- كتب: ضياف البَرَّاق
(١)
تقريبًا بما يزيد على ثلاثين سنة، يكبرني. ما أجمله هذا الغُصْن الأخضر في شجرة الحياة اليابسة! هو طفل كبير، يعيش الآن بيننا، في بلد مائج على الدوام. واضطرابات هذا البلد، سبّبت له جلطات متعددة، في رأسه إلى أطرافه إلى حتى أحلامه البسيطة! لكنه، وبرغم كل شيء، لا يزال قادرًا على خلق المزيد من الشعر الأنقى، وإنتاج المزيد من ويسكي الجمال. طفل كبير، أجل، والطفولة الجميلة عندما تبلغ قمة النضج، عندنا، تُرمى بالحجارة دائمًا. لا يُسمَح لها أن تتمرد كما يرغب صاحبها. نحن لا نرى ما ترى هي، ونحتقِر ما تقول. مأخوذ، بقدر عظيم من الوعي، بشهوة الفن: فن الكلمة، وفن اللوحة، وفن الصمت، وفن الجنون أيضًا. كل الفنون متصلة بأصابعه، قريبة من أنفاسه، مُنغرِسة في أعماقه الواسعة. به من الجنون الجميل ما يكفي لتحويل العالَم إلى عِطْرٍ خالص.
(٢)
بالنسبة لي، هذا هو أخطر شاعر يمني يكتب شَعرًا جديدًا، بطريقة ساحرة، ويحتضن آلامنا اليومية، في قصائده، كما تحتضن الشجرةُ النادرة الطيور المهاجِرة. هذا نبيذ فاخر ينهمر علينا من غمامة أبدية. وكعادته، يمشي في جراح الحياة العميقة، مشيَ العذوبة في روح الطفل الهادئ، زارعًا فيها أسئلة الضوء، آخِذًا منها ملامح الدهشة، ومعاني الحكمة. العتمات التي يخترقها، أو يكتب عنها، تتحول سريعًا إلى فضاءات مضيئة، إلى تجليات صوفية، إلى باقات عشق، إلى نوافذ مطلة على السواحل.
(٣)
أتذكر يومَ عرفته شخصيًا، ذات حرب تدور حولنا، وتنتشر سمومها إلى القرى المجاورة. قبل هذا اللقاء كنت أسمع به، وعن اسمه يتردد هنا وهناك، فكان هاجسي الروحي يتحرّق شوقًا لمعانقته وجهًا لوجه. ها أنا ذا أتذكره، أستحضِر صورته تلك، أرسمُها اليومَ في ذهني، وأعانِقُها بشوق كثيف، كأنها الواقع. كم كان جميلًا يومَ صعقَني بدهشتِه الكثيفة، وجلسنا على رصيف هناك، تحت جدار في ناصية ذلك الشارع الفوضويّ. بمنتهى البساطة، بعفويةِ الحب، ونقاءِ الثلج، راحَ يقترب مني، وأنا أنخطِفُ إليه، فبدأ الحديث الأول يتدفق بين كلينا، وانطلقت البسماتُ ترتسم على شفاه الكلمات. باغتَنِي، أخذني بعيدًا، هوى بي إلى أعماق فسيحة. لا تستطيع هذه الحرب، ولا كل حروب العالم أن تمحو من ذاكرتي هذه التفاصيل الحميمة، الحَيّة دومًا. قوة الحب مصدرها جمال اللقاء الأول.
(٤)
ما عدا الشعر، هو لا يملك شيئًا. هذه حياته، وهو يجري فيها بحرية، وينتصر عليها، أحيانًا. لطيف، أعزل، خفيف الظل، بعيد عن النتانة السياسية، ونفاق المجتمع، وضجيج الماضي البليد، وبشاعة الحاضر المتوحشة، لا سلاح في يده سوى الشعر، في وطن لا يحتضن شعراءه الجميلين، بل يفتك بهم، يُمزِّق حياتهم، يُشوِّه صورَهم النقية، حتى يراهم شظايا مُتفرِّقَة، ولكن هذه الشظايا لا تبيع الوطن، ولا تجرح الحياة، ولا تموت وهي مُلوَّثَة أو قبيحة. إنه شاعر صادق بحق، ينزع الألغام من رؤوسنا، ويقذف بالنور في طريقنا المُظلِمة، يرسم لنا الحياة بماء قلبه، وألوان روحه، الحياة التي يعشقها هو بحفاوة، ويعيشها بهدوء، ولكنها لا تحبه، ولا ترقص معه عندما يرقص لها. وما الحياة إلّا “ذلك العفن الناتج عن مخلفات الطبخ” كما يقول. في حياته ثقوب كثيرة، وفي كتاباته حيواتٌ لا تُحصَى. ولا أقبح من حياة لا تفهمك ولا ترحمك ولا تصغي لصوتك الجميل. ولا أجمل من قصيدة تتغلب على مثل هذه الحياة.
