- كتب: قادري أحمد حيدر
ومن الملاحظات الساخرة للأستاذ الفقيد يحيى المتوكل اعتباره دخول الألعاب الرياضية إلى مقررات المدارس هو أفضل ما قدمته الجامعة العربية عبر بعثتها التعليمية لليمن ، وهو فعلاً كما يبدو أفضل ما قدمته الجامعة العربية لليمن حتى اللحظة ، أقول ذلك بسبب أن معظم خطاب حركة الأحرار الدستوريين اليمنيين كان موجهاً للجامعة العربية منذ عهد عبدالرحمن عزام مطالباً إياها بدور جدي في حل مشكلة اليمن، ومراسلات الأحرار ، الحكيمي ، والنعمان، مع أمين الجامعة العربية دليل على مطالبة جدية بأن يكون للجامعة العربية دور في نهضة اليمن ، وفي التخفيف من وطأة الحياة القاسية التي كانوا يعيشونها ، وبالعودة إلى ص 21 من الكتاب يشير إلى حجم العزلة المخيف الذي كانت تعيشه مناطق اليمن المتقاربة من بعضها البعض فهو يقول : ” إن البيئة التي اكتشفتها في المحابشة تختلف عن شهارة، فمجتمع المحابشة منفتح وله عادات وتقاليد مختلفة ، ولهجة وملابس أخرى ، وذلك على الرغم من أن البعد الجغرافي بين المدينتين لم يتجاوز 30 كيلومتراً ، لكن هذه المسافة كانت تأخذ حينها نهاراً كاملاً، وأحيانا نهارين للمسافرين بين المدينتين ، كما كانت أنماط الحياة وتقاليد المجتمع تختلف من منطقة إلى أخرى نتيجة للانغلاق الذي كان سائداً ومتغلغلاً في حياة اليمنيين قبل الثورة “.
إن هذه الإجابة الموجزة والعميقة في رؤيتها لواقع المجتمع اليمني في ظل الإمامة، تقول لنا أن العزلة بين قرى اليمن في مناطق شمال الشمال وفي داخل المنطقة الجغرافية الواحدة، (المحافظة) كانت أكبر مما يتصوره أي عقل سياسي واجتماعي، حول معنى ومفهوم العزلة، ومن هنا اغتراب السكان عن بعضهم البعض، في داخل المنطقة الواحدة، وهو ما كان يستدعي فعلاً أكثر من ثورة سياسية واجتماعية وثقافية،واقتصادية.
وفي كتابه الحواري ، النقدي خاصة في قسمه الأول ، يقدم الفقيد يحيى المتوكل بانوراما سياسية ثقافية ، تاريخية موجزة لمرحلة تاريخية كاملة ، بعبارات موجزة ومكثفة ، تلم بالسياق التاريخي كله دون استطرادات زائدة عن الحاجة وعبارات يقول فيها المختصر المفيد ؛ فهو يمر على المرحلة الدراسية والطلابية مقدماً أهم تفاصيلها المفصلية ـ الجوهرية ، التي يمكن اعتمادها مع غيرها مراجع سياسية اجتماعبة تاريخية ، على أن ميزته عن غيره هو التكثيف والإيجاز ، والموضوعية ، والصدق التاريخي أو إلى حد بعيد الشمولية في عرض الفكرة التي يحاول إثباتها والتأكيد على أهميتها ، وهو ما يكشف موضوعيته وصدقيته وشموليته في الرؤية للأشياء والوقائع والأحداث . ففي إجابته على سؤال ذكي وخطير ، طالما رددته وما تزال تردده بعض الكتابات المضادة لثورة 26 سبتمبر وتنظيم الضباط الأحرار ، والمتعلق بـ” أن تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين نسخة من تنظيم الضباط الأحرار في مصر ، حيث تعكس إجابته قدراَ عالياً من الموضوعية ، ومصداقية سياسية تاريخية في قراءة الأحداث والوقائع ، حيث يرد قائلاً : ” ماذا تتوقع من تلك البيئة التي نشأنا فيها، والمدارس التي تخرجنا فيها، أو المجتمع العتيق المنغلق المتخلف الذي جئنا منه ؟ لم نكن نملك من الفكر السياسي والتراث الوطني ما يؤهلنا لاتباع نهج أفضل من نهج عبدالناصر ، ولم يكن لدينا إلا الاقتداء بالثورة المصرية التي كانت حينها ثورة كل العرب ، لكن ما يهمني الإشارة إليه هنا ـ والكلام للفقيد المتوكل ـ هو إدراكنا للخصوصية التي تتسم بها اليمن مجتمعاً وموقعاص ، وكنا نضع ذلك في اعتبارنا ونحن نخطط للثورة ، وبعد قيامها، ولو لم نفاجأ بموت الإمام وتوفر لدينا الوقت الكافي لقامت الثورة ، وأديرت أحداثها بشكل آخر”.
