- عبدالكريم الرازحي
كان الفقيه سعيد قد عمل قطيعةً بينه وبين ماضيه.. بينه وبين معتقدات اهالي قريته.. وبينه وبين الدرويش عبد الحق. وبعد ان كان يجلّه ويحترمه، ويسمع منه ،ويصغي اليه ويقول حين يتكلم في شأن من شئون الدين اوالدنيا :
-” الحق ماتكلم به عبد الحق”
صار بعد عودته من رحلته الى مكة يلعنه ويكفِّره ويكفِّر الدراويش والمتصوفة واولياء القرية بمافي ذلك كبيرهم احمد ابن علوان وكل من يعتقد بهم.
وبعد ان كان يتحدث عن الله الغفور الرحيم راح بعد عودته من مكة يتحدث عن الله الجبار المنتقم شديد العقاب. وكانت طريقته في الوعظ هي التخويف يخوِّف اهل القرية الرجال والنساء والاطفال والعجائز من عذاب القبر ومن يوم القيامة ومن الحساب والعقاب ومن نار جهنم ويصرخ فيهم ان يخافوا الله :
- خافوا الله ياجماعة
خاف الله يافلان
خافي الله يافلانة
خافين من الله يانسوان
خافوا الله ياعيال
لكن اكثرماكان يخيفه ويخوِّف فتيان وبنات ونساءالقرية منه هو الحب
وكان يكفي ان يسمع احدهم ينطق بكلمة حب اويجاهر بحبه حتى يقصفه بوابل من اللعنات.
ولشدة تحسُّسه من الحب راح ينظف خزانة كتبه من دواوين وكتب المتصوفة التي تتناول الحب الالهي والعشق الصوفي. وعلى النقيض من الدرويش عبد الحق كان يرى بان القرب من الله يكون عبر الخوف وليس عبر الحب:
“بقدر خوفك من الله يكون قربك منه ”
وعندما ذكَّره الفتى احمد المَيْدَمَة بقول الدرويش عبد الحق:
-” الحب اقرب طريق الى الله
انفجر مثل بالون من الغضب وراح يلعن الميدمة ويلعن الدرويش عبد الحق ويقول وهو في ذروة غضبه وانفعاله :
-” الحب اقرب طريق للزنا”
كان يربط ربطا مباشرا بين الحب وبين الزنا. وحين يسمع خبرا اوإشاعة عن وجود علاقة حب بين ولد وبنت يتعمّد في صلاته وهو يؤم المصلين قراءة آيات في تحريم وعقوبة الزنا :
–“الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .”
وفيما كان الدرويش عبد الحق يقول :”الحب صابون القلوب”
كان الفقيه سعيد يقول : “الحب نجاسة ينجِّس القلوب الطاهرة “
و بعد ان شاع خبرالحب بين شاهر وراحيل قال بأن حبهما من علامات قرب قيام الساعة.
وهولم يكتفِ بإدانة حبهما والتحريض ضدهما وانما كان كلما ابصر الفتى شاهر في المسجد يصرخ فيه قائلا:
- “اخرج يايهودي يانجس نجّست المسجد .”
كان المصلون يقولون له : - “يافقيه سعيد مالك على شاهر!! صحيح شاهر غلط لُمّا حب يهودية لكنه ماخرجش من دينه.”
يقول لهم وهو مستاء من دفاعهم عنه: - “اليَهْوَدَة في القلوب. “
وكان يفرح ويبتهج عندما يرى البعض يجاهر بكراهيته للفتى شاهر و يقول مشجعا: - مادام ديننا يأمرنا بكراهية اليهودفالمسلم الذي يحبهم اولى بالكراهية
ولشدة ماراح يحرض اهل القرية ضده ارتفع جدارٌ عازلٌ بينهم وبينه فكان ان وجد الفتى شاهر نفسه وحيدا ومعزولا عزلة المجذوم .
كانت امه جُلجُلَة تتألم لاجله وتتوسل اليه ان يقلع عن حب اليهودية مقابل ان تزوجه من اجمل بنات القرية.وكان هو يعترض ويقول لها:
-” لايمّا لا ..لوانت تحبينا زوجيناراحيل “
وبعد ان يئست من اقناعه بالتخلي عن حبه ايقنت بان ابنها مسحورولشدة حزنها عليه راحت من سطح بيتها تصرخ بكل صوتها مخاطبة نساء القرية :
-” ابني مسحور يانسوان سحره عبد الحق الشيطان .”
ومن حينها راحت تتهم الدرويش عبد الحق بانه الذي ادخل الحب للقرية وهو من سحر ابنها وادخله في دينه .
و حين كان شاهر ينكر دخوله في دين الدرويش كانت امه تصر على كلامها وتقول له :
- “انت مسحور مُوْدَرّوْكْ .”
لكن جُلجُلة بعد ان رات ابنها وحيداً ومنبوذاٌ ولعنات الفقيه سعيد تلاحقه اشفقت عليه ولم تعد تحتمل كل تلك الكراهية وكل ذلك التحريض ضده وكان ان ذهبت الى فازعة تستنجد بها وكانت فازعة حينها تقف في المنتصف بين الفقيه سعيد وبين الدرويش عبد الحق. وكان
يُشاع بأنه يُوحى اليها والنساء يلذن بها عندما يجدن أنفسهن في مفترق صعب، او حين تعترضهن اسئلة صعبة ، او عندما لايقتنعن بالاجابات التي تصدر عن الفقيه سعيد .
وعندما ذهبت جلجلة اليها وطرحت عليها مشكلة ابنها شاهر
قالت لها فازعةبلامبالاة : موفيها لو شاهر حب يهودية والانصرانية !!