(٥)
في أغسطس عام ٢٠١٨، كنتُ أجريت معه حوارًا صحفيًا أدبيًّا، وتجاوب معي بروح تحفل بالطيبة، واستقبل أسئلتي الرديئة بشغفٍ غير مألوف، وصدقٍ دافئ، وحفرَ تحت كل سؤال جوابًا شافيًا وافيًا، حتى إني أُصِبْتُ بالدهشة من شجاعة وعمق هذا الشاعر المدفون أو المنسي. وقال في هذا الحوار القديم، إنه لم يكن يكتب بغرض الاسترزاق، بل إنه يكتب لأنه يجد في الكتابة حياةً كاملة. وأمّا الوطن “فبالإضافة إلى أنه رغيف العيش، فهو الكرامة والدفء والحنان، غير ذلك فبإمكانك رميه في سلة النفايات، وإغلاقها عليه”، والحياة في وطنٍ كهذا، هي أسوأ سجن، كما قال. ويرى أن التهميش هو مصير مَن يُنتج فنًّا جَادًّا، أو شعرًا جيِّدًا، وهو قد عانى من التهميش لهذا السبب بعينه، لكنه لا يكترث لكل شيء! وبرغم حظه التعيس، ومعاناته المستمرة، فإنه، حسب تفاؤله، سيظل بانتظار ما سوف يأتي، على صعيد الشعر، والأصعدة الأخرى. وبعد هذا الحوار، لمْ يحاوِره أحد!
(٦)
كأنه يكتب بأجنحة روحه، بنزيف وجدانه، وجنون صمته، فتجيءُ كلماته معجونةً بالسحر والبهاء والذكاء والتميُّز. إنه فنان في استخدام اللغة، وفنان في رسم الصورة التي يريد إيصالها للقرّاء. إنه يرمي كلماته في المساحة الفارغة، بشجاعة ورشاقة وهدوء، فيتشكّل النص أمامه، تشكُّلًا فريدًا يبعث على الدهشة. ثم إنه يمنح التفاصيل الصغيرة أهمية كبرى عندما يكتب النص أو القصيدة، ومن هنا أيضًا ينبع الجمال. فكما يُدْهَش، يُدْهِش، وبمقدار ما يتألم، ومقدار شغفه بالجمال، يتدفق منه الجمال. إن سر هذا الجمال الذي نغرق فيه عندما نقرأ لوحاته الشعرية البديعة، مصدره هو هذا الشغف الذي يبذله وقت الكتابة، بل وقبل أن يبدأ بها. هذا وناهيك عن كونه لا يؤمن بشيء غير الشعر!
(٧)
ربما على الشاعر أن يموت عندما يخلق قصيدته كيما تأتي فيّاضةً بالحياة المُدهِشة. غير أنك تقول ذات قصيدة “أنا لا أحب أن أستيقظ من موتي مرة ثانية”. في الحقيقة، أنت تستيقظ من موتك بعد كل قصيدة تكتبها، هكذا أقرؤك كل يوم. أنت لا تموت أيها العاشق الفريد. إن الشاعر هو ذلك الجنون النظيف الذي يُنتج الحياة المغايِرة، والعالَم المثالي. إنه الجنون الذي يفكك الأقواس، ويتيح لنا أن نتنفّس خارج الأقفاص.. الشاعر يحوِّل الصحراء إلى وردة، إلى سماء، بنفخة من روحه، ويُضيء قلوبنا المنطفئة، إنه قادر على تحويل ظلماتنا الداخلية الباردة إلى شموس دافئة، من خلال مخيّلته الحُرّة، ورؤيته الجماليّة المختلِفة. الشاعر هو قلب هذه الدنيا، نبض هذا الوجود اللانهائي. وظيفة هذا القلب هي جعل المألوف أعجُوبةً، وإحلال المستقبَل محل الماضي.. وظيفته، أيضًا، تحويل منفضة السجائر إلى امرأة فاتنة، إلى نافورة تنثُر الماء بأسلوب خلّاب. الشاعر ينفر من السلطات والسلطويين، ويكسر قيودنا الفكرية، وعُقَدنا النفسية، وينتشلنا، بلغة الجمال، من مستنقعات هذا الواقع المريض، الميؤوس من شفائه. ويتحِد الشاعر بالحب والحرية والمعاني الإنسانية العميقة، ولا انفصامَ عنها.. والشاعر متمرد على نفسه قبل تمرده على كل شيء، إنه فنان خطير يحفر صورته الكونيّة في أعماقنا، في أعماق التاريخ، فيكون خالدًا، متجدِّدًا أبدًا، لا يموت.
(٨)
له ديوان (مسحوق التعب اليومي) وديوان (الكلام تحرك في الماء) والكثير من القصائد الجديدة، والكثير من النصوص النثرية الجميلة. هو شاعر غزير يكتب باستمرار، لأنه يموت باستمرار! نتعلم منه الحرية، وفلسفة الجمال، والنظر العميق إلى الأشياء. مثقف غير عادي، ساحر يتقن الرقص بالكلمات، وإنسان حقيقي، حتى حين ينتقد المُزيَّفِين بأسلوبه الشعري الساخر الجميل. هذا الرجل الصادق جدًّا، لم أجد حولي مَثيلًا له، إنه استثنائي الشخصية تمامًا، ونسيج وحده كما يُقال. هكذا هو مُذ جاء إلى هذا العالَم المخيف. وهكذا سيظل ساطعًا بالضوء، نابضًا بالحب والجمال، في كل دورب هذه الحياة، وفي كل شيء. وحين تنتهي هذه الحرب البشعة، سألتقيه هناك، حيث هو الآن، وأعانقه بكل شغف، كما فعلنا أول مرة.