وفي سياق إجابة لاحقة مباشرة عن تنظيم الضباط الأحرار والمصريين يقول ( بالنسبة لتكوين تنظيم الضباط الأحرار، وقرار قيام الثورة فقد كان ذلك منذ البداية صناعة يمنية ، حيث قام الضباط ببناء تنظيم تفجير الثورة اليمنية بدون توجيه القيادة العربية أو غيرها ) ص 49.
وهو في تقديري أدق وأكثف ، وأصدق وأجمل رد على من يحاولون الحديث عن فكرة تصدير الثورة من قبل مصر إلى اليمن ، أو كما يقول بعض السياسيين والمثقفين إنها حرب المصريين على أعدائهم في اليمن ، أو إنها ثورة مصر في أرض اليمن.
إن إجابة الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل هي تأكيد على خصوصية الثورة اليمنية بتعقيدات وتناقضات قيامها داخلياً وخارجيا ، وهي إشارة ذكية ولماحة إلى استقلالية نشأة تنظيم الضباط الأحرار وطبيعته الوطنية اليمنية الخالصة نشأة وتكوينا ، وتفجيراً للثورة ، وإلا لماذا لم يتخذ مسار تطوره نفس مسار دور ومكانة تنظيم الضباط الأحرار في مصر.
إنها الخصوصية الوطنية التاريخية اليمنية التي احتكمت لشروطها الذاتية والموضوعية، لا أقل ولا أكثر ، وهو الذي يفسر ويوضح معنى تراجع دور التنظيم أولاً ثم غياب دور التنظيم كلياً لاحقاً في سياق تطور مسار الثورة وتحولاتها وهو ثانياً . وما يؤكد موضوعية ومصداقية خطاب المتوكل في الكتاب الحواري هو تأكيده على أهمية وحيوية الدور المصري في الدفاع عن الثورة اليمنية ، وهو ما تجلى في صفحات عديدة في الكتاب الحواري النقدي الذي أجده من أفضل الحوارات السياسية التاريخية ذات الروح الموضوعية والنقدية ، كتاب حواري فيه من السياسة بقدر ما فيه من الواقعية، ومن التاريخ ، ولا مناص أمام أي باحث في التاريخ السياسي والاجتماعي اليمني المعاصر من العودة إليه ، وأؤكد على أهمية تقييمه للدور المصري في الثورة اليمنية ، على الأقل باعتباره واحداً من أهم رموز انقلاب 5 نوفمبر 1967م ومن المهندسين السياسيين لما يسمى ” المصالحة الوطنية ” أو السياسية ، وهنا تكمن القيمة المضافة لقراءته النقدية الايجابية لأهمية وخطورة الدور المصري في الدفاع عن الثورة ، وتثبيت النظام الجمهوري دون تجاهل لنقد مثالب وقصور وسلبيات ذلك الدور ، وذلك هو ما نسميه النقد البناء ، النقد العقلاني الموضوعي.
