- كتب: د. عبدالعزيز علوان
يضعنا العنوان أمام معضلة ، (مكانية وزمانية )، فجهة السفر الغير محددة، تفتح لنا ، آفاقا واسعة لتأويل النص الأغنية ، فـ (مسعود ) وإن كان فردا ، فقد صارا معبرا عن الذاكرة الجماعية لكل المهاجرين ، في كل مشارق الأرض ومغاربها ، وتغدو أيضا زوجة مسعود ، معبرة عن الذاكرة الجماعية ، لكل مثيلاتها ؛ من زمن الناس ذاك ، الموغلة جذوره في عمق التاريخ ، إلى أبعد من زمن يوم الناس هذا ..
تبدأ الأغنية ، بأكثر من توجع ، أولهما ، عدم وجود من سيزف البشارة لمسعود ؛ الذي هجر ، التوجع الثاني الكامن فيما وراء المصائب التي خلفها، الثالث يمتد، بطول البعاد الذي يبدو ، (من خلال كلمة طال) إنه جاوز الحد ، والتوجع الأخير لتلك المتاعب التي زادت متاعبها :
وعمتي منو شقل لمسعود
بعامنا الأول رزقنا مولود..
والبعد طال وزادت المتاعب
بالبحث عن أسباب الهجر، سنجدالنص يبرره لمسعود ، بقلة المصروف وكثرة الدين الذي أستدانه لتكملة(نفقه زواجه) ..
أما يوم الإثنين تحديدا، فقد أرتبط بمخلية القرية في الذاكرة الجماعية، بأنه أحب أيام السفر، طبقا لمورثات سابقة:
من قلة المصروف وكثرة الدين
بكر مسافر فجر يوم الاثنين
للوداع ، مدامعة التي لا تنسى ، ولوعوده ( …ِِ) توجعاتها الدائمة، لأنها من الوعود الذي يصل الوفاء بها ، إلى أن يُعد ، كأنه المستحيل نفسه :
وقت الوداع سلم وقال مودع
لا تحزني ششقي سنه وشرجع
ومع (أنه في لحظات الوداع) ، إلاًَ أن مسعود ، يؤكد لزوجته انه ، شفارقها بعد اسبوع من زواجهما، دامع العينين موجوع الفؤاد:
شفارقك بعد الزواج باسبوع
العين تدمع والفواد موجوع
الحنا ، بلونها الأحمر الغامق ، ورائحتها الخلابة، كزينة طبيعية، حيث كانت الزينة الوحيده التي تتزين بها المرأة في الأعياد ، وتتزين بها العروس في عرسها ،( خلافا لما يحدث هذه الأيام من مكياج يشوه جمال الفتاة ) ، وكانت الزفة تتخذ حيويتها من ملازمة اليد باليد للعريس والعروس:
شذكر الحنا وحمرة الخ
شذكر الزفه واليد باليد
تلك هي الوعود ؛ التي وعد بها مسعود زوجته ، وقت وداعه لها، وهي في ذورة شبابها حيوية ونشاطا وبهاءََ ، التي أوجزها بحمرة الخد .
لم تحدد المدة الزمنية ، التي أنقضت حتى تصل لتلك اليوم ، ما يجعل هذه الفترة الزمنية ، مفتوحة أمام القارئ للقصيدة والمستمع للأغنية:
وكأن هذا اليوم يقع خارج زمن زوجة مسعود وأبنها ،
فلا مكتوب، للتعرف على حالته ، ولا صدارة ( مصاريف ) ، وقد صارت وعوده خسارة:
واليوم لا مكتوب ولا صداره
وعود خلي كلها خسارة
سنوات مرت على هذا الهجر ، صار فيها القلب مسكنا للدود ، هذه الكلمة التي توحي ؛ بسوداوية ما آل إليه وضع زوجة مسعود ، وما تلك الدود سوى ( الهموم مترامية الأطراف ، القلق العصبي الحاد ، وغيرها من أوجاع الأرق المزمن ) وقد يكون له علاقه بالمثل الذي كنت أسمعه حين تشكو بعض نساء القرى حالها فتقول ( قلبي دود وعكابر سود ) معذرة لإيراد هذه الصورة في نفس الإطار السابق ، فهل حقا صار الحبيب ( مسعود ) عدما لا أحد يعرف مكان تواجده:
مرت سنين
والقلب مسكن الدود
ماحد درى أين الحبيب
موجود
في ظل هذا العدم ، الوجودي لمسعود ، تتوجه زوجه مسعود لعمتها ( أم الزوج ) بالشكوى ، تسألها أن تبصر لحالها، شباب ضاع منها ، طالت لياليها أرقا ؛ وانتظارا وتوجعا وتأوها :
واعمتي.. كيف البصر
لحالي
ضاع الشباب وطالت الليالي
أما قوتها ( غذاءها )فهو القليل من عملها ( الشقاء )مع الآخرين ، مما يدل على أن أسرة الزوج تعيش تحت وطأة الفقر:
قوتي القليل
من الشقاء مع الناس
الشقاء مع الناس ، يكون بالأرض عموما ، من الصباح حتى بداية غروب الشمس ، ولذا فإن الكلف ( البسل ) الناتج من بقائها في الشمس ، قد أكل وجهها ، وادأكتسى الشيب رأسها ؛ انه تحول مخيف حدث لزوجة مسعود في هذه السنوات ، بعد أن كان وجهها مضرجا بالحمرة وشبابها منتشيا بحيويتها:
البسل أكل وجهي
وشيب الراس
يدخل ابن مسعود في خضم المعاناة ، وقد نسبته إلى نفسها(إبني ) ، لتعلقها به ، فقد نسي أبوه كل شيء ، ولم يعرف بعد أن له ابن ، هذا الذي هلك من الجوع ، القمح زلج ( انتهى ) من البيت . المرض مصحوب بفجيعتها ، البصر ذو النظرة الثاقبة الكانت ذات شباب ، ضعف ( رك ) ، السواعد التي كانت قوية ، صارت جراحا ، مما يدل على أن لون الحنا ، قد تحول إلى لون الدم المتقاطر من تلك الجراح:
واعمتي إبني هلك
من الجوع
الحب زلج واني
مريض مفجوع
رك النضر وجرحوا السواعد
الصبر ، لو كان معروف الأجل ، كان يمكن تجاوزه ،ولكن مضمر بسؤال انكاري:
كم شكون صبري
وسؤال انكاري آخر:
وكم شاجاهد
لنيل متطلبات حياتها ، ( زوجة مسعود ) ، وحياة ابنها ، وقد آل بها المآل إلى عدم قدرتها على الأعمال التي تقوم بها حتى تلك الواجبة عليها في البيت ، إلى جانب عدم قدرتها على العمل مع الناس:
مقدرش عاد أشقي
ولا أقدر اسأب
ولا اقدر أتمهر
ولا اطحن الحب
شهران قضيتهما زوجة مسعود في حالة مرضية ، من دونما ، زيارة ، وهنا نجد انسانية زوجة مسعود بالجهر والتضرع إلى الله بمسامحة من بلاها بهذا الزواج ، دون الافصاح عن قرابته منها أو عدمها:
شهرين مريض محد ظهر
يراني
يارب تسامح الذي بلاني
الحرقة الناتجة من بكاء ابنها لا يحس بها إلا هي ، مشيرة إلى أن الموت في هكذا حال افضل للفقير واسعد له، وقد يتعارض هذا الطلب مع النظرة الدينيه. القائله بتحريم ؛ إيراد النفس إلى المهالك حتى ولو بالدعاء:
احرقتني لا تبكي يامحمد
الموت أفضل للفقير
وأسعد
التحول المخيف يتضح قولا ، بعدما مكان مضمرا من قبل ؛ في الخطاب الموجه لإبنها ، وبلغة المخاطب ( ابوك)
نسيان الحنا ، وحمرة الخد ، الزفه واليد باليد ، استحضار لشباب كان ومضى ،( اصبح خارج الوجود )
ابوك نسى الحنا
وحمرة الخد
وهنا الوفاء يصير لحدا مجازا ، والموت شاهدا على هذه الزوجه ، تقديم اللحد على الموت ، يعبر عن مدى اصرار هذه المرأة الانسان على الوفاء لزوجها:
واني الوفاء لحدي
والموت يشهد
الوصية ، كانت تكتب بحضور كاتب وشاهدين ، عند الاحتضار ، وقد يوصي المحتضر ابنائه بوصية ما شفويا ، زوجة مسعود هنا توصي ، ابنها بأن يكون شاهدا على أبيه بانه أحرمها السعاده ، وبأنها ؛ أستدركت مسامحته بـ ( لكن ) ، متخذه من عبارة يكون معذور متنفسا لها ، ولأن الوفاء قد صار لحدها ( مجازا )، فكأن زوجها ( هو الأخير مقبور ) مجازا ايضا:
وصيتي يابني تكن شهاده
بأن ابوك احرمني
السعاده
لكن مسامح
قد يكون
معذور
وربما هو الأخير
مقبـــور.
نهاية مفتوحة على احتمالية ربما ، تحولات في مسيرة حياة اجتماعية ، بإيماض سعادتها ، وتقلبات مأساويتها، وهي أغنية تعبر عن وجود ما ؛ كان لزوجة هجرها زوجها بعد اسبوع من عرسه ، وانتهى بهما الأجل إلى تلك النهاية الاحتمالية ( ربما).
البوم الصور التي يعيشها المطلع على القصيدة ( قارئا أو مستمعا ):
ميلاد الطفل ، وما يرافقها من فرح وسعادة والاسراع في حمل البشارة ، الوداع ، عمل المرأة مع الناس في نقل الماء ، والاحتطاب ، والعمل في الزراعة، صورة المرأة المنهكة جراء عملها اليومي والمرض الذي حل واعتكف بين اضلاعها، وصورا شتى لآثار الجمال الذي كان ، وصار كلفا شمسيا ، وجراحا على طول السواعد .
- تعز 15/9/21