ألحان : محمد أحمد بشر العبسي
غناء. : الفنان عبدالباسط عبسي
- كتب: د.عبدالعزيز علوان
جمع ، ومازج الفنان عبد الباسط، في هذا العمل التراجيدي ، كل الصور التعبيرية التي يتركها الهجر والفراق ، جاثية فوق صدر القرى، مع ( مسعود هجر ، ومظلوم معك ،) بلحن وأداء يتقارب حينا ، ويتخذ من انفعالات كل أغنية ، مصدرا إيحائيا ، لا يبرح أن يأخذ المستمع معه إلى آخر الأغنية ، التي تترك أثرا قويا فيه.
تَلبَّس حال الهجر، اللحن والصوت وصارا مزيجا متجانسا من التوجع ، الذي يصبنا من آلامه ، ما أصابهما، ومع هذا الألم ، نجدنا نتوق إلى الاستمتاع بهذا التوجع الوجودي مع صوت الفنان عبدالباسط ، كجرعة علاجية مؤلمة لابد منها.
أغنية لما لما تحاكي واقع الهجر المرير ، والتحسر على ذهاب الأحلام، كما انها تعبر عن حوارية بين طرفين يظهر الطرف الثاني بصيغة ( ك ) المخاطب.
القصيدة عمودية أتخذت من (كاف) المخاطب قافية لها ، مما يدل على المواجهة الشديدة المرارة بكل أسئلتها الإنكارية ( التي لا إجابة عنها ) ؛ بصيغ مبالغتها المسندة للتوجع ، الظلم ، والرجوع الأقسى من الهجر ذاته.
الزمن المهيمن على القصيدة الأغنية هو الماضي بكل ثقله، الجاثم فوق صدر الأيام المتبقية من العمر، إنه الزمن القابع ، في اأبدية ماضيه وغياهب مطوياته .
فـ(لما لما عد أجيت ) لماذا أتيت (عُدت مرة أخرى) ، وما هو الشيء الباقي معك ، فقد كانت بداية أحلامي وآخرها معك.
أي أن القصيدة / الأغنية / المرأة ، بهذا السؤال ، لم تنتظر الإجابة من المخاطب ، ولكنها أجابت عن سؤالها ، بفتح القوس الأول من حياتها بأحلامها معه، وأغلقت بالقوس الثاني نهايتها معه أيضا .
وكأن حياتها التي عاشتها قبل بدايه القوس، كانت خارج الوجود، وبالمثل فإن الحياة التي تعيشها بعد إغلاق القوس ستكون محض ندم وعدم:
لما لما قد أجيت ما عد معك
من بين القوسين نستشف الانتظار الذي أكل من عمرها العمر ، وشرب من تصبرها ينابع مرارتها ، وها هي عودته اللامتوقعة ، لن تعود ، بها لبدايات أحلامها الماضية، ولن تستطيع أن توصلها إلى الغد الذي يجمعها به مرة أخرى:
بداية أحلامي وآخرها معك
إنه الهوى كان (غنوة) ؛ أغنيها أنا القصيدة معك ، (ولو اعتبرنا هذه الغنوة كومضة شعرية مكثفة) ، نجدها تتدفق بإنفعالات شتى، و بتضجر ليس له حدود ، و بإنجذاب ( إليك) يتفلت من كل القيود:
كان الهوى غنوه ، أغنيها معك
بهذا التشرد الذهني الذي صار يجوب (أفيائك) الخلابة من دونما بوصلة، وبما لذ وطاب من تأملاتي في نجوم (سمائك)، وسباحتي إلى أعماق بحار هواك .
هذه الغنوة ( بقصرها المكثف ) التي كنا نغنيها معا ، لم تكن سوى وردة هوى ( وردة حب )، سقيناها معا بدمعي وأدمعك، بمعنى أنها أروت بملوحتها ، الملونة بالحرقة واللهفة ، أحلام يقظتنا معا ( نهارا ) ، وأرقنا المتوجع والمتباعد مساءََ، إنها الدموع التي أنهمرت أملا ، خوفا ، يأسا من المجهول الذي آلت اليه حياتنا:
ورده ونسيقها بدمعي وادمعك
يتوجه أسلوب النداء بـ (يا) النداء التي تستعمل لمناداة القريب أو البعيد ، ليضعنا أمام احتمال البعد والقرب لهذا الحب الذي ناثرته الرياح ، متبوعا بالسؤال الإنكاري ( الذي لا إجابة عنه ) عن الكيفية التي سيتم بها جمعه من تلك الجهات التي ناثرته الرياح فيها ( وكأنه شيء مادي ، يشبه العصف المنتثر أو العهن المنفوش في أرجاء الهجر ):
يا حب ناثرته الرياح كيف اجمعك
عدم القدرة في جمع الحب المتناثر ، مرتبط بعدم وجود ذكرى لأيامه الأولى، وكأن الذكريات هي من أقوى الدوافع التي تنطلق منها عملية تجميع الحب المتناثر.
