كلمات : مطهر علي الارياني
غنــــاء : علي عبدالله السمه
- كتب: د. عبدالعزيز علوان
لم يكن البقاء في ظل الظروف المعيشية القاسية التي عاشتها اليمن ، سهلا ، وآمنا ، وملبيا لكفاف العيش، في المقابل لم يكن السفر والهجرة إلى البلدان المجاورة لليمن يتم على جناح طائر ، أو على ريشة برق ، بل كان أشبه بالسفر في جحيم ، لا تطاق رؤية مآسيه ، أما الدخول في تفاصيل أسفاره ( إلى الدول التي كانت تضع قيودا على دخول المهاجرين إلى أراضيها ) فقد كان للتهريب عصاباته المدربة على ذلك ، وكان يتم التهريب في بعض الأحيان أن يوضع المسافرون ( النزوح ) داخل البراميل كبضاعة حسب مطهر الإرياني .
الباله القصيدة/ الأغنية ، شاهدة أسى مضى ومآس اخرى لا زالت تمخر عباب المعاناة اليمنية إلى يومنا هذا، وثقت هذه القصيدة الأغنية، إلى جانب سِفر محمد أنعم غالب ( غريب على الطريق ) مآسي هذه الهجرات.
القاسم المشترك بين قصيدتي ( أنعم ومطهر ) هو الغربة هروبا من نار الواقع إلى رمضاء الهجرة اللانهائية الأسفار بحثا عن لقمة العيش .
( الرائي اليمني عبدالله البردوني ) وثق جزاء من هذه الهجرة الضاربة في عمق التاريخ بقصيدته(( غريبان وكأن هما البلد) المقارنة بين الأعمال ليس موضوعنا.
مطهر الارياني،زوعلى عبدالله السمه بهذا العمل خلدا المأساة اليمنية ، التي لا زلت تصاحب اليمني حتى الآن بطرق مختلفة.
فالباله كما يصفها مطهر الإرياني : لحن شعبي يتكون من صفين متقابلين ، وقد تشاركهم النساء يرددون وهم يرقصون ، كلمات متنوعه مع هذا اللحن ( الباله والليل الباله )، وللباله تقاليدها المختلفه في المناطق اليمنية الكلام لـ ( مطهر الإرياني ).
كلاهما (الشاعر والفنان ) يرتديان قناع المهاجر اليمني ، الذي أفتتن بلحظات الهمسة العابرة ، بأشذائها وهمساتها وذكريات الصبا ومفارقة الأهل أيام العيد .
هذه النسمة اللحظية ، جعلت الجميع بما فيها المستمع حتى الآن يعيش كآبتها المريرة وتوجعها الدائم ، سواء كانت هذه الهجرة داخلية أو خارجية ، أو حتى اغتراب يعيشه المرء في طيات ذاته.
لحظات التجلي في أثر النسمة السارية
تبدأ القصيدة / الأغنية ، بصوت السمه بنبراته العااااااالية بهذه الباله يـاالبـالــة والليـــلة الـبــال ، مستفسرا عن( مال النسمة السارية) بمعنى .
ما الذي حصل أو جعل هذه (النسمه السارية )؟! بخفتها ، تقطع المسافة الممتدة من جهة الشرق ( اليمن ) ، حتى وصلت إلى الجهة الغربية المقابل (عصب – أثيوبيا ) . التي يقيم فيها المهاجر اليمني ، كفرد يتخذ صيغة الجموع المهاجرة محملة بشذى البن ، والهمسة الحانية ، بدفئها ، ودغدغة المشاعر الانسانية.
أم أنها ( النسمة ) أنبثقت ؟! كبوح مصاحب للحظات التجلي الشعري، إذ الملاحظ إنها ليست تجربة ذاتية للشاعر ( مطهر الإرياني ) وإنما اتخذ الشاعر من المهاجر قناع أستحضره ( من اللاوعي المخزون في ذاكرة الهجرة اليمنية المتواترة عبر العصور) .
في لحظات التجلي الشعرية(التي يكون فيها الشاعر ، غيره في المعتاد ، إذ أنه يرى بالف عين ويسمع بألف أذن ، كما يقول البردوني ) في لحظات كتلك تهب النسمة السارية من الشرق ( اليمن ) صوب المهاجر المقيم ( في القرن الأفريقي) محملة بمجموعة من المثيرات المهيجة للحنين والشجن والاشتياق والذكرى.
نفحة الكاذية( أحد أنواع المشاقر المعروفة ، تحاط القبوة البيضاء بأوراق خضراء، تكون للقبوة رائحة عطرية مميزة).