وحين اخبرتها جلجلة بمايقوله الفقيه سعيد عن الحب
قالت لها فازعة التي كانت تؤمن بإلهين اثنين :إله للخير وآخر للشر :
-الحب من الله ياجلجلة.الله خلق الحب ..والشيطان خلق الكُره.
وكان ان تهلّل وجه جلجلة من الفرح و رجعت من بيت فازعة وهي مقتنعة بأن الكلام الذي قالته فازعة ليس كلامها وانما هو كلام الوحي نقلته اليها الملائكة.
ولشدة فرحتها راحت في طريق عودتها الى بيتها تستوقف كل من تصادفه في طريقها وتخبره /ها/بماقالته فازعة :
-” الله خلق الحب والشيطان خلق الكره”
وعندماوصلت الى بيتها صعدت الى السطح وراحت تنادي الفقيه سعيد : - “يافقيه سعيد يافقيه سعيد “
وعندما صعد الفقيه الى السطح ليجيبها قالت له وهي في ذروة غضبها : - لمو يافقيه سعيد تكره شاهر ابني ؟موعمل بك؟ يحب يهودية والانصرانية مودخلك!! ربي هو اللي خلق الحب.
وراحت تهدده وتتوعده قائلة : - والله يافقيه سعيد لوازيد اسمعك تلعن ابني شاهر لاتلوم الانفسك.
الحجر من القاع والدم من راسك . ماان شاع خبر زواج راحيل وشاهر حتى ثارت حفيظة اليهود وراحوا يصرخون ويحتجون ويقولون بان المسلمين سحروا ابنتهم راحيل واخرجوها من دينها وانهم زوجوها غصبا عنها ورد المسلمون على مزاعم يهود القرية قائلين بان راحيل لم تخرج من دينها ولم تتزوج غصبا عنها وانما تزوجت باختيارها وبكامل ارادتها وزادوا فقالوا : - شاهر ابن ناس ولو هو ابن سوق كان فتحها وسيّبها بدل مايتزوجها.
وسرعان ماصار العاشق الملعون عنوانا للمواجهة بين مسلمي ويهود القرية .وبعد ان كانوا يلعنونه صاروا يمدحونه، ويثنون عليه، ويعتبرونه بطلا من ابطال قريتهم، ويقارنوه ب سيف الرمّاح بطل المقاومة ضد الاتراك .
وبعد ماانتهت المواجهات والمعارك الكبيرة بين الكبار بقيت المعارك الصغيرة محتدمة بين الصغار و كان التراشق بالحجارة بين الاطفال والصبيان المسلمين واليهود يسبقه تراشق بالكلمات.
كان اطفال المسلمين كلما ابصروا اطفال اليهود راحوا يزمِلُون ويتحرّشون بهم بكلمات الزّامل :
“راحيل اختُكم
سيَّبَتْ دينكم
دخلت ديننا
كانت كافرْ
حبَّها شاهر
دخَّلُهْ داخلْ
بكَّرتْ حامل”
و الحقيقة هي ان راحيل لم تسلم ولم تحمل من شاهر الذي اشتهر بانه يحبّل زوجاته من اول ليلة. لكن اهل القرية كانوا يشيعون بانها اسلمت وحملت ليغيضوا اليهود وليشبعوا حاجتهم للإنتصار خصوصا بعد ان بلغهم نبأ هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948.
بعد زواجهما كبر حبهما ولم يعد نبتة غضّة يمكن لهبّة ريحٍ ان تقتلعها وانما غدت شجرة وارفة ولها ظل. لكنهما وقد هدأت عاصفة الكراهية ضدهما هبت فجأة ريحٌ اشد واقوى لكنها هذه المرة هبت من خارج القرية ،ومن خارج اليمن، ومن وراء البحر، وبدت لهما غامضة ، وغير مفهومة، واشبه ماتكون بكابوس مريع .
وكان لهذه الريح التي تهدد باقتلاع حبهما اسم هو : (بساط الريح) *
قالت له راحيل ذات يوم وهي عائدة من عند امها بأن اسرتها وكل يهود القرية يتجهزون للسفر الى عدن ومنها الى اسرائيل
قال لها وهو غيرمصدق ماسمعه منها :
- وانت ياراحيل!!
قالت : واني يهودية من جيز اليهود .
قال لها وقد اوجعه ردها : - بعد كل هذا ياراحيل تسيبينا لوحدي وتسافري اسرائيل !!
قال لها ذلك وسالت دموعه على خدوده
قالت له راحيل وهي متألمة : - موتشاني افعل ياشاهر !!
قال لها : اجلسي معي ياراحيل سالتك بالله وبنبيك موسى لاتسافريش لوسافرتي وسيبتينا وحدي شاموت .
ولشدة تأثرها من كلماته اندفعت تغمره بقبلاتها قبلت صدره ورقبته وشعره المشعث وجبهته وفمه وخدوده وحين شعرت بطعم ملوحة دموعه اجتاحتها رغبة عارمة في التمسك بالرجل الذي احبها .ولشدة خوف شاهر من ان تتركه تملكته هو الآخر رغبة شديدة في التمسك بها. وسرعان ماراحا يتمسكان ،ويتشبثان ببعضهما ،وينخرطان ببعض ،ويتدحرجان في ارضية الغرفة، ويطلقان صيحات عالية فيها من اللذة قدر مافيها من الوجع .
لكأنهما يودعان بعضهما اوكأنهما يبكيان حبهما المهدد بالضياع وبالاقتلاع . - بساط الريح : اسم أُطلق على عملية نقل اليهود اليمنيين الى اسرائيل عبر جسر جوي