إنها نظرة يائسة، للحب الذي كان، فالذاكرة لم تعد تألف ذكرياتها بعد إن صارت ملعبا لشعوذات الواقع الذي وجدت ( القصيدة/ الأغنية / المرأة ) نفسها تصارع بقائها فيه:
ماعاد ، لي ذكرى لأيامي معك
يستمر النداء ، المسبوق بـ ( يا ) ، لجرح الماضي القريب والبعيد والمستمر ، ويضاف نداء آخر للأسى كقريب ملازم لها بصيغة المبالغة وفي أقصى درجات التوجع بقولها ( يا لحن أنغامك جراح ) ، إنها صورة من صور التوجع المنبث من هذا النغم، الذي صار وخزات ينبث منها الجرح ، فكيف في مثل هذ التوجع يكمنني أن ( اسمعك ) والسمع هو اكثر الحواس التي تأتي منها المعرفة، وعلى إثر المعرفة تكون الاستجابة:
يا لحن انغامك جراح كيف اسمعك
ومع كل هذا يستمر النداء لحقيقة الجرح الذي سببه ماضي الهوى ، متبوعا با الصيغة المنتزعة من تأوهات الأعماق ( كيف أسمعك):
ياجرح يا ماضي الهوى كيف اسمعك
يتتابع الخطاب بالقول ( بادرتني بالهجر ) والمبادرة أرتبطت بالعمل الطوعي في الجوانب الاجتماعية ، أو السياسية ، ولكن مبادرة الهجر هذه اتخذت طابعا آخر ، لتأت صيغة تسأول انكارية تعجبية في ( قلبك طاوعك ) بمعنى أتعجب للكيفية التي طاوعك قلبك باعتناق هذا الهجر..
المطاوعة هي المدوامة على الهجر الذي أصاب كل شيء مني في مقتل، الجسد الذي لايقوى على حمل أبعاده الزمانية والمكانية، والروح المتموجة ، بأوجاعها المزمنة في الديمومة الزمنية ( الماضية والحاضرة والمستقبلية ):
بادرتني بالهجر قلبك طاوعك
الهجر لا بد أن يترك شيئا ، ما ، وراءه ، ولهذا ( سيبتلي ) تركت لي الأحزان تحتل موضعك التي كنت فيه، وهنا صارت الأحزان شيئا ماديا ( والمادة هي كل مايشغل حيزا من الفراغ له كتلة وحجم ).
فالموضع الذي تركته شاغرا بحيزه المكاني والنفسي، قد أحتلته هذه الأحزان، فحيث كنت أجدك إلى جانبي، صار محتلا من قبل الأحزان، وحيثما كانت أنفاسك تستنشق معي نسائم الهوى أصبحت مستوطنات ومرعى للأحزان..
هذه الأحزان أحتلت كل تحاسيسك ومشاعرك ، التي تركتها شاغرة، وشغلت كل ما يحيط بي، في ذات المكان والزمان الذي صار مرتعا خصبا لإحتلالاتها. (صحوا أو مناما ):
سيبتلي الأحزان تحتل موضعك
يأتي القول ( يا مستحيل المستحيل ) لمناداة المستحيل بشقيه ( القريب والبعيد ) وكأنها هنا تؤكد هذه الاستحالة ( الزمانية والمكانية) بسؤال إنكاري آخر كيف افهمك ، وانت خارج واقعي المدرك ، ويطلق المستحيل على الواقع الذي لا يمكن ادراكه أو مبررا لعدم الرغبة في متابعته ):
يا مستحيل المستحيل اني افهمك
أنكسر قيدي الذي يربطني بك، كقيد رابط بيننا إلى حلقتين منفصلتين كل حلقة في معصم الآخر ، والقيد المادي هو سلسلة حديدية توضع في طرفيه حلقتين دائريتين ، تقيد بها اليدين ، معا أو توضع إحدى الحلقات بيد والثانية بيد الآخر لتوصيل المتهم إلى أحد أقسام الشرطة ) ..
أما مايربطني بك هو قيد معنوي ؛ أنكسر إلى حلقتين أحدهما في معصمي والثانية في معصمك، وظل محيطا بهما ، والمعصم يدل على العصمة ( الوقاية):
قيدي انكسر ذا معصمي ذا معصمك
(رجعت يا ماضي الهوى) عدت ياماضي الهوى ، فمن ذا الذي أرجعك ، إنه السؤال الأكثر توجعا من الوجع المتغلغل ، في كل الخلايا التي قيدها إنكسار القيد إلى معصمين :
رجعت يا ماضي الهوى ما أرجعك
جاء هذا التساؤل متبوعا بصيغ المبالغة التي أودع فيها قلبي هذا الماضي في طيات النسيان :
في طيات النسيان قلبي اودعك
يلتفت الخطاب بعد كل تلك المقدمات ، بفعل الأمر ( سر ) للألم وللفراق بأن يذهب كل منهما للمغرم بهما، وكانهما شخصان يسمعانه، وكأن هناك من يغرم بهما حتى الثمالة:
سر يا ألم سر يا فراق لمغرمك
(بدلت) البدل ، أخذ شيء مقابل ترك آخر أو بديلا عنه، وها أنت بدلت عني في الهوى بآخر ، فما أشد ظلمك:
بدلت عني في الهوى ما أظلمك
الأغنية ، خالية من مفردات القرية، المشقر، الحوية ، الحول ، الراعية ، ولكنها هي الأشد مأسوية ، لهجر تجلى في أبعاده المؤلمة ، وأعماقه الموجعة ، وهذا في ظني السبب الأهم الذي جعل الفنان عبدالباسط يختار هذه الأغنية ، في سياق مشروعه الغنائي ، كترجمة وجودية للمعانات الانسانية:
- الشاعر عبده علي ياقوت الذبحاني ( مواليد ذبحان 1940- 2006 ) من أوائل الشعراء الذين ، كتبوا الأغنية اليمنية ، بالعامية ( الحجرية )