- حسن عبدالوارث
كنتُ أُحبُّ أن أصفَها بالمرأة الحديدية الحريرية ، فهي تجمع بين جسارة
العمل والنشاط والموقف ، و رقَّة الأنوثة ونعومتها روحاً ومظهراً . وكنتُ
أحياناً أصفها بآنسة الصحافة اليمنية والخليجية ، فهي أول خريجة جامعية في
مجال الصحافة والاعلام بين كل الفتيات الخريجات في عموم اليمن والجزيرة
والخليج .
هي صديقتي وزميلتي ورفيقتي رضية شمشير واجِد . بنت مدينة عدن القديمة ( كريتر ) التي أخذت من جبلها بركانه ، ومن بحرها هيجانه ، ومن
سوقها بخوره وريحانه ، ومن تاريخها هلاله وصُلبانه . فهي بحق ترجمة أصيلة
لهوية عدن ، منذ أن كانت هذه المدينة وكان أهلها .. المدينة القديمة والأهل الأوائل .
عرفتُ رضية شمشير كادراً لا يُدانى في مضمار العشق المهني
الذي يفنى صاحبه في معشوقه ويتَّقد على جمرة الاخلاص من دون أن ينتظر أدنى
مقابل . وفي الصحف والمجلات التي عملت فيها رضية لم تكن مجرد رقم مُضاف الى قوام أسرة التحرير ، بقدر ما كانت ترساً رئيساً في مُحرِّكها ، انْ لم تكن قلب المحرك نفسه في بعض الأحيان .
ولا يزال كثيرون من زملائها
القدامى في صحيفة ” الثوري ” يتذكَّرون كيف كانت تطوي ثنايا الليل معهم
لاصدار هذا العدد المتميز أو ذاك الاصدار الاستثنائي المرتبط بحدث وطني
كبير ، بل كيف كانت تتهاوى خائرة القوى في بعض الليالي من شدة الارهاق !
وبعد هذه العقود من الاخلاص لهذه المهنة والتفاني في مزاولتها على قواعد
الدقة والموضوعية والابداع والأخلاق – التي باتت من القيم النادرة اليوم – لم تنل رضية غير الزَبَد ، أ كان على الصعيد الصحي أو المعيشي أو الوظيفي .
أما في نطاق النشاط العام ( السياسي والاجتماعي والثقافي ) فقد ظلت بنت
شمشير تتحلى بصفة المناضلة بكل ما تحمله هذه الصفة من المعاني والدلالات ،
منذ أن كانت تلميذة في أجمل فترة من عمر الورود ، تشقّ صفوف التظاهرات
الطلابية – كواحدة من سنابل جبهة التحرير – دعماً لثورة بلدها وشعبها ضد
المحتل الأجنبي . فقد تشرَّبت شهد النضال واكتوت بناره في الوقت نفسه ،
عندما كان للنضال معنى حقيقي ودلالة ساطعة ، وحين كان النضال يعني للمناضل
أن يعطي ولا يفكر البتة بأن يأخذ ، وأن يضحي بل ويتفانى في التضحية من دون
أن ينتظر جزاءً ولا شكورا .
كانت رضية من هذا الصنف من المناضلين ، أ
كان هذا النضال في صفوف التنظيم السياسي الذي انتسبت اليه في وقت مبكر من
عمرها : حزب باذيب العظيم ، ثم الحزب الاشتراكي الذي غدر بها ذات نهار
رمادي وموقف سوادي .. أو في حقل الكيانات النقابية والجماهيرية ومؤسسات
المجتمع المدني التي كانت رضية من أبرز مؤسسيها وأكفأ ناشطيها وأشرف
قيادييها ، وعلى وجه الخصوص : نقابة الصحافيين واتحاد النساء .
والمؤسف له أن هذه الشمشيرية لم تنل يوماً حقها من التكريم ولا حظها من التوقير
وهي المرأة الرائدة في غير مجال وميدان ، أ كان على صعيد وطنها أو حتى
مدينتها .. ويحدث هذا – ويا للأسف – في زمنٍ وفي يمنٍ وفي عدنٍ صارت فيه
بعض بل معظم الناشطات النسويات أكثر حماسة لاعادة نساء عدن واليمن الى عصر
الحريم ، وجعل الحرملك وجهة متقدمة في المشهد النسوي السائد ، فعلاً لا
قولاً !
ان كثيرين يعرفون رضية الصورة ، لا رضية السيرة ، ومن عرفها عن كثب سيعرف عنها صفات حميدة للغاية اتَّصفت بها هذه المرأة الحديدية
الحريرية التي حرمت نفسها من الارتباط برجل في مؤسسة الزواج ، لأن لا رجل
يستطيع احتمال هذه الكتلة الجبارة من العمل وهذه الديمومة المدرارة من
النشاط التي تستمر على مدار الساعة ، برغم أنها نجحت نجاحاً باهراً في
تكوين أُسرة نموذجية بمعنى الكلمة وكانت جناحاً ناعماً ودافئاً وقوياً
لأشقائها وشقيقاتها ، عدا مواقفها المشهودة في مدِّ أيدي العون والرعاية
لعديد من الأجيال الناشئة من الجنسين على مبدأ : اعملْ الخير ، وارمهِ
للبحر . ولعَمْري أن بحر صيرة يزخر بكثير من الأسماك الانسانية والخيرية
التي تحمل اسم رضية ، وهو نوع من الأسماك صار نادراً في بحار اليمن التي
غزتْها حيتان القرش !
عن أيّة رضية أتحدث ؟ . عن كلّ رضية أتحدث .
فاسمحوا لي أن أصمت قليلاً . فقد عاشت رضية مؤخراً في كهف الصمت وأصبحت
تأنس اليه ، في ظل تجاهُل الأنذال لأمثال هذه الآنسة المِثال .
عفواً
صديقتي ، فلا أملك غير هذا القليل من الحبر المنقوع بعصارة الحب أسفحه في
حضرتك ، فانهضي الينا محبّيك يا بنت شمشير ، فيكفيني أنني خسرت مؤخراً حامد جامع ، رفيقك وصديقي الكريتري الأنبل .. فلا أريد أن أخسرك اليوم يا
صديقتي الكريترية الأجمل .