تغنى كثير من الشعراء بقبوة الكاذي ، مثل ( ياقبوة الكاذي ريحان قلبي .. ذويزن) تغرس قبوة الكاذي ( كمشقر ) في رأس الرجال بمحاذاة العمامة ، وتوضع محاذية في خدود النساء:
والليلة البال مال للنسمه الســـاريــة
هبت من الشرق فيها نفحة الكــاذيـة
تمازجت هذه النسمة بأشذاء البن ، وتناغمت مع همستها الحانية ( بكل بما تحمله من حنان )، عن ذكريات الصبا وكأن هذه الذكريات عودة مضمرة لطفولة الأرض اليمنية الغالية:
فيها شذى البن فيها الهمسه الحانية
عن ذكريات الصبا في ارضنا الغالية
يبدو أن أثر تلك النسمة قد بدأ في استعادة الذكريات المرحة في أيام وليال العيد ( عيد الفطر أو الاضحى ) ، لتتحول ذكرى أيام العيد إلى مكبوت نفسي قابلا للانفجار الصوتي بعيد لحظات من تتراكمها .
طوفان من أسى ، يداهم فؤاد الشاعر ، الذي لم يعد فؤاده قابلا للمزيد، فقد توزع هذا القلب وديان اليمن (وادي بنا) و( وادي زبيد) ، وهو هائم أسير الغربة القاصية:
ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد
قلبـي بـوادي بـنا وابيـن ووادي زبيــد
هايم وجـسمي أســير الغربة القاصية
البقاء في زمن الفنا تمهيد للهجرة
الخروج من البلاد ، كان في زمن( الفنا) والفنا مرض ( جائحة الطاعون) الذي داهم اليمن أنذاك ، وقد إقتات الكثير من الأطفال والرجال والنساء ، واتخذ اليمنيون من مروره تاريخا لهم ، ( سنة كذا وكذا من زمن الفنا ):
خرجت انا من بلادي في زمان الفنا
أيام ما موســـم الطاعون قالوا دنـــا
حصد المئات من الأهالي في القرى التي أجتاحها
و من حظي (النكد) الشقي، يقول الشاعر (عشت أنا) أزرع الأرض ، ولكنني لم أحصد سوى روحي الذاوية ( تحت وطأة متاعب زراعة الأرض التي يأتي محصولها للغير):
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت انا
عشت أزرع الأرض وأحصد روحي الذاوية
يتذكر الشاعر ( أخيه ) وهذه المفردة لا تعني القرابة البيولوجية، وإنما تعني أن كل يمني يعتبر أخا للآخر، ( الأخوة في الوطن ) بقوله ذكرت أخي كان تاجر ، بائع متجول ، في أي سوق أو مكان من الأماكن التي يرتادها ، يفرش بضاعته ، ولكن عسكر الجن ( الامام ) جاؤا و شلوا ما معه من بقش ( عملة يمنية الريال = 40 بقشة) :
ذكرت أخي كان تاجر اينما جافر
جوا عسكر الجن شلوا مامعه من بقش
واحتجاجا على هذا الوضع بكر غبش وحين سُئل (أين رايح ) إلى أي جهة مسافر قال أرض الحبش
و( سار ) وأتت أخباره اليوم بأن حالته ( ناهية ) مليحة أو سابرة:
بكر غبش أين رايح قال أرض الحبش
وســـار واليوم قالوا حالتـــه ناهيـــة
شيء من هجرة الشاعر
وطالما تحسن حال الذي قبله ، بكر الشاعر مهاجر مثل من سبق ، ظافرا في البكر بهذه الهجرة، بدايات الفجر ، متخذا مع زاده ( اللقمة) ريالين حجر ، دلالة على صعوبة العملة التي كانت أنذاك:
بكرت مثله مهاجر والظفر في البكـــر
وكان زادي مـع اللقمــة ريـالين حـجــر
ذهبت في ساعيه (السفينة الشراعة) محملة بجلود البقر وبالبن وهما أهم صادرات اليمن يتاجر فيها المحظوظ لدى الإمام أو زبانيته:
وابحرت في ساعيه تحمل جلود البقر
والـــبن للتـــاجر المحظــوظ والطاغية
بحثت عن عمل في ( الدكة ) الدكة باللهجة اليمنية هي الميناء التي رست بي فيها الساعية ( السفينة الشراعية) و( عصب ) مدينة أثيوبية ، وبحثت عن عمل ما ، في الطرق والمباني ، ولم أجد طلبي ، دلالة على أن اليمني يمتهر كل الأعمال :