وفي تقديري ان الكتاب الحواري للأستاذ الفقيد يحيى المتوكل هو من أهم الكتب ذات الصلة بإعادة قراءة التاريخ اليمني المعاصر، من خلال الحوار وفقاً لما تم إيرادها في سياقات كتابية مختلفة عن تاريخ الثورة ، وهو من أكثرها موضوعية، وعلمية وتاريخية في تقديم تنظيم الضباط الأحرار ، وفي تقييم وتقدير دور الرائد المؤسس علي عبدالمغني في التنظيم وفي الإعداد للثورة ، وفي صياغة إطارها العام ، وفي الكتاب من الشجاعة والجرأة النقدية في التلميح إلى التقصير السياسي في السماح لقائد التنظيم بالذهاب بعد أسبوعين، إلى إحدى جبهات القتال الخطيرة حيث أشار قائلا : ” أنا شخصياً لا أستبعد أن يكون هناك من السياسيين والعسكريين من خارج التنظيم من كان يضيق به شخصياً ، وربما شجعه على الإقدام على هذه المغامرة ليتخلصوا منه ، أتصور هكذا ـ يقول المتوكل ( … ) وهي خسارة تركت آثاراً سلبية على مسيرة الثورة وتوجهاتها ) ص 51 ـ 52 ، وهو يؤكد في إجابته على سؤال: أين كان علي عبدالمغني بعد انفجار الثورة ؟ حيث يقول : ” كان في قلب الأحداث ، وكانت المعارك تشتعل هنا وهناك ، فيقوم بتوجيه الحملات لإطفائها ، ويزودها بما تحتاجه من ذخائر وأسلحة ومواد تموينية ) ص 51 ، وهو عكس ما رآه عبداللطيف ضيف الله ، أحد قيادات التنظيم حول مكان تواجده حيث أشار بما يوحي غير ذلك، وذلك في مقابلة مع صحيفة 26 سبتمبر 2008.
ولا ينسى الفقيد يحيى المتوكل في سياق آخر متصل بقضية دور علي عبدالمغني ومكان تواجده وخروجه لقيادة المعارك في واحدة من جبهات القتال بالقول : ” بصراحة أعتقد أن قرار الخروج يعود إلى علي عبدالمغني الذي كان يتمتع بمثالية وتجرد غير معقولين ، مثله مثل الشهيد محمد مطهر الذي ذهب هو الآخر ليستشهد في معركة خاسرة ، وهو رئيس أركان الجيش بعد مرور عامين على قيام الثورة ” ، وتلك في نظري ـ كما يقول المتوكل ـ نقطة ضعف أخرى تسجل على قيادة التنظيم ) ص 53.
وفي إجابته على سؤال :” هل الثورة بدأت تأكل أبناءها منذ أول يوم لانتصارها ) أجاب قائلا : ” لا ، لم تقع ثورة سبتمبر في ما وقعت به ثورات أخرى ، فلم تقتل أبناءها الذين فجروها ، ولكن لم تسعفهم الخبرة ، ولم تمهلهم الحرب حتى يتحملوا المسؤولية كاملة ، ونتيجة لذلك وللمثالية التي تحلى بها قادتها تركوا زمام الأمور منذ اللحظة الأولى لغيرهم ، وارتضوا لأنفسهم بدور المقاتل والتصدي لأعداء الثورة ) ص 65 . أي أن حجم العدوان واتساعه وخطورته، هو ما دفع بالقائد علي عبدالمغني للاندفاع الذاتي الثوري للتصدي المباشر له ، وفي الواقع أن في إشارات المتوكل نصف الحقيقة ، وهي مرتبطة بالمراحل الأولى ، ولكن في سياق الثورة ، وتطور الصراع حول السلطة في قلب الصف الجمهوري فإنه تمت تصفيات وإن كانت محدودة لبعض المعارضين في قلب الصف الجمهوري ، تمت محاكمات عسكرية على خلفية تهم أمنية لاتعدو كونها تصفية حسابات سياسية بين أطراف القيادة الجمهورية، اشترك المصريون في تدبيرها وإخراجها ، ذهب ضحيتها محمد الرعيني ، هادي عيسى وآخرون ، تحت شعار محاكم قيادة الثورة ، وبعد ذلك وفي غمرة الصراع في قلب القيادة الجمهورية حول المضمون الأساس والوطني والجمهورية جرت صراعات على السلطة ، خاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وبعد انتصار حصار السبعين يوماً ، حيث تمت عمليات تصفيات واسعة لرموز وقيادات القوى الحديثة بدءاً من 20 مارس 1968 م في مدينة الحديدة، إلى تصفيات 23/24 أغسطس 1968 ، وما بعدها.
