- ضياف البراق
العنصرية تعني باختصار أن علبة الفول تحتقر علبة الفاصوليا.
وتعني، بعبارة أخرى، إلغاء الآخَر، أو عدم الاعتراف بوجوده، أو النفور منه بدلًا من التعايش معه. والإلغاء يبدأ بالاحتقار والتهميش وصولًا إلى أقصى النبذ واستعمال العنف. والعنصري بطلٌ تافه كمثل الذي يضع العربة أمام الحصان. وعندما تهُبُّ رياحُ التمييز العنصري، وتنتشر بين الناس، تتحول البلاد كلها إلى غُبَار. والعنصريون هم أناس مثلنا لكنهم مجانين حُبًّا بأنفسهم، إنهم نرجسيّون مغرورون، أبطال من فراغ، فقاقيع تتحرك مثل الروائح الكريهة. والعنصرية عفونةٌ بشرية سامّة تسير على قدمين، وأحيانًا بلا قدمين، وأحيانًا نراها تطير بأجنحة في أعلى الجو، وتتبول على رؤوسنا، أو تقصفنا بالقنابل والصواريخ.
ومن حولنا الكثير من العنصريين، ونراهم في كل مكان، وقد يكونون من حمَلة الثقافة والأقلام، ولا تستغربوا إذا وجدتم أمامكم عنصريًا يرتدي بدلة رسمية أنيقة، وربطة عنق فاخرة، ويتنطّع بالثقافة والحداثة، ويظن نفسه محور الكون. وبيننا من يحتقر مهنة الحلّاق ومهنة الجزّار وينظر لأصحابها نظرة ازدراء وانتقاص. وعنصريون أولئك الذين يكافحون العنصرية بعنصرية مضادة، والساكتون على العنصرية، أو غير الرافضين لها، فهؤلاء هم عنصريون أيضًا، لأنهم أصبحوا راضين عن الظلم والانحطاط. وما أسوأ وأحقر أن يكون المرء عنصريًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة الباعثة على الاشمئزاز والرعب.
ظاهرة العنصرية موجودة منذ العصور القديمة، فمنذ فجر التاريخ كان البشر يمارسون تمييزًا عنصريًا ضد بعضهم البعض، ويشعلون الحروب الدموية المبنية على أسباب عنصرية. وثقافة التعصب والعنصرية منتشرة في كل المجتمعات، ونحن لا نستطيع القول بأن العنصرية قد انتهت في زماننا هذا، والعنصرية لا تنتهي أبدًا، تتقلص فقط، إنها تغيّر جلدها بين الحين والآخر، وذلك من باب التهرُّب أو التخفي من الضغوط والعقوبات حين تشتدّ عليها. وعصرنا هو عصر الحقوق والحريات والمساواة، ولكننا ما زلنا نرى، أحيانًا، أعمالًا عنصرية تنشب هنا أو هناك. ولا يمكن أن يكون الإنسان عنصريًا بالفطرة ولكن العنصرية من ابتداع الجماعات والأقوام والشعوب عبر جميع العصور المختلفة.
وقديمًا كانت هناك شعوب تعتقد أنها أفضل أو أرقى جنسا من غيرها، واعتقد قوم بأنهم هم شعب الله المختار، وكانت هناك العصبية القبلية الجاهلية، وهي عنصرية النزعة، وهناك جماعة أو طائفة لم تزل تعتقد أنها من سلالة طاهرة، وما عداها لا شيء، وهكذا، فإن ظاهرة العنصرية مرض تاريخي عالمي قد أصاب العالم كله.
إن العنصريين، في نظري، هم أناس جهلة عقليًا، ومرضى نفسيًا، والواقع يكذّب مزاعمهم وخرافاتهم العنصرية، إنها نزعة استعلائية تدفع بالشخص إلى نبذ الآخر أو احتقاره أو محاربته، وهي كثيرًا ما تؤدي إلى العنف المادي. وعندما نُقلِّب صفحاتِ العنصريين الكبار نجدها ملطّخة بالحماقات والأكاذيب والجرائم المتعددة والمتنوعة. ويكذب مَن يقول إن زمن العنصرية قد ولّى، خصوصًا وأننا قد رأينا في الحرب الحالية الواقعة بين الروس والأوكران صدورَ تصريحات عنصرية من الجانب الغربي، وسلوكًا عنصريًا في معاملة بعض اللاجئين غير الغربيين.