بحثت عن شغل في الدكه وداخل عصب
وفي الطـرق والمبـاني مـاوجدت الطلب
بعد أن أعياني التعب ، شكيت لأخواني ، المهاجرين من أمثالي ، البلوى ، ما حصل في هذه الهجرة والمتاعب التي واجهتني بسببها، وعندما أشاروا لي إلى البحر ، قلت وراهم البحر وا ساعية:
شكيت لاخواني البلــــوى وطول التعب
فقالوا: البحـــر قلـــت البحـــر واســاعية
الهجرة في عرض البحر
هجرة ثانية ، دونما جهة محدده ، ظل فيها في هذا البحر عامل (15 سنه ) في احد المراكب اليونانية ، يقوده كابتن شديد المراس في عمله ( حازق الكبتنة ):
وعشت في البحـر عامــل خمستعشر ســـنة
في مركب اجريكي أعور حازق الكبتنة
العمل الذي حصل عليه تزويد المركب بوقود الفحم ،
وبسبب مخالطته للفحم ، صار جسمه أسودا ، و بهذه السنوات طاف مع هذا المركب ( بلود ) بلدان أرضها قاصية ( بعيدة جدا ):
وســثود الفحــم جلـــدي مـــثلما المدخنة
وطفـــت كــــم يـابلــــود ارضها قاصية
مثل كل الطيور ( القواطع) تعني الطيور المهاجرة، طفت كل الجزر ، التي ننزل فيها ، للتزود أو للراحة أو لأي شيء آخر ، وبهذا التطواف غويت ما شاء لي من الغواية والغواية هنا التيه ( لوما ) حتى كرهت السفر:
مثل الطيور القواطع طفت كل الجزر
غويت لي ماغويت لو ماكرهت السفر
أخترت (حي الدناكل ) بائعا للحصير، وبر الدنكل الأرض التي تسكنها قبائل في السودان ، والحصير هو ما يبتنى به العشش ، أو يفرش على الأرض وكان هو التجارى المرغوبة أنذاك:
واخترت بر الدناكل متجــر بالحــصر
من حـي لا حـي يامركــب بلا ســـاريه
غريبا نزل في الشاطيء الغربي البحر الأحمر، حيثما حل جسد المهاجر ، بينما ( روحه ) اليمن تقع في الشاطيء الشرقي من هذه المنطقة:
غريب في الشاطي الغربي بجسمه نزل
والروح في الشاطي الشرقي وقلبه رحل
فا ليت ، يطلقها الشاعر متمنيا أن يضيق البحر الأحمر ، ويتصل باليمن ، أو أن هناك جسورا تمتد إلى الضفة الشرقية الثانية( اليمن):
ياليــت والبحــر الأحمــر ضــاق ولا وصــل
جســـور تمتـــــد عـــبر الـــــــضفة الثانية
حالة من اليأس والمرارة ونكد العيش ، يعشها المهاجر ، وتخفيفا على النفس يترحم المهاجر على أمثاله من المهاجرين ،( وكأنه هنا يخفي مدامعه هو) فيقول : ليس على هذا المهاجر ملامة لو بكى ، في وضع كهذا ، وأبكى ( إثر بكائه ) الشجر والحجر:
من كان مــثلي غـــريب الدار مــاله مقــــر
فماعليه إن بكى وابكى الحجــر والــشجر
و في حالة من التهكم المتحسر بالسخرية، تقول القصيدة / الأغنية؛ للنفس أو للآخر إبك وصب الدمع مثل المطر ، ومن دم القلب اترك دمعتك جارية بدون انقطاع:
إبكي لك ابكي وصب الدمع مثل المطر
ومــن دم القلــب خـــلي دمعتــك جــاريه
الرجوع وأسبابه
في هذا المكان من الغربة (غنيت ) والغناء تنفيس عن النفس وتخفيف توجعاتها ، هذه الأغنية تضرع إلى ( الرب ) عدم المزيد من الهيانة ، ( و يا الله لا هنتنا … أغنية كان يرددها المهاجرين حسب مطهر الإرياني ):
غنيــــت في غربتـــي يــالله لا هنتنــا
ومزق الـــشوق روحي في لهيب الضـــنا
وكما قادت الأسباب التعيسة المؤلمة للهجرة ، أضطرته هي أو ربما أشدها وطأة للعودة إلى بلاده التي وصفها بديار الهنا ، فهي جنته ، وملاذه ، وهي أمه الحانية:
راجــع انـا يـابــلادي يــاديــار الهنــــــــا
يــاجنتـــي يـامـــلاذي يـاأمــي الغاليــة