وما يحسب لثورة 26 سبتمبر 1962 بعيد قيامها هو أن قيادتها لم تتخذ موقفا تصفوياً دموياً من القوى القديمة، باستثناء الموقف من العائلة الحاكمة ( بيت الإمامة ) ، ولم تتعد ذلك سوى أسماء قليلة جداً من الأعوان ، اتخذ بحقهم إجراءات دموية أو محاكمات صورية قاسية ، كما تمت عمليات إعدام خارج سلطة القانون، أو دون معرفة القيادة الجمهورية ، ومع ذلك فهي لم تشكل ظاهرة عامة بما يمكن اعتبارها جرائم حرب ، وحين أقول إنها عمليات قتل وإعدامات محدودة ، ومعلومة ، قياساً إلى الواقع اليمني المتخلف ، وحجم العنف والقهر ، وتاريخ الاستبداد الكامن في قلب المجتمع ، الذي كان من الممكن تصور ردات فعل أوسع وأخطر وأبشع مما جرى ، خاصة وأن الذاكرة التاريخية للمعارضة السياسية التقليدية ـ الأحرار ـ والقبلية ما تزال تتذكر وقائع الإعدامات والمشانق التي نصبت لقيادات ورموز انقلاب 48 ، 1955م وهي ذاكرة مشحونة بالتوتر، وعنف اعدامات الإمامة لأحرار 1948م وانقلاب 1955م ، 1959م، 1961م، وعودة الذكريات القديمة لعبت دوراً كبيراً في احتمالات انتكاسة الثورة في وعي وتفكير البعض، وخاصة بعد أن شاع خبر هروب الامام البدر والتجاؤه إلى القبائل الشمالية في حجة ، وهروب آخرين ، وهي اسباب ودوافع وقفت وراء تلك الإعدامات ، والتي ـ قطعاً ـ كان بعضها غير مبرر ، وتمت تحت وطأة الشعور بالخوف من انتكاسة الثورة ، وتأريخ ذاكرة مشحونة بالقتل والإعدامات التي استمرت لسنوات طويلة منصوبة للأحرار قبل الثورة ، وفي تقديري أن رد الاعتبار لبعض الأسماء والرموز التي جرى إعدامها وتصفيتها تحت هوجائية العنف الثوري المصاحب للثورة، واندفاعاتها غير العقلانية أمر ” ضروري ، بل واجب أخلاقي، وسياسي وطني وقانوني لإرجاع الحق إلى نصابه ، وهي عموماً أخطاء وممارسات صاحبت ورافقت العديد من الثورات والانقلابات ، وحول هذه المسألة يقدم الاستاذ الفقيد يحيى المتوكل تصوراً ، وتقييماً موضوعياً نقدياً وتأريخياً جميلاً هو بمثابة توصيف موضوعي نقدي تاريخي لما جرى حيث يقول : ” إن هروب الإمام البدر وتحركه في المناطق الشمالية وعودة الذكريات القديمة، والتخوف من محاولات إجهاض الثورة ، كانت كلها أسباباً ومبررات وقفت وراء تلك الإعدامات ، التي كان بعضها غير مبرر، وتم في عجلةٍ ودون محاكمات ، ومثل ذلك جرى في كثير من الثورات ، ولابد من مراجعة وتقييم جميع الإعدامات التي حدثت ، وردً الاعتبار لأولئك الذين أعدموا ” صـــ 67 ، وهي في تقديري من الأمور التي هي بحاجة إلى بحث وتقص ، وإعادة قراءة لما جرى من تصفيات أو إعدامات ، وإعادة الاعتبار والاعتذار لمن ذهبوا ضحية هوجاء الثورة ولحظات عنفها الدموية الأولى ، وكذا لقيادات الثورة والحصار الذين دافعوا عن الثورة، وتمت تصفياتهم، أو إقصاؤهم ، وسجنهم ، وتشريدهم ، وهو حقهم على الثورة والبلاد ، ونظامها الجمهوري، وفي طليعتهم علي عبدالمغني، ومحمد مطهر زيد، وعبدالرقيب عبدالوهاب نعمان، وعلي مثنى جبران، وأحمد عبدالوهاب الآنسي، ومحمد مهيوب الوحش، والقائمة طويلة…إلخ وأن تسمى شوارع ومدارس، وكليات عسكرية بأسمائهم.
وأجد من المناسب والمفيد قبل الحديث عن رؤية وتصور الفقيد يحيى المتوكل عن انقلاب 5 نوفمبر 1967 واتفاق جدة 1970م أن أوضح حقيقة سياسية ووطنية وتاريخية تمر عليها العديد من الكتابات والأبحاث دون الوقوف أمامها جدياً ودون تفحص معناه الوطني، والاجتماعي والسياسي والتاريخي ، والمتمثل في قضية الحرب على ثورة 26 سبتمبر 1962م، وحقيقة القوى المعادية للثورة ونظامها الجمهوري والتي اشتركت في الحرب ضد ثورة سبتمبر لإسقاط نظامها الجمهوري ، أو على الأقل إفراغه من مضمونه الاجتماعي والوطني.
