَ، مُنكسِرَ القلب، نحو سيارة أخرى فارهة أيضًا، فتكرر هنا الرد السابق بحذافيره: على الله يا ابني. وبعد هاتين الطعنتين، واصل الطفل المجروح حركته المُنكسِرة بين زحام السيارات حتى غاب تمامًا عن نظري. غير أن هذا الطفل المنهوك بمتاعب الحياة لم يفهم أبدًا أن عبارة “على الله” ليست سوى نذالة تُمارَس عادةً إزاء هموم المحتاجين، في جميع شوارع وأسواق هذه البلاد القاسية فقط على الناس الطيبين.
عمومًا، شعرتُ بألمٍ شديد كاد يفطر قلبي، وفي الوقت ذاته شاهدتُ امرأة مُسِنّة حالتها تبعث على الحسرة الشديدة، راحت تقترب من سيارة فاخرة تطلب المساعدة من صاحبها، فجاءها الرد سريعًا: على الله يا خالة (طبعًا، قالها بصورةٍ مُتكبِّرة فجة!). ولكن هذه المرأة المسكينة لم تنكسر أمام هذا الرد العبثي القاسي، لأنّ الزمان قد كسرها بما فيه الكفاية، ولهذا استدارت قليلًا إلى الوراء ثُمَّ راحت تمشي بخطى منهوكة نحو سيارة من طراز آخر، وقد لا تحصل هذه المرة أيضًا على أي شيء آخر سوى “الله كريم”، إذ هكذا جرت العادة. ويوم أمس، وقت الظهيرة، سيدخل رجل عجوز، شديد الحاجة، إلى صالة المطعم الضخم؛ طالبًا وجبة بسيطة يسد بها جوعه، وبكل التأكيد سيقول له مدير المطعم الوقح: على الله يا حاج!
وبسبب هذه الحرب القذرة المعادية لكرامة الإنسان، السالبة لجميع حقوقه وحرياته، زاد استخدام عبارة (على الله) بشكلٍ مأساوي مخيف، وكم من ناس محتاجين يموتون، اليومَ، جوعًا في الشوارع!
وغالبًا، حينما يذهب إنسان محتاج إلى محل تجاري، أو مؤسسة خيرية، أو بقالة.. لطلب المساعدة أو الإنقاذ البسيط، فبلا شك يُقال له فورًا: على الله يا أخ، أو يا عم، أو يا أخت، ونحو ذلك. وكذلك حينما ينهض المصلون استعدادًا لمغادرة المسجد، بعد إتمام صلاة الجمعة، فإنّ الأغنياء من هؤلاء لا يكترثون أبدًا بتوسُّلات المحتاجين المنتظرين لهم خارج البوابة، وإنما تراهم يعبرون من أمامهم بكل غرور، قائلين لهم بسخرية عسلية معتادة: على الله، أو الله كريم، أو يعطينا الله ويعطيكم. وهات يا على الله، وهات يا سخرية من كلام هؤلاء المحتاجين. أجل، المال دائمًا يصنع الوحوش والأنذال، وهؤلاء بالطبع يكسرون كم من قلوبٍ طيبة.. وكم يهينون من نفوسٍ عزيزة. ما أقذرك أيها المال!
وجميع هذه العبارات الشاعرية المظهر، الهروبية أو الاستهزائية المعنى، (أي عِبارات: على الله، الله كريم، وغيرها) تُردَّد كل يوم على مسامع المحتاجين في الشوارع، وفي كل مكان، وهكذا تُصبح مجرد سخرية موجِعة من معاناة المساكين. تلك العبارات السالفة الذكر إنما هي مجرد كليشيهات سامّة أو كذّابة، أو قل عنها ما شئت، يستخدمها عديمو الخير من الرأسماليين، أو عديمو الضمير من المرتاحين ماديًا؛ بغرض الإفلات من أيدي المحتاجين في الشارع أو في أي مكان آخر. إنها عبارات كريهة كثيرًا بالنسبة لي؛ لأنها تسخر من الله ومن المحتاج في آن واحد. إنها مُضحِكة أيضًا. يا أخي، يجيء المحتاج إليك لتساعده وليس لتقول له: على الله، أو ربنا يعطيك.. فإن كُنتَ تؤمن بالله حقًا، فعليك إذَنْ التزام الصدق والعطاء مع معاناة أخيك الإنسان، دون شروط أو (على الله). إنّ الهمجي هو الذي يتكبّر على جراح أخيه الإنسان بهذه الطريقة أو بغيرها. والهمجي هو الذي يركل يد المحتاج أو يتطاول على مآسيه، ومن ثم يذهب إلى الصلاة، أو يتكلم عن الخير، أو عن الإنسانية في شاشات الإعلام… إلخ. والهمجي هو الذي يكدّس الأموال في الخزانات والصناديق والحسابات البنكية، بينما هناك من لا يجد لقمة العيش وهو يرى ذلك بنفسه، أو يعلم بحالته السيئة ولا يساعده. صلّوا لكرامة الإنسان، كافحوا من أجلها، لا تتكبّروا عليها، هكذا يُعبَد الله حقًا. وأخيرًا، هذا ما قاله الإنسان العظيم الشاعر أُنسي الحاج:” الانسحاق أمام الله في المعبد والتكبُّر على أخيك في الشارع؟ تملُّق الجبان.”. إنه كلام صادق جدًا.