والصراع التاريخي بين الشرق والغرب لا يخلو من أسباب عنصرية، ومن يقرأ الكتب التاريخية سيعرف تمامًا هذه الحقيقة. ولكن جميع الصراعات التي حدثت أو تحدث بين البشر فللعنصرية فيها خيوط وأدوار، بشكل أو بآخر. وقد وقع بعض المستشرقين في التعصب العنصري في دراساتهم عن الشرق، خصوصًا في تناولهم التراث الإسلامي، وما يزال الخطاب الاستشراقي يسيطر على جزئيات من الإعلام الغربي، وتمارسه هناك بعض المؤسسات وليس بعض الأفراد فقط. ولكن جميع الدساتير والقوانين الأوروبية تُحرِّم العنصرية بكافة صورها ومظاهرها، وتشدد العقاب على من يمارسها. والعنصرية في عالمنا العربي، ربما هي أكبر من العنصرية في الغرب، وهي موجودة حتى داخل الأحزاب السياسية، وتتزايد سمومها بين جماهير هذه الأحزاب، إنها العنصرية الحزبية المقيتة.
وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نقرأ تلك المادة الشريفة الرفيعة والتي تمنح الحق لكل إنسان بأن يتمتع بكافة الحقوق والحريات دون أي تمييز، بل تؤكد هذه المادة الهامّة، من خلال مضمونها الصريح بأن كرامة الإنسان هي أقدس من كل شيء، وهذه بالطبع أطيب ثمرات الكفاح الإنساني في العصر الحديث. ولا يزال المناضلون الشرفاء في كل أنحاء العالم يكافحون العنصرية، بسعيهم الحثيث إلى إزالة جذورها من الواقع، ومحو جميع صورها من الأذهان، وهي مهمة صعبة للغاية، ولكن استمرار نضالهم الحضاري على هذا الطريق الطويل، سوف يجعل العنصريين في حرج شديد، ويضعف سطوتهم وحضورهم، ويقلّص من حجمهم، وبهذا النهج المتواصل سوف يتزايد تلاشي هذه الظاهرة المنحرفة، ولو على مراحل متقطِّعة.
وفي أيامنا هذه، معظم الناس في العالم يزداد اشمئزازهم وقرفهم من العنصرية، ويتضاعف كرههم للأعمال العنصرية، ويشتد رفضهم الصادق للنزعات والخطابات ذات الطابع العنصري، وعلى الرغم من ازدياد هذا السخط النبيل، لا يرتدع العنصريون، ولا يخلو منهم مجتمع بشري، ولا يختفي شرّهم من الواقع، وبالغوص قليلًا في أعماق نفوسهم، سنجد أنهم أناس غير طبيعيين، ولو كان لديهم وعي إنساني حقيقي، أيْ غير عقيم ولا مريض، لما فعلوا ما يفعلون، ولا سلكوا هذا الطريق الشنيع المعادي للقيم الحضارية والإنسانية والجمالية، ولكن الوعي العقيم يفعل الشر وهو يعتقد أن هذا هو الخير بعينه.
ألا كم هي قبيحة العنصرية، وأقبح منها هم دعاتها، ومن يدافعون عنها، والذين يسكتون أمام تصرفاتها الشنيعة، وأصواتها البائسة والخطيرة. وعندنا عنصريون بلا حصر، ينتشرون في كل محافظات البلاد، ونعاني منهم على الدوام، وهم من الجهلة أو من ذوي العُقَد النفسية والثقافية. ولكن الذين يريدون أن يحكموا شعبنا بخرافة الحق الإلهي، وبالعجرفة الدينية والاستعلاء المذهبي، فسينتهون نهاية وخيمة، ولن يبكي عليهم أحد!