إن طبيعة ومضمون هذه الحرب أوسع وأعمق وأخطر مما تحاول بعض الكتابات المحلية والأجنبية تصوره وتقديمه، وكأنها حرب أهلية وكفى !! ، حرب ثورة مضادة داخلية ، حرب بين الجمهوريين والملكيين اليمنيين . وفي تقديري أن مثل ذلك التصوير والتقديم ينطوي على تبسيط مخل لحقيقة الصراع ومضمون الحرب السياسية والعسكرية التي اشتركت فيها أطراف عديدة داخلية وخارجية، رجعية واستعمارية، حتى تدخل الكيان الصهيوني في الحرب على ثورة 26 سبتمبر 1962م.
إن الحرب على ثورة 26 سبتمبر 62 غير منفصلة عن المشاريع السياسية الاستراتيجية لدول استعمارية كبرى ، حرب تتصل بالصراع الإقليمي والدولي ، حرب وإن كانت قمة جبل النار الظاهرة فيه هي السعودية، فإنما هي كانت تمارس ذلك الدور بالإنابة عن مصالح استعمارية كبرى، ولها كنظام عائلي ملكي مصلحة مباشرة في هذه الحرب على ثورة 26 سبتمبر ، والوثائق الاستعمارية حول الحرب على ثورة سبتمبر 62 تؤكد أن الطرف الأكبر الداعم والمستفيد من هذه الحرب واستمرارها طيلة هذه السنوات إنما هي بريطانيا ، القوة الاستعمارية الثانية في العالم في ذلك الحين، ومعها ألمانيا ، إلى جانب دعم غربي متعدد الأشكال ، ودعم إقليمي شارك بصورة أو بأخرى في هذه الحرب دعما وتمويلاً ، مادياً ولوجيستياً ، ممثلاً في إيران ، تركيا ، وغيرها إلى جانب فيالق المرتزقة العالميين تحت قيادة “بوب دينار” ، “سمايلي” الجنرال ” كوندي ” صاحب “خطة الجنادل” ، في حصار صنعاء .
وكانت السعودية ، بدرجة أساسية هي الحامل السياسي والعسكري والمالي لهذه الحرب ومعها الأردن إضافة إلى إسرائيل ، والتي تؤكد الوثائق الغربية والأمريكية ، بل والإسرائيلية نفسها اشتراكها في الحرب من خلال سلاح الطيران “المظلات” ضد ثورة 26 سبتمبر 62 وأضعف حلقة حقيقية في سلسلة القوى التي حاربت ثورة سبتمبر هي القوى الملكية الإمامية ، ووضع القوى الملكية المشيخية القبلية في آخر سلسلة القوى التي حاربت ثورة 26 سبتمبر ليس انتقاصاً من دورها ، ولا تقليلاً من خطورته في الواقع ، ولا تجاهلاً لأهميته الحربية باعتبارها وقوداً للحرب، وقوى بشرية وحربية مضادة داخلية ، وإنما لان هذه القوى لا تملك من أمر قرار الحرب والسلم شيئاً ، وهي ليست أكثر من أداة محلية محدودة الفاعلية ، وعديمة التأثير والدور دون الدعم السياسي، والمالي، والعسكري والإعلامي الاستعماري والسعودي ، وهي في الغالب قبائل امتهنت الاتجار بالقتال، والحرب مع من يدفع أكثر ، وقضية الخيار الجمهوري، والنظام الجمهوري آخر ما كانت تفكر به ، إذا ما وقع في مقابل الذهب ، والسلاح ، هي حقيقة أداة في لعبة سياسية دولية وإقليمية أكبر منها ، وهنا يتجلى الطابع السياسي والاجتماعي ، والوطني / القومي التحرري في الحرب على ثورة 26 سبتمبر 62.
