- كتب: فارس العلي
الثراء اللوني في لوحة ” شبام حضرموت *” المعلقة على أحد جدران مقيل الرائع فيصل سعيد فارع ، تعطيك محايثة لأمكنة التشكيلي المبدع عبدالجبار نعمان وطريقة تصوره لشكلانيتها..
لطخات لونية عشوائية تظنها الوهلة الأولى لكن الإمعان في الرؤية تنقلك الى فضاء الاشتغال التشكيلي للجمال، تعبير عامد يستحضر التأثيرات الخارجية المحيطة بمدينة شبام إذ يرسم الفنان لوحته بوعي إبستمولوجي..
اندلاق قطرات لونيه من الريشة على الأرض يخلق لوحة تتحاذى قطرة فقطرة.. إلى أن ، تحتل فرصة الإحساس بوجود فنان ما في المكان و خارجه،
اللوحة المنسية والمعرضة للإغتيال تحدث أحيانا جراء النظافة والإزالة التي تحدثها عناية و ترتيب المكان.
نعود للوحة شبام بثمة لمحات للألوان العشوائية محتلة فناء المدينة، خالقا بذلك أكثر الأسئلة وجودا وشرودا مثيرا وعاصف يحاول احتلال فضائها ، كما أن صعود لون الهامش ارتسم المدينة بضلاله، ذاتيه توحي بتشكيلي على قدر من الوعي بمآثر المدن وحركية الأفكار المتنوعة التي تحاولها أيديولوجية و تطلعات الأفراد و الجماعات ، بما فيها الاتجاهات العنيفة أو السلبية وممارسات تعديلات أو مدخلات جديدة من مهددات المدن التاريخية.
التشكيلي عندما يختار مدينة ما يعطيها تأويله وقراءته الآنية لها و لمستقبلها، قد يرسم فكرة المدينة قبل حتى وجودها ! تخييل يقدم للأركيولوجيا صورة لآثار الحضارة العميقة.
لماذا أحتل الأحمر ساحة المدينة في لوحة شبام حضرموت ؟ و الدم دليل الحياة والموت أيضا ، لكننا سنتساءل أكثر عن مدينة غارقة في الأزرقاق و انفاسنا مقطوعة ! مع انه موجود ضمن اللوحة الجميلة والفريدة كأقتراح سماوي؟ حينما تنظرها بفنية لا تلمح مآثر ريشة، والرسم بالسكين إيحاء خطيرا للوحة ابتهجناها بعمق أكثر من 2000 عام ، مخاطر ما تتعرض له المدن التاريخية ضاربة القدم نتيجة التطرف بمعناه المفتوح من تأثير الأصولية الراديكالية والحداثة إفناء الماضي وابتعاثه بتصورات الحاضر الهش، تجرح التذكر الميثولوجي.
حاول الأبيض إعطاء تنوين مناسب للإحاطة بسكونية ما يمكن أن تقوله تريم للمستقبل بإحساس إنه مازال في المدن التاريخية أسرار أرواح وتجسيدات لم تكشف بعض مفاتنها و غرابة صمودها ، صفحة مازالت بيضاء وتنتظر من يملأ عجائبية مخبوءها.
في الأخضر ليس حياة معرفية باذخة وحسب بل انه تعبير مبلل عن علاقات وعواطف مورقة بالأمل ومواعيد العشق والغرام، والضحك في اصفرار الحب يعبر روائح المدينة، وعلى مقربة منها أهم سوق في تاريخ الممالك القديمة على الأطلاق، يقدم مأدبة علاقات عابرة لسبيل المغرمين يذرون الروائح الزكية والبخور والذهب والمر واللبان المقدس يعتق بوح ريشه.
لدى فناننا الكبير عبدالجبار نعمان حرية اللوحة، وهو يعتمد إيجاز الفكرة، ليس ابتداء من العموميات بل من الهوامش لرسم انطباع التفكير الإبداعي، وإقامة بهجة المعنى أو الدلالة المريحة أمر قبضت الكلاسيكية عليه..
فيما اختارت الحداثة الرمز الإيحائي بعيدا عن المحاكاة الساذجة لإفلاطون، بمعنى أنه يأخذ صراع ظلالي يعش في هامش الحدث قد يكون طارئ في حركته لكنه جزء أصيل ضمن تكوينات المشهد الملتقط، ثم يناسل تساؤﻻت اللونية تجاه التاريخية تفسيرا وانبهاما ليلتبس إيقاع المشهد برمته، وكان تقدم إلينا بشيء، لم ندركه إلا حينما صُدمنا بلوحته، والتساؤلات يخبئها التشكيلي وراء اجابات المدينة التي يفترض بنا فك شفرات آثارها لإيقاض كينونة المعنى.
طريق حدث المستقبل : لوحة شبام حضرموت، تعبير توجس قِدم مضى إلينا بقامة منحدثة فيها تدخلات وفضول خادش ، وقد أدى بحواضر ممالك سبأ وأوسان وقتبان ومعين لحتوف وخيمة، علة الطغيان ومآلاته الكارثية.
خلفية اللوحة جبال الله محتدة ذودا عن المدينة من غدر الخلف وﻻ ندري …؟ فوحده عبدالجبار يعرف ماذا ومن يتواجد أمام المدينة في الحيز المتوقع الذي خبئته الظلال، لعبة إفشاء قلق اللون وتخوم غموص المستقبل، تحدي يدع لأخلاقنا تقدم الحياة ، أو العكس.
نخمن المتواجدات في إبهام جماليات الفن التشكيلي، وانشغاله بالتساؤﻻت والمصائر كدلالات عشوائية سيروية، و ننتجها نحن المحدقين بدهشة قرائية تحاول كشف الحقيقة الغامضة دوما في الأعمال العالمية العظيمة.
استبقاء مستقصد لئلا يكشف قناع الحياة بإنتهاء الفرادة .. ببهتان الجمال، حينما يحدث ذلك تصبح حياتنا تقريرية محضة كنشرة أخبار التاسعة المليئة بصورة مجاعة العالم وتشبع عنفه المضطرد، وتفاقم رغبة الإنهدام في التوسع إلى الأصل البنيوي الأول ..حينها فقط يحدث خراب العالم ويعود إنسان الدرانتال وحشا لأصلنا البشري.
هامش :
- اسم لوحة شبام حضرموت، أطلقته بدواعي ذاتيه أو شخصية.. ولا أدري إن كان لها اسم خاص بالفنان الراحل الكبير عبدالجبار نعمان.