- حسن عبدالوارث
كلما أطلَّت ذكرى الثورة أو الاستقلال أو الوحدة ، أنبرت الأقلام
وانعقدت الندوات للحديث عن أهمية كتابة تاريخنا الوطني وخطورة تدوينه
وتوثيقه من قبل غير العارفين به أو غير المختصين فيه أو المشكوك في نواياهم تجاهه وبالضدّ من ملامحه وتفاصيله وحقائقه .
ففي البلاد والمجتمعات
المتخلّفة – واليمن احداها ولا فخر ! – تغدو الصورة في هذا المضمار أكثر
حلكة من ليل الزنزانة . فكل امرىء – وكل كتاب أو مقال – يدَّعي وصلاً
بالحقيقة ، بل يدَّعي احتكارها ، وهي منه براء ، براءة الذئب من دم يوسف
والحوت من دم يونس وكاتب هذه السطور من دماء ضحايا 21 سبتمبر و26 مارس .
ولعلّ التاريخ هو القضية الأكثر اقلاقاً وارهاقاً للمثقف في أيّ زمان
ومكان . وفي اليمن يكون المشهد أكثر جسامة والرؤية أحلك قتامة . فليس ثمة
أكثر من الكتب والمطبوعات والأضابير التي زعمت تأريخاً أو تدويناً أو
تأليفاً أو توثيقاً ، فاذا برائحة الزيف تفوح من ثناياها ، حينها أو بعد
حين .
وأخشى كثيراً أن تظل تأتي أجيال وراء أجيال ، فتأخذ بما في تلك
الكتب والمطبوعات والأضابير كمراجع وثيقة الصلة ومصادر عميقة البذرة لبعض
أو جُل وقائع الثورات والحركات السياسية والفكرية والشعبية اليمنية
والأحداث الساخنة والتحولات الكبرى في مسار تاريخنا الحديث والمعاصر ناهيك
عن قديمه والوسيط .
…
ان كثيراً من الأحداث والوقائع
والأشخاص والأيام المتصلة بسيرة الثورة والدولة ( في 1948 أو 1955 أو 1962
أو 1963 أو 1967 ) لازالت طيّ الزيف والطمس أو قيد التشويه والتشويش أو رهن المبالغة أو المكايدة أو الغرضية . وقد صمت أهل الحق طويلاً ، فتطاول أهل
الباطل في هذا الأمر !
لقد دهشتُ كثيراً – على سبيل المثال فقط –
لقراءتي وسماعي روايات هنا وهناك تُشكّك في صحة حقائق ووقائع وثَّقها
التاريخ عن انقلاب المقدم أحمد يحيى الثلايا في ربيع 1955 أو صحة المقولة
الشهيرة المنسوبة اليه في مخاطبته الجمهور الذي حضر لحظة محاكمته من قبل
الامام أحمد !
كما دهشتُ أيضاً – وعلى سبيل المثال أيضاً – لقراءتي
وسماعي روايات متناثرة ومتداولة تدحض واقعة تاريخية متصلة بمحاولة اغتيال
الامام أحمد في مستشفى الحديدة في ربيع العام 1961 من قبل الضابط محمد
عبدالله العلفي وزميليه عبدالله اللُقيَّة ومحسن الهندوانة ، وما اذا كان
العلفي أستشهد في مكان الواقعة أم أنتحر في داره !
وقومي لايزالون
مختلفين حول سرّ حادثة – أو جريمة – طائرة الديبلوماسيين الشهيرة في 30
ابريل 1973 . والخلاف قائم بل ومُحتدم حول أحداث أخرى وعن أشخاص آخرين في
سيرة الثورتين والدولتين التي شهدهما الشطران قبل الوحدة ، وحول أحداث
وأشخاص بعدها ، والأمثلة عديدة وتفاصيلها مديدة .
وفي روايات التاريخ
اليمني – والتاريخ السياسي على وجه الخصوص – الصواب الحميم في رواية خطأ
جسيم في رواية أخرى ، والبطل الصنديد في حكاية خائن رعديد في أخرى ،
والثورة مجرد انقلاب عند هؤلاء ، والحركة الجذرية محض صُدفة عند أولئك .
و … ” يا قافلة عاد المراحل طوال وعاد وجه الليل عابس ” !
…
ان اشكالية كتابة وتدوين وتوثيق تاريخ الحركة الوطنية والثورية اليمنية
وتنقيته من شوائبه العابرة والغائرة ، ليست قرينة زمن مضى ، بعُد أم قرُب ، انما هي اشكالية حاضرة في هذه اللحظة قدر حضورها الماضي ، بالحالة ذاتها
والملامح نفسها وللأسباب والدوافع التي كانت منذ البدء ولاتزال الى اليوم .
حتى الحدث التاريخي الكبير ( 22 مايو 1990 ) لايزال يرزح تحت وطأة الكثير
من الخبايا والخفايا والأسرار والأخبار المتضادّة بصدد وقائعه وشخوصه
ووثائقه التي تتلوّى بين حقائق وأكاذيب شتى ومتداخلة ببعضها بعضاً ، أو بين سطوع وخفوت وهزال في الرأي والرؤية والموقف من الحدث نفسه !
وسنأتي
الى انقلاب 21 سبتمبر 2014 وعدوان 26 مارس 2015 وما تلاهما من المياه
الساخنة والملوثة والدماء الغزيرة التي جرت تحت جسر البلاد وحزن العباد .
وحتماً ستنجلي – غداً أو بعد غد – الكثير من الحقائق والوثائق ، وسيغدو
جميع الخونة أبطالاً وطنيين ، أو جميع الأبطال خونة وسفلة . فلا تندهش
حينها البتة ، لأن تاريخ اليمن واليمنيين عوَّدَنا أن نُحجِم عن الدهشة ،
فهو تاريخ ساخر بكل معنى الكلمة وبكل سوادها وخُبثها . ولازلت أتذكّر مقولة ذلك المُحلّل السياسي البريطاني من اذاعة BBC في تلك الليلة البعيدة : ”
ان لليمن تاريخاً لا يمكن التنبوء بماضيه ! ” .. لا يمكن التنبوء بماضيه ،
وليس بمستقبله ، يا سادة !
وفي ركن قصيّ من المشهد الدميم ذاته ، ستظل
ماثلة قُبالة وعيي والوجدان عبارة كتبتها صديقتي وزميلتي الأديبة بشرى
المقطري في مقدمة كتابها ( ماذا تركت وراءك ؟ ) : ” لا شيءَ حقيقياً في هذه الحرب سوى الضحايا ” .
…
ان أكبر وأحقر جريمة في تاريخ اليمن واليمنيين هي كتاب التاريخ !