إن حجم العدوان وعنفه وقوته ، وتعدد مصادره المحلية والإقليمية (الملكي الداخلي) والرجعي العربي ( السعودي ، الأردني ) والإقليمي ( الإيراني ، والدولي البريطاني ) إضافة إلى مجاميع المرتزقة الدوليين ، فضلا عن الدور العسكري الإسرائيلي، إن كل ذلك يجعلنا نقول إن ثورة 26 سبتمبر قد جمعت في حربها الدفاعية عن نفسها بين وطابع الحرب الوطنية ، والقومية في مواجهة عدوان استعماري كبير كانت السعودية هي الإطار التكتيكي في هذه الحرب ، وبريطانيا والقوى الإقليمية الداخلة في المشروع السياسي في الحرب على ثورة سبتمبر هي الإطار الاستراتيجي البعيد ، وللتوضيح أكثر لهذه المسألة فإنه من المفيد الإشارة هنا إلى أن الدعم المصري، والدور المصري في حرب اليمن جاء نتيجة مباشرة للعدوان على الثورة من أول يوم لإعلانها.
وهناك عبارة، أو فقرة موجزة ومكثفة في الكتاب الحواري للفقيد يحيى المتوكل تحاول أن تلخص أو توجز جزءاً أو بعضاً مما أوردناه وإن جاء السياق حاملاً في مضمونه نصف الحقيقة السياسية التاريخية ، ومغفلاً جانبه الآخر ، وهو البعد الاستعماري الدولي في الحرب على ثورة 26 سبتمبر ، حيث يقول : ” .. لما قامت الثورة وتعرضت منذ اليوم الأول للتآمر الخارجي ، فقد حتم ذلك مع عوامل أخرى مجيء المصريين إلى اليمن ( … ) ، ولاشك أن الهدف الرئيس من التدخل المصري هو الدفاع عن الثورة وحمايتها التي باتت مهددة بالتدخل الخارجي ، فبعد هروب الإمام البدر وتحرك أعوانه ومناصريه في أنحاء مختلفة من البلاد ودخول أسلحة وأموال عبر الحدود اليمنية السعودية ، ثبت للجميع أننا لا نواجه بيت حميد الدين ، بل نواجه تدخلاً من دولة مجاورة موقفها معاد لكل تغيير في اليمن ، لهذا كان من الطبيعي أن يهب الجميع لطلب النجدة من مصر ( … ) ، لكن الأمور ـ كما يقول المتوكل ـ في جبهات القتال تسارعت لتحول الوجود المصري الرمزي إلى وجود عسكري ، وتتحول المسألة من مجرد دعم إلى مشاركة في القرار ( … ) ثم تشعب الصراع في اليمن إلى صراع بين الجمهورية العربية اليمنية ، وبين مصر والسعودية )) ص 68.
وفي الواقع أنه حتى السعودية لم يكن بإمكانها أن تتجرأ أو تقدم على الدخول في هذه الحرب والاشتراك فيها ، لولا الرغبة والإرادة السياسية الاستعمارية البريطانية، والغربية التي كانت تقف خلف تلك الحرب ، والتي وضعت ثورة 26 سبتمبر ضمن المشروع السياسي الاستراتيجي لها في المنطقة والعالم ، ومن هنا فإن السعودية كدولة تابعة وملحقة بالمشروع الاستعماري والامبريالي ، ليست أكثر من أداة ، تقاطعت مصالحها الداخلية ، مع المصالح الاستعمارية الكبرى في المنطقة ، وفي ذلك يكمن التفسير السياسي التاريخي للطابع الوطني والقومي للحرب على ثورة 26 سبتمبر 62. ، وقد أشار محقاً الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل إلى أن التدخل العدواني السعودي على ثورة سبتمبر بدأ من أول يوم لقيامها ، وإن اكتفى بحصر البعد الخارجي في التدخل في السعودية ، دون الدور الاستعماري البريطاني ، والغربي والإقليمي ، والإسرائيلي ، الذين كانوا جميعاً أطرافاً أصيلة في الحرب على ثورة 26 سبتمبر.
وفي تقديري أن محاولتنا التأكيد على هذه الحقيقة السياسية والوطنية والتاريخية كان ضرورياً ، بل وفي غابة الأهمية ، لأنه بدون تلك الخلفية السياسية تبقى وتظل القراءة ناقصة وغير مكتملة لانقلاب 5 نوفمبر 1967 ، واتفاق جدة مارس 1970 ، وأثرهما على مستقبل ثورة سبتمبر ومضمون النظام الجمهوري بعد ذلك على المستوى السياسي والاجتماعي والوطني.