- حسن عبدالوارث
يتطلّع الشعب السوداني الجميل ، اليوم ، الى ازالة غبار القهر وركام التخلف عن حياته المُثقلة بهما منذ ثلاثة عقود ، حين أنقلبت الجبهة القومية
الاسلامية على تاريخ عريق من التحضُّر والمدنية الاجتماعية والسياسية
والفكرية ، واستولت على السلطة في ذلك البلد المترامي الأطراف ، الأخضر
الجاف ، الكريم المضياف .
وفي هذه اللحظة تمنَّيت لو عادت عجلة الزمن
عشر سنين الى الوراء ، يوم رحيل الأديب الكبير الطيب صالح ، ليعيش مع أهله
هذا المشهد التاريخي ، وهو الذي مات مقهوراً من ممارسات هذا النظام ، وربما رحل فاقداً الأمل في أن يستعيد بلده حريته ويعود لشعبه ألقه في وقت قريب .
أتذكَّر في العام 1996 أن جلاوزة ذلك النظام الجاهلي المتغطرس أصدر قراراً بمنع التعاطي مع رواية الطيب صالح الخالدة ” موسم الهجرة الى الشمال ” في
المدارس والجامعات السودانية ، بدعوى أنها ” مُخِلَّة بالآداب وتسخر من
القِيَم ” بعد ثلاثين عاماً بالضبط على صدورها في العام 1966.
وأذكر أن الأديب الكبير لم يجد يومها وللوهلة الأولى ما يُعلِّق به على هذا القرار
المأزوم سوى عبارة واحدة : ” أنا مندهش وحزين ” ! . ولم يكن الطيب صالح
وحده مندهشاً وحزيناً حينها ، انما كانت هذه حال جميع الأدباء بل والقراء
أيضاً . فالرواية ظلت مثار اعجاب كل من قرأها ومحل تقدير كل من تناولها
بالنقد أو الدرس . وهي احدى بضعة أعمال روائية عربية تشكل اليوم أبرز ملامح التفوق الفني والموضوعي في مسار الأدب العربي الحديث والمعاصر اجمالاً وفن السرد على وجه الخصوص ، بل أُعتُبرت واحدة من أهم مائة رواية عربية صدرت
حتى الآن . وقد تُرجمت الى أكثر من عشرين لغة ، وتقرَّر تدريسها في أعرق
الجامعات العربية ، وأُنجِز حولها عديد من الأطروحات العلمية لنيل شهادتَي
الماجستير والدكتوراه .، عدا مئات الدراسات والكتابات النقدية التي حُرِّرت بشأنها .
وهو الأمر نفسه الذي حدث مع رواية الأديب اليمني الراحل محمد أحمد عبدالولي ” صنعاء مدينة مفتوحة ” في العام 2000 فدهاقنة الجاهلية
الجديدة ينهلون من مستنقع واحد . وهم لا يفقهون أن هذه ” التهمة ” برغم
أنها سهلة النطق وسريعة الانطلاق ، وأن التكفير والتخوين والترهيب والوصم
بالاباحية والاخلاق بالآداب والسخرية من القيم والأخلاق هي من فئات العملة
الرائجة لدى شيوخ التجهيل ، الاَّ أن تجليات العقل ومُخرجات العلم في هذا
العصر تُحيلها ببساطة الى عملة تالفة .
ففي هذا العصر – عصر الثورة
الاتصالية والمعرفية والتقنية الكونية الكبرى – يصبح مجرد التفكير بمصادرة
كتاب أو حجب فكرة أو حظر معلومة ضرباً من الحماقة الخارقة . فالكتاب
والفكرة والمعلومة سيتوافر لها ألف طريقة بألف وسيلة للوصول الى يد وعين
القارىء والمتلقّي . فلم تعد ثمة موانع قادرة على سدِّ منافذ المعرفة ، في
ظل هذا الانفجار المعلوماتي التواصلي الجبار ، غير أن دُعاة الجاهلية
الجديدة لا زالوا يمتطون الناقة ويمتشقون السيف ويفترشون الوبر ويتعاطون
مفاهيم الوأد والفضيحة والعار ، فيما هم عار القرن الماضي والقرن المقبل
على السواء .
فهل يشهد السودان الجليل وشعبه الجميل قريباً موسم الهجرة الى الحرية ؟