ألحان وغناء: عبدالباسط عبسي
- كتب: د. عبدالعزيز علوان
رحلتان ، تأخذك معهما القصيدة /الأغنية -أيا كانت – الأولى القراءة الصامتة في رحلة مع صورها وأنفاسها المسطورة، وكأنها تمثل طاقة كامنة بين دفتي ديوان الشعر ،(كوجود كتابي).
الثانية، القراءة المتحركة وتمثل الوجود القولي ، في حركته المنسابة صوتا ولحنا، المتخذة شكلا آخر من أشكال الطاقة الأخرى (الطاقة الصوتية) مثلا .
من خلال التأوه المتضرع بالنداء ( يااااااارب ) الممتد إلى علياء السماوات تضرعا وشكوى وتضجرا ، مرورا باستيقاف العندليب ، والرجال ، ولزعه الغائبين ، وانتهاء بدعاء القرية على نفسها بالويل بسبب طول غربة رجالها ، نجد أرواحنا تسبح في فضائي الهيام ( الفتيحي / العبسي ) غير قابل للانفصال .
في هذا الفضاء ، نجد بوضوح أن الشاعر بصوت الفنان قد ألتزم الحياد التام مع ( العندليب “رمز للشباب” ، الرجال ، الغائبين) .
مسائلا الأول والثاني، ومستلخصا ماحل ( بنا ) في غياب الثالث بعد أن ترجما معاناة كل الأطراف (الغصن الرطيب ، الجبال والشعاب ) تحت وطأة الغربة ، وكذا الويل ، العنوان الأبرز للدعاء الذي دعت به القرية على نفسها بسبب طول الغربه.
تبدأ القصيدة / الأغنية / الصوت بالتأوه المصاحب للنداء الممدود ( يااااااااارب ) موضحا بأن كل شيء قد أصابه ملل السكون المقيم فيه ، حتى تلك الطيور قد ملت أوكارها ( أعشاشها التي تأوي إليها وأنطلقت لمعانقة ضوء الفجر )
يااااااااااا رب
ياااااااااااا رب
حتــــى الطيووووور قد ملَّت
الأوكاااااااار
ولم يبق الى هذه اللحظة (الأشد وطأة من نأشئة الليل) غير هذا المناجيك يارب ، بدمعه الذي صار أنهارا ، إذا ما زرع جهيشه وأثماره للرياح ،وليس له من أنيس في طول ليله – الذي يقضيه مناجيا – ، سوى الكوكب السيار ، في حركته الكونية منذ الابد.
ماعد بقى الا مناجي دمعُه
كالأنهاااااااار
إذا زَرَع للــريــــاح جهيـشُـــه
والأثماااااااار
ليلُه طويل وأنيسُه الكوكب
السيااااااااار
ياااااااا رب .. يااااااااا رب..
ياااااااااااااااااا رب
ما أن يتنفس الفجر ، يستوقف هذا المناجي / الشاعر ، العندليب / الانسان ، بالسؤال الصدمة ( لا ين شتسافر وا عندليب ) إلى أي جهة شتسافر ياعندليب؟
في هذا الوقت المبكر (زمنا وشبابا)، فأوقات البكور هي من العلامات الملازمة لإستيقاظ الطير ، و كانت مصاحبة للسفر زمن القصيدة:
لاين شتسافر وعنــدليــب
تـَــذُر شبابــك ورونـقــُه
إزاء لحظات الذهول التي أصيب بها السامع/ العندليب يستمر الشاعر في توضيح ، ما سيترتب عليه السفر من الخسائر ، التي( يذر) يتبعثر فيها زهو شبابه ، ونضارة ( رونقه )، وهو يحيي به (كم = عدد غير محدد ) من ( فلا جديب ) من أراضي الغير المجدبة ، بيمنا الوحشة تسحق وكره ( عشه ) أي وطنه:
تحيي به كمن فلا جديب
ووكرك الوحشة تسحِقُه
يلفت الشاعر بعدئذ انتباه الطائر ليقول له ، بأن غصنه الرطيب اليانع بإخضراره ونضارة محياه يستحلفه بفتوته وقوة شبابه بعدم مفارقته (الاستحلاف بالشِبَه = الفتوه) كان معتادا أيام القصيدة، والشباب أغلى ما يمتلكه المرء، وكان الشاب لا يحلف ( بشبابه ) إلاٌَ صادقا، وليس حانثا:
يستحلفك غُصنك الرطيب
بِشِبتك لا تفـــارقـُــه
بعدئذ تتوجه القصيدة / الأغنية نهي العندليب ( بصوت الغصن الرطيب ) من عدم الذهاب إلى الغربة، مبينة ( بصيغة التهويل ) أن الدمع المصاحب لهذه الغربة سوف يلعب ( بخدي ويحرقه ) الكلام للغصن الرطيب اليافع الاخضرا أو ما نسميه نحن في الحجرية ( العكامد ) :
لا تغتـــرب دمعــي السكيـب
شِلعب بخـدي وشِحرقُــه
السؤال( لا أين ، لا أين ) يتوجه للرجال الذين شاهدهم يشدوا طريق السفر دون تحديد الاتجاه ، طالبا منهم العودة لأن كل الربا ( ج . رابية ) أصبحت تشكل عتابا لهم بعد أن فارقوها :
لا أيـن .. لا أيـن يا رِجَـــال
يا رجـاااااال
ردوا فــكــل الــرُبـــا عتـــاب
عتــــااااااااب
وبسبب هذا الفراق ( بِبُعدكم )، أجدبت الجبال واكتساها العُري ، وسافرت ( بَعدكم ) من خصوبتها الشعاب ، مع روابي البن والجمال:
ببُعدكم قد عَرت جبال
عرت جبااال
وبَعدَكــم ســافـــرت شعــاب
والله شعااااب..
روابـــــي البُـــــن والجـمـــــال
والجمـــااااااال
أصبحت كل هذه الأماكن بلا ( زنود) عارية من السواعد، سوى من كسوة الخراب التي تلبسها ، وهي تناجي ( السحب والنبال ) أدوات الحراثة، و من طول هذه المناجاة، جف ريقها ( لعابها ) ، وغاب عن أنظارها البتول:
بلا زنـود تكتســـي الخــراب
تُنـــاجي السَحــب والنِبــَــال
ريقِه يَحِف والبتــول غـــاب
ولما لم يفلح الشاعر في استمالة من سافر من الرجال ، بعد غياب البتول الذي أوحشه الخراب ، و عُري الأرض من خصوبتها ، يعطف خطابه بواو التبعية للغائبين هولاء الذين (ذوبتنا )جميعنا نار غربتهم ، (فيزيائيا التعرض للنار يعمل على صهر المواد ، الصلبة أو يبخر المواد المائعة) ، لكن نار هولاء الذين غابوا ( منذ الزمن المبكر للهجرة ) ذوبتنا في لحظات شاعرية، و جعلتنا (كبني آدم ) نهجل ، نغني ، نحلم بعودتهم. ( التغني بأمجاد وخصوبة الماضي ):
والغــائبيـــن ذوبتنـــا نـــــار غربتهـم
نهجـل نغنـي لهـم.. نحلــم
نحلم بعودتهـم
القرية ، تبدو كعاشقة يُبلي نضارة عمرها تقادم العمر والفراق ، نراها بأم أعيننا تستسلم لطقوس هذ التغير العمري ، ففي كل يوم ( تشير مفردة اليوم لأي لحظة زمنية ) يهب فيها ، عليها النسيم ، فإنها ( القرية ) تدعو على نفسها بالويل ( الهلاك) من طول غيبته الرجال:
ما يوووم هَـبَّ النسيـــم إلا وقريـتهــم
تقووووووووووووووووووووول، ويلي أناااااا.. أنااااا من طول غيبتـهــــم
إنها علاقة جدلية بين الأرض والإنسان ،بين ( الطين كمادة خُلق منها الإنسان ، وبين مكونات الحياة التي قال بها قدماء الفلاسفة ( التراب ، الماء ، الطين والهواء) لتضعنا هذه الجدلية إزاء السؤال : هل أستحتث القصيدة/ الفنان أن يجهر بصوته للإنسان بدعوته إلى أن يعود إلى أصل تكوينه ، بعد أن خُلق من ماء ، وسلك هذا العالم الأرضي ينابيعا بحثا عن ذاته المفقودة ؟؟!!!