- ضياف البراق
وجهك ضبابيّ. قلبك ضبابيٌّ. حتى لغتك التي تكتب بها ضبابية أيضًا، مثل فلسفة الحرب وصورتها. حياتك ليست لك أيها الضبابي في كل مكان، لا أيها الشاعر لا تتخلَّ عن عُزلاتك وهوامِشك، لا تغْلقِ النافذةَ، دعِ الغُبارَ يدخُل، والضوءَ يخرُج. هي نافذة واحدة لا تتسع لجنونك المُضطْرِب مثل البحر إذ يهتاج، وباب وحيد كلما حاولتَ الدخول منه، قذف بك إلى خارجك المُخيف، ربما لا أحد من هؤلاء الفارغين يعرف حقيقتك، ولكنك غير حزين على كونك غريبًا، مجهولًا، ضائعًا في كل الطرقات والتناقُضات. نافذة واحدة هنا، باب واحد هناك، وأنت لم تزل وحدك، وفي رأسك عواصف غاضبة لا تهدأ، وأخبار سيئة تجيئك، باستمرار، من الداخل والخارج، من التحت والفوق، من البَعْد والقَبْل. جهات شاسعة ولا واحدة تحتضن عواطفك وأفكارك وآلامك، نساء كثيرات ولا واحدة ترقص معك بعد منتصف الليل، مسافات طويلة وكلها ضد خطواتك وأسئلتك وأوهامك، أضواء كثيفة تحيط بك، ولكنها لا تزيدك إلَّا ظلامًا واختناقًا. لا بأس، تلك هي حلاوة الحياة، وهذا هو جمال الأمل. ثمة جَمال ما، في كل هذه اللعنات القذرة. وثمة خير في هذه الخسارات.
تكتب قصيدة وتشطبها، تعشق امرأة وتنساها، تطلب البقاء وتركض إلى الفناء. قُلْ للحياة أنْ تبتسم قليلًا، قُلْها للرماد، للمقابر، قل للشعراء أن يضحكوا، وأن يغادروا فورًا هذه المسرحيّةَ الماتعة! إنك لستَ شاعرًا، أنت الجهةُ السادسة في الخريطة الممزَّقة، الجرحُ المفتوح في ذاكرة فَراشة تائهة في تلافيف هذا الظلام الأبيض، أنت اِرتطامُ وجه الصباح بوجه الغياب، صوتُ الماء المُتوتِّر في المواسير الصدئة، الابتسامةُ المتأوِّهة تحت حوافِر كوابيس الحرب، الصورةُ العارية والناقصة التي حفرها اليأسُ على خشبة الأمل المُغلَق، أجل، ها أنتَ لست شاعرًا، ولن تكون لك هذه الصفة بعد الآن، أنت الهَباءُ متطايرًا في الفضاءات غير المرئيّة، والقصيدة لن تنام على صدرك هذه الليلةَ.
عليك أن تغادر هذه اللعبة اللعينة، الحياة، لكن ليس الآن ولا في المستقبَل، غادرها وحسب، وأنت تحبها، لا وأنت تكرهها. عِشْ كما تشاء، وقُلْ ما تشاء، لا شأن لي بك. هذا مع أنك صاحبي الأقرب، ومع أنني أنت، أوْ أتقمَّصُ شخصيتك لأول مرة. في نهاية المطاف، في نهاية هذا الاحتفال العشوائي اللعين، الجميع سيغادرها، ولن يبقى شيء فيها، أو منها، سوى الرماد اللذيذ. رماد الأشياء والكائنات والكلمات والسجائر. ورماد العِبادات المزيَّفة والضحكات المؤجَّلة. إنه لمن الجائز أن تفعل في حياتك ما تشاء، كأنْ لا تنبس بحرف مثلًا، وأنا بالطبع لا أريدك أن تغادر فارغًا من كل شيء. رسالة الحب التي ستكتبها قريبًا، وتبعث بها إلى حبيبتك، أو إلى أي جثة تستحقها، ينبغي أن تتضمن شيئًا من هذا الزكام والنعاس والأنين والضجيج والفرح. الرقص جنون جميل، طقسٌ ضروريّ لتحويل الجسد إلى شِعْر، إلى طاقة، إلى شجرة، فحاول أن ترقص حين تكون على شفير هاوية، أو بين القصيدة والرصاصة، وبين حبل المشنقة ولهيب المحرَقة، وبيني وبينك. حاول أن ترقص دومًا، فلا تحتاجُ إلى مناسَبة، أو سبب، أو إيقاع، أو مساحة من الأرض، أو تصفيق من الآخرين. حذارِ منهم إذا صفّقوا لك، وفِّرْ تصفيقهم عليهم، وعلى نفسك، لا تصدِّقهم، لا تكترِثْ، فأن ترقُص يعني أن تتحرّر، أن تصير حُرًّا تمامًا. واسمح لي أن أرقص معك عندما أرغب بذلك. لا تقلق مني، فأنا أعرف أن جارتك القديمة ما زالت مُراهِقةً، مثلكَ، وأنها تثير انتبهاك وشغفك في الصباح والمساء، وتغتالك بعطرها الشهْوَي الخَطِر، ولكنها إذ تقترب منك، تظل بعيدةً عن أصابعك الطائشة؛ فهي تخجل أن تراك خائفًا أمامها كما حدث ذلك اليوم. جارتك التي لا تقرأ ولا تكتب، ولا تنتمي لأي حزب سياسي، ولا يخدعها أي شيء. بالطبع هي جارتك التي قالت لك ذات مرة، ذات انكسار، بأن الحياة أبسط بكثير من تعقيدات وأوهام وتفاهات الثقافة والمثقفين. وإنها لمُحِقّة في هذا. جُلعتُ فداكِ يا جارتي الطاهرة. جارتك القديمة لا الجديدة.
البارحةَ بكيتَ عندما خلعتك أحلامُك الرائعة، تخلَّت عنك دونما سببٍ، وتلاشتْ، ولن تعود إلى حضنك المسكين. حتى رائحة الوردة الذابلة، رأيتُها تقتلك، فيما أنت لم تكن تقاومها بشيء، كعادتك. بكيتَ عندما رأيتَ عُمْرَك الجميل منثورًا على مائدة الريح، لكنك لم تشعر بالخوف. الخوف الوحيد الذي شعرتَ به كان أنتَ، أو كان خوفَك من خوفِكَ. بكيتَ على حقيبتك التي نسيتَها، قبل هذه الحرب، على مقعد قديم في الباص الذي لمْ تركبه قطُّ. حياتك ذابت هناك، في المقعَد الذي لا أعرفه. البارحةَ بكيتَ أيضًا على ذكريات جميلة خبّأها قلبك في جيبوب تلك الحقيبة الأنيقة. حاولتَ أن تمسح دموعك بأي شيء أمامك، ولكنك لم تستطع حتى أن تحبس غليان هذيانك في صدرك، فجرفَك سيلُ الهذيان إلى حفرة كبيرة في الشارع. في طول الشارع وعرضه، لمْ ترَ أحدًا، كنتَ وحدك، عاريًا إلّا من البكاءِ الصارخِ في الفراغ عبثًا. دائمًا كنتَ وحدك، ولمْ تصِرْ شيئًا حتى بعدما أصبحتَ شاعرًا. وبمحض الصدفة، ولحسن حظك، أعطيتُك يدي الوحيدة كي تمسحَ بها دموعك البريئات لكن وجهك الضبابي كان بعيدًا عنك، فبقيتَ حاضنًا الرصيفَ، مُستسلِمًا للبكاء الأبدي.
لا تحاول، ولن يبكي معك أحد، أنت لم تعد شاعرًا كافيًا للحياة، أفسدك هذا البكاءُ الطويل، وخذلتْكَ الكلماتُ والمصطلحاتُ والصديقاتُ والمرايا، غير أنك ستكتب قصيدة جديدة ضد حرب آتية الآن في الطريق. حربٌ ستندلع بعد قليل وتهدم كل شيء. فكن مستعدًا لها، ولا تنسَ القصيدة الجديدة. قُل كلمتك وامشِ.