- كتب: ضياف البَرّاق
وأخيرًا انطفأ القمر المنسي، ابتعدَ، وارتحلَ، تطهّرَ من نجاسة هذا الزمن، انتقل من تحت إلى فوق، هاجر العصفور الجريح إلى أعمق مكان، هكذا انتصرَ على هذا الظلام، عاش وحيدًا بيننا، كان حقيقيًا دومًا، ولمْ يصبح قط زائفًا مثلنا نحن الأشباح، كان نورًا صافيًا، قانِعًا وشجاعًا كأنه سقراط، يعشق الحرية ويكره الضجيج، هو المتمرد على جميع المستنقعات، هو الواسع اتساعَ الفلسفة التي عشقها وعاشَ فيها، وتعذّبَ بها، هو النقي نقاءَ الكمان الأصيل، هو الطائر الذي لمْ ينزل في يوم من الأيام من شاهق الجمال إلى حضيض القُبْح، إنه مجنون الأقاصي، صدى المحبة، ابن الأحلام البسيطة والأفكار والمبادئ الجميلة، بطلٌ من التواضع وعدم الأنانية، إنه الاستثناء الذي لا يتوقّف عن التشرُّد، ولا يصحو من التعب، لا يؤذي أحدًا، ولا يأخذ شيئًا.. أرجوكم لا تتباكوا عليه بعد فوات الأوان، اتركوه نظيفًا كما هو، لا تصلبوه مرّتين، هو الآن سيّدُ الراحلين، وداعًا يا قسوة الأيام، إنه يغادرنا نهائيًا بعد عذاب طويل، تاركًا قلبَه الممزَّق شاهدًا على قسوتنا، وأحلامَه للريح، ريح الوطن الذي لا يحب القمر، وداعًا يا رنا، وداعًا أيها البحر الذي كان ينساني دائمًا..
قتلناك يا قمر، ذبحنا آمالك وأحلامك، خذلك هذا الوطن الأعمى الذي لا يستحقك، اغتال ضوءك، فكم أنت جميل أيها المسحوق بسبب شموخه ونزاهته، ونبضه المِعْطَاء، قتلك وضوحك، صدقك، جمالك، لم يعجبهم أنك أجمل منهم، بل هذا الذي أثارَ حقدهم عليك، فقتلك الأنانيون، والظلاميون، قتلك الصغار أيها الكبير، كنتَ تموت من التعاسة، وهم ينتفخون من السعادة.. أيها العالَم، مات القمر من كثرة التهميش، من اليأس والحرمان، من الهموم والمخاوف، مات من البرد والجوع وإهمال الرفاق، مات بالتأكيد ولن يعود أبدًا.. فها هو القمر يستريح أخيرًا من أثقال هذه الحياة الوحشية القذرة في هذا الوطن الظلامي العبثي، فألف تحية للقمر على هذا الانتصار النهائي الذي لا أستطيع وصفه من شدة حزني الخانق.. نَعَمْ، مات الشاعر الجميل توفيق القباطي، عاش هذا الرجُل النظيف حياة قاسية جدًا، عاش مُتشرِّدًا، آه لكَمْ سحقته يا وطن، فمات مُنهارًا نفسيًا، مات توفيق كمدًا، لقد عُومِلَ طيلة حