- عبدالكريم الرازحي
بعد غياب دام عشر سنوات عاد سيف الطُلِّيس من الحبشة وهو في غاية الثراء وبعد عودته فتح في سوق ومركز القرية دكانا هو الاكبر والاعظم بين الدكاكين. وكان الكل يتحدث عن دكان سيف الطليس .والجميع في حالة انبهار من دكانه. وكان كل من يذهب الى حيفان ويدلف الى الدكان يعود وهو متلهف ليحدث اهل قريته عن دكان الطليس وعن البضائع التي تباع في دكانه. وكان اولئك الذين ذهبوا الى حيفان ودخلوا الدكان يشترون او يتفرجون يشعرون بتميُّزهم وتفوّقهم والبعض منهم يتملّكه الغرور ويعتقد في قرارة نفسه بأنه من طينةٍ غير طينة اهل قريته .
اما الاطفال فكانوا ينظرون بكثير من الاعجاب والتقدير والاحترام لكل من يكلمهم عن دكان الطليس وعن البضائع التي تباع فيه .وعندما قال لهم ابن عاقل القرية بانه يوجد في دكان الطليس شراب اسمه الفيمتو قالوا يسألونه :
- ايش هو الفيتو ؟
قال لهم وهو يضحك من عجزهم عن نطق الاسم : - اسمه فيمتو مش فيتو
لكنهم وقد وجدوا صعوبة في نطق الاسم شعروا بجهلهم وشعر ابن العاقل بتفوقه عليهم.
وحين سالوه عن طعم شراب الفيمتو لم يكن قد ذاقه حتى يكلمهم عن طعمه وانما قال لهم : - “الابن الزغير لو يشرب فيمتو يكبر ويوقع كبير والشَّيبة لو يشرب فيمتو يزغر ويرجع زغير”
ولم يكن هذا القول قوله وانما كان قد سمع احدهم يتكلم بهذا الكلام .لكن الاطفال بدوا مذهولين من كلامه عن هذا المشروب السحري الذي يشربه الصغار فيكبرون ويشربه الكبار فيصغرون.
ايامها كان الناس في القرى يسمعون عن شراب اسمه الفيمتو يبيعه سيف الطليس في دكانه وكل الذين ذاقوه اقسموابانه الذ مشروب شربوه في حياتهم
واما سيف الطليس فقد راح يروِّج لشراب الفيمتو ويقول لزبائنه: - لواهل الجنّة طعمواشراب الفيمتو شِكرهوا اللبن والعسل وشقولوا لربنا :
-” ياربناشُل اللبن والعسل حقك وهات لنا فيمتو من دكان سيف الطليس “
كان معظم زبائن الطليس يتألف من نساء وزوجات وامهات المغتربين اللاتي كن يجئن الى حيفان في غير ايام السوق وياخذن حاجاتهن من دكانه الممتلئ بكل انواع السلع والمواد الغذائيه وكنّ اذاجاء حمود الجمال من عدن ومعه حوالات مالية من ازواجهن وابناءهن المغتربين في المهجر ذهبن يسددن له كل او جزءاً من الديون التي عليهن .
ولان الطليس يبيع اكثر بضاعته بالدين فقد كان لديه سجل يسجل فيه اسماء الزبائن والمبالغ التي يدينون بهاله. ولكثرة الذين يستدينون من دكانه كان ماينفك ينقل اسماء المديونين من سجل الى آخر :من سجل صغيرالى سجل كبير ثم الى سجل اكبر فأكبر .
كانت زوجته عُلُوم تحل محله في الاوقات التي يكون فيه مشغولا بعمل خارج الدكان او حين يذهب الى الراهده لجلب بضاعة ولم تكن علوم تعرف القراءة والكتابة حتى تسجل اسماء الاشخاص الذين اشتروا منها واسماء الحاجات التي اشتروها . كانت في شبابها تعتمد على ذاكرتها وكانت عند عودة الطليس من مهمته تملي عليه اسماء الزبائن والحاجات التي اخذوها والمبالغ التي عليهم وكان الطليس يسجل ماتمليه عليه في سجل الديون اما بعد ان كبرت وشاخت فكانت تنسى وفي كثير من الاحيان تذكراسم الزبون وتنسى اسم البضاعة التي باعتهاله. اويحدث العكس تذكر الاشياء التي باعتها وتنسى اسم الزبون. وكان ذلك يغيض الطليس ويجعل دمه يفور من الغيض.
وكثيرا ماكان يصرخ في وجهها قائلا وقد تمكن منه الغضب :
-“ياعلوم إذكّري لمن بعتي!! وقولي لي من هم!! على شان اسجلهم بالسجل!!”
وكانت علوم تجهد عقلها كيما تتذكر ماالذي باعته !!واسماء من باعت لهم!! لكن الذاكرة كانت تخونها فتقول له :
- “مواعمل!! نسيتو “
يقول لها وهو منفعل من ردها : - قلت لك إذكّري وقولي لي ايش بعتي!! ولمن بعتي والاوالله لااعمل لك مِلطَام يخليك تذكُري ماوقع لك وانتي في بطن امك.
ومن جديد راحت علوم تخوض صراعا مع ذاكرتها (صراع الذاكرة ضد النسيان) وتحاول جاهدة ان تتذكر ماذا باعت!! ولمن باعت!! غير ان الذاكرة كانت تخونهاوتمعن في خيانتها وعندئذ كان سيف الطليس يفقد السيطرة على غضبه ويقول لها وهو يهجم عليها ويوسعها ضربا:
- خسرتينا ياعلوم.. ضيعتينا ياعلوم ..ضاع الضمار لكن كلُّه مني انا الحمار .
وكانت هي تشعر بالذنب وتستسلم للضرب و تقول له وهي مستسلمة ومستمتعة : - اضربني ياسيف والله انني استاهل الضرب
قال لها مرة يسألها وقد باعت عددا من الفوانيس - لمن بعتي الفوانيس ياعلوم ؟
قالت له : والله ماعادني ذاكر لمن !!
قال لها : من اللي اشترى الفوانيس نسوان والارجال !!
قالت له : نسوان .
وراح سيف الطليس يذكر لها اسماء النساء اللاتي يتردّدن على دكانه علّها تتذكر اسماء من باعت لهن الفوانيس. غير ان ذاكرتها خانتها مثل كل مرة .
يومها شعر سيف الطليس بأن الضرب يهدئ ضميرها ويجعلها تشعر بأنه- بضربه لها- قد اخذمنها اكثر من خسارته.
قال لها يومها وهو يغتلي من الغضب :
-” الضرب ماعاد ينفع معك ياعلوم و اليوم مافيش ضرب.. اليوم في طلاق مهلتك نص ساعة ياتقولي لي لمن بعتي الفوانيس ياوطلقتك “
وعندها امتقع وجه علوم واصفر من الرعب .
–