- محمود ياسين
هل انني أتخاطر مع ركني في صنعاء حقا ؟
ألم تعد الأمكنة بمقاس وجودي كما هو حال صنعاء وقد استبقت لي قطعة منها هناك وخاطتني بمراس في ركن منها ؟
المدن تعاقبك وتكافؤك أيضا، طالما بقيت تجوب شوارعها بسيكلوجيا فوينتس وهو يغمغم : تغادر بيتك فتبدأ التوغل في أرض الأعداء، ستحددك المدينة كهدف عاطفي وتضايقك ولن تمنحك رائحتها إلا لحظة إدراكك الانساني لكونها المدينة التي منحتك شخصية ودورا ووظيفة ومداخل وصحبا جديدة وأصدقاء لربما يكونون العزاء والترضية والمواساة لكل خيباتك..
كتبت مرة عن هذا، حقبة الاختيال المناطقي ضدا لصنعاء كتبت مقالة عنوانها منتزع بعنف من لحظة كاتب وشاعر لاتيني عظيم اسمه فوينتس، وهو كان بصدد رثاء الوجود الانساني برمته ولحظة إحساس الكائن أنه حتى في قريته وما إن يغادر منزله حتى يبدا التوغل في أرض الأعداء، تلك المقاربات المزيج من التبشير بالوحدة وكيف أنها شرط قاطع ومرير للوجود وفي سياق تداعيات زمن العزف على مقولة سارتر ” الجحيم هو الآخرون ” ، فانتزعتها والصقتها بالمكان الذي كنت قبل التواجد فيه نكرة، المكان الذي منحني كل ما رجوته وحلمت به في نشوات مغارب الدنوة، الأحلام التي راودتني ومنحتني طاقة تمسك بالحياة حتى وأنا أعمل لما بعد الموت اثناء الصلاة في مسجد الفقي سعيد بن صالح ياسين، صنعاء كانت التتمة والتتويج الأخير لأحلام أغلب أبناء جيلنا، منحتنا الصحف ومقرات الأحزاب والمنابر التي نتحدث منها للسياسيين بحكمة واستعلاء حقوقي ليبرالي معرفي وعاملناهم كفاقدي أهلية وأقل منا على اية حال، أنتزعتنا المدينة من الهامش ووضعتنا في قلب الضوء وبالمقابل كتبت بمعزل عن نغمة الجحيم هو الآخرون واستلهمت العنوان بدون نزاهة وقلت: عندما تغادر بيتك في صنعاء تبدا التوغل في أرض الأعداء، هذي اللكنة التي أشتغلنا عليها جميعا ولحظة نشر المقال حظيت بذلك التواطؤ المتحمس لجموع الكامنين في دهاليز عاصمة عاملوها على أنه دغل لا يشبه حتى نزعاتهم البرية..
بقيت المدينة تعاتبني زمنا، من إيماءات الشرفات ومداخل الشوارع وإثر كل محاولة منها لتصفية الأجواء وهي تمنحني مصادفات مدروسة أينما ذهبت، مصادفات أنيقة ولائقة تحاول المدينة أن تهمس لي من خلالها: أنت تتوغل في أرضك بين أخوتك وحيث الماء المبخر والأصدقاء لكنني بقيت متمسكا بحالة الانكار ومفارقة المكان عاطفيا وبقيت أرجئ اقتناء أي أثاث إضافي مبقيا على مايكفيني بالكاد هكذا بنزعة عابر سيغادر يوما حتى وهنت، وخلصت لمقولة ايزابيل الييندي: لا شيئ ينال من صلابة المرء الداخلية مثل شعوره الدائم بكونه عابر..
في الكويت كنت نائما طوال الوقت وافتح عيني فقط لأرفع السماعة في فندق هوليداي لأطلب من المطعم “ايتاليان سلات”، لا أسوأ من السلطة الإيطالية لكنني كنت مولعا بنطق “ايتاليان سلات”، أفكر بعد السلطه الايطالية أن لدى الكويتيين نقود كثيرة وأنهم لم يغفروا لنا بعد ثم يخطر لي أنهم سيمنحونني ألف دينار قبل المغادره واتسائل: من كم الصرف؟
أحب بلادي بديونها والقبائل والحصبه والطرق الجنوبي على رأسي يلح على جعلي شماليا ويحاول بكل استماتة اقناعي كم انني متخلف.
في دمشق كان صاحب المكتبة مندهشا بكل قلة تهذيب يمكن للعالم التحلي بها وهو يستغرب بإصرار من كوني يمنيا يبحث عن روايه،وكان السائق ينتظرني في الباب ليغالطني مجددا في الاجره ويلمح لكونه متقدم علي في أشياء لا أدري كنهها، يصلح فيصل القاسم في قناة الجزيرة وضع نظارته ويتهكم من اليمن.
لصنعاء لذعة عطش وبهجة..
في بيروت كنت أتثائب طوال الوقت غير قلق ولا مبتهج لا أنفك أفكر في وليد جنبلاط، ثم أنام .. صنعاء صحب ولهج وقلق وعطش ومسرات ذهنية وأحسني موجودا بكلي أهتز على ايقاع اليمن.
في صنعاء مزيج الانسان الذي يقاوم حظه العاثر بالشهامة وفي الأعالي هناك ينشب وجوده على حافة المدرجات مناوشا الريح والشمس.. تمضي الحياة في اليمن بأناقة التلقائية الوجودية وحسن النية دون ان تجد الوقت للرد على فيصل القاسم وكأن اليمني قد تصالح مع قلة التهذيب العربية مدركا لا جدوى الشوفينية وبمرور الوقت أمسى الزهد في الشوفينية مفارقة وطن
أينما ذهبت لا أكف عن التثاؤب ومصادفة المتحاذقين الذين وكأنهم كانوا مدرسين في اليمن أيام حكم الإمام أحمد..
وأعود متحسسا روائح صنعاء والتعب المنتمي وأذكر خالد سلمان متسائلا:
ماذا في لندن؟ شوارع نظيفه وسيقان مكشوفة !!!
لصنعاء طعم.