- حسن عبدالوارث
اننا نعود في كل مرة الى حيث بدأنا ، أو الى حيث أخطأنا ، وكأنَّنا – ويا
لحماقتنا الطافحة – نبحث عن مفاجأة جديدة أو خاتمة مُغايرة في شريط سينمائي أعدنا تشغيله ومشاهدته عدة مرات متتاليات !
و مَرَدُّ ذلك أن الرؤوس
المريضة والمشاريع الصغيرة والحالات المتخلفة هي التي ظلت تسيطر على مقاليد حكم البلاد والعباد منذ ثورة 1962 واستقلال 1967 وحتى هذه اللحظة . وحين
كان يبزغ في الأفق مشروع كبير أو رأس
نظيفة أو حالة خيِّرة أو نيِّرة ، كان التخلف – بمسمياته وشخصياته
وملبوساته المختلفة – يكمن لها بالمرصاد للانقضاض عليها .
وكانت الفئات المثقفة أو المتعلّمة تقع ضحية احدى الحالات التراجيدية في المشهد : اما
الاصطفاف مع الجانب المتخلف ، عن خوف أو طمع أو حساب خاطىء .. واما
المغامرة بالمواجهة التصادمية ، دون تريُّث وحلم ورويَّة .. واما الركون
الى ركن مظلم بارد سرعان ما تنسج في أرجائه خيوط العنكبوت ، أو الالتحاف
بكومة قش أصفر مكنوس من مكتبة قديمة .
ان المشهد القائم اليوم سيطول
بالضرورة الى أمد غير معلوم ، وستتناسل مشاهده وتتشظى تبعاته على نحو عصي
على التكهن ، وسيبدو لنا أننا نعيد الشريط ذاته على نحو يومي دون كلل أو
ملل ، وفي آخر الشوط نذهب لنكنس رمادنا وندفن جثثنا ونعيد المشاهدة أو
المشاركة أو الهروب ، لسبب في غاية البساطة والوضوح ولكنه في غاية الدرامية والكارثية : أننا نخوض حرباً ليست لنا ، ولكن في ساحتنا نحن ، وليست
بأسلحتنا ، ولكن بأرواحنا نحن .. حرباً قضيتها ماضوية ، وأدواتها مضارعة ،
ولكن المستقبل – مستقبلنا نحن – هو الضحية !
ولذا فان هذي الحرب بالذات ستطول وتتطاول ..
ومن ذا الذي يجروء على الاعتقاد بعكس ذلك ؟
وعلى أيّ أساس يُبنى هذا الاعتقاد في الأصل ؟
هل تغيرت الأسباب ؟ .. لا .
هل تبدلت الشخوص ؟ .. لا .
هل اختلفت الأدوات ؟ .. لا .
فعلى أيّ أساس يمكن الاعتقاد بضرورة تغيُّر النتائج ؟
ان اعادة قراءة هادئة للأحداث والأزمات العاصفة التي شهدها تاريخنا
السياسي الحديث والمعاصر ستُفضي بنا الى التحقُّق من تكرار حلقاتها على نحو مدهش بل مريب بل مرعب . فمعظم وجوه وعناوين تلك الأحداث والأزمات ، ومعظم
أسبابها وتداعياتها ، ومعظم شخوصها وقواها ، هي نفسها تتكرر وتتناسل منذ
ستينيات القرن الماضي على الأقل ، وبالتالي تكون نتائجها بالضرورة متطابقة .
قد تتبدل الأدوار ، فيكون ضحية الأمس في موقع الجاني اليوم ، أو العكس ..
ويكون المنتصر في معركة الأمس مهزوماً في موقعة اليوم ، أو العكس .. أو يتم تدوير القوى المحرّكة أو حتى الدول المساهمة في مجريات الأحداث والأزمات
.. غير أن القوى الداخلية والأطراف المحلية تظل هي نفسها ، مهما اختلفت
مواقعها وتبدلت أدوارها .. حتى جمهور المشاهدين يظلون هم أنفسهم في معظم
الحالات ، أكانوا في لبوس فئات أو جهات أو مناطق أو اتجاهات !
وأقولها بمرارة شديدة ، وفي وقت لا جدوى فيه من المرارة غير مرارة أشد :
اننا – وفي حال حدوث العجب المحال وتغيرت تلك النتائج – فأننا سنعيد انتاج الأزمة ذاتها ، في السياسة كانت أو في الاقتصاد أو الاجتماع أو الحرب ..
ولكن بحماسة أكبر وحماقة أكثر ، تأسيساً على خبرات متراكمة في مضمار اعادة
انتاج الحمق المطلق واعادة استخدامه على نحو أحمق من كل المرات السابقة .
ان شتاتنا التاريخي – أو تغريبتنا الأسطورية – الذي يُعيده المؤرخون الى
حادثة انهيار السدّ ( أكان السبب عبث فأرة أو خراباً هندسياً ) لم يكن
ليحدث قط ، لو أن أجدادنا أصروا على اعادة تشييد السد وطرد فكرة الشتات من
الأساس .. غير أنهم أستسهلوا الفرار ، مستصعبين البناء ، في ظل هرولتهم
وراء قادة قطيع لم يكونوا أفضل منهم عقلاً وروحاً على الاطلاق .
وظلت المأساة حية … والسيرة مستمرة .