- طه العزعزي
كما يبدو جلياً ، يتجه بل وينحو نشوء النزاع القاتل والخصومة بين جماعتين مختلفتين سياسياً ودينياً إلى إستحثاث قدر من الإصطفاف والتضامن في صف كل من الجماعتين المختلفتين ، وبالربط ، يكون هذا الإصطفاف والتضامن المنتمي للجماعة دينياً وسياسياً وطائفياً ومناطقياً وعرقياً كما هو حال الإنتماء والدعوة الواحدة الموجهة للكتل الإجتماعية وسط هذا الوطن الكبير في أطر مايشهده الواقع العربي من نزاع فرقاء وقتال جماعات في الوطن الواحد هو الهدف الأسمى إن لم أقل أنه الهدف الرئيسي والشاغل لفكر الجماعة التي تريد أن تبذل قصار جهدها في تطويق قبضتها لتطويع أكبر قدر من الكتل الإجتماعية القبلية والمدنية في سبيل خدمتها وحروبها التي سُتكسبها وهم القوة والسلطة والمكانة أيضاً ، إنهم يتحاربون من أجل ذلك ، وقبل كل شئ .
في المسار التاريخي المأزوم والمفضي إلى شتات وكوارث مؤسفة حقاً ، نجد أننا كمجتمع يمني في الحالة الراهنة نعاني أكثر وبسبب ماتدعو إليه جماعات معادية في سبيل حروبها الفوضوية من إنقسام حاد وطبيعي في ظل هكذا دعوات ممزقة وحاملة لشعارات وبورتيرات ولواصق مخادعة وطائفية ومناطقية كذلك بل سياسية ودينية وما إلى ذلك من دعاوى تفضي إلى خراب إجتماعي مهيب ومفجع للغاية .
في هذه الحرب ، وفي سبيل النكف ، نجد أن كل جماعة تسعى إلى أن تجيش أكبر عدد من الأكاذيب والإفتراءات من أجل بقائها على حساب غيرها أولاً ومن أجل ثباتها في أرض المعركة وكسبها لعدد مأهول من المؤيدين الذي يمكن لها أن تزج بهم في حروب عاتية وشرسة مع العدو في الطرف الآخر وحتى تحقيق ماتريد الوصول إليه ، إن مايحدث الآن من همجية نكف وتسييس قبيح للقضايا وافتراءات عدائية لهو واقعي وأكيد أيضاً ، لكن شيئ ما يعاودني كحالم بوطن نقيئ يتعايش فيه الجميع ، يجعلني أقول بوهم غير زائف أن مايحصل الآن لهو خيالي مؤسف ، وهو كذلك إذا ماإستخدمنا الوصف البلاغي الشاعري المفضي لأكثر من معنى لمأساوية الأحداث ، هاهو الواقع ومايجري فيه يثبت لي أنني مازلت أعيش في عالم خيالي ، وإلا مامعنى أن تقتل النساء العزل ويموت الأطفال البريئين ويهرق دم الإنسان ببرودة ليس لها مثيل في تاريخ تطور البشرية ومضيها على نحو متسارع وقصي إلى الأمام بل وإلى أمام الأمام .
دعوات كثيرة هنا وهناك من أجل جذب ولو حتى خيط بسيط من قميص الضحية واجترارها إلى حيث ما يحب الجلاد أن يجترها في أوسخ وألعن أساليبه . ولكن وفي ظل هكذا أسلوب ، يبقى للضحية موقفها ، فالضحية لاتقبل أن تكون ضحية بمعنىٍ كلي إلا إذا كانت دون وعي ودون نظرة متسعة أو رؤية واضحة ، هنا تذهب الضحية إلى حيث نعشها الأخير في موتها وفي حياتها أيضاً حيث لاحياة ، ونجاة الضحية النسبي يبقى في الأول والأخير موت معلن ، لأنها أيضاً ماتزال في قبضة الجلاد خامدة غير متحررة ، إن نجاة الضحية هو تحررها الفعلي وعدم رضوخها للدعوات الممزوجة بكيد واضح ، إن ضحايا كثيرون سقطوا في أتون هذه الحرب في ظل تلك الدعوات الموجهة كصواريخ مدمرة باتجاه أدمغتهم المعطلة والمتفاعلة حماسياً مع أي دعاوى ترفع لافتاتها خطوطاً مبهمة ومشوشة إلى حد مؤسف ومهين للعقل .
يختلط على نحو قد يلتبس أو يغيب مفهوم التضحية في ظل أية دعوى ترفعها أي جماعة ما ، “فالضحية ” المراد تحميسها والتي يوجه لها الخطابات ودعاوى النكف ويراد دخولها الحرب عنوة ، ترى أنها في الأساس تقدم نفسها ” كتضحية ” وليس “كضحية ” ، تضحية _ كما ترى هي _ من أجل مشروع وطني خالص وفداء للوطن الغالي والدين والقبيلة أيضاً ، وهي بذلك لاتصطف ولا تتضامن إجتماعياً إلا عن طريق المشترك الوطني والقبلي الواحد والإلهام الديني ” الطائفي ، المذهبي ” أو المناطقية الخطيرة .
إن مفهوميّ الغلبة والرفض هو مايواجه الفاعل الناشط في دعاويه لجذب بل وللإقتراب حتى من كتل اجتماعية مدنية وقبلية ، وفي ما إذا كان الرفض هو الأداة التي تصد بها الضحية كل دعاوى الإحتراب والتقتيل ، فإن هذا هو سبيل النجاة وقد أقول سبيل الإنتصار الحقيقي الغير وهمي ، يمكن لكل فرد في ظل هذه الحرب أن لايصدق أن كل الأطراف المتقاتلة على حق ، وهو بهذا سينجو وسيتجه نحو فضاءات بيضاء ونقية تكون أكثر حرية واتساعاً ، ولكن ما إذا كان الجلاد قد نجح في تثبيت غلبته وانتصاره على ضحيته التي تدين له بفكرة الولاء والتبعية فإنه ينجح أخيراً في شيطنة مهامه والدفع بها وفق مايريد وصوب ما يحلم أن يقذف بها ” أقصد جبهات القتال ” ، إن فكرة الولاء وفكرة التبعية والإصطفاف الخاطئ ، أفكار تدمر النسيج المجتمعي والسياسي الواعي وتلغي حرية العقل ونشاط الفكر الإنساني المتحرر وتشوه جماليته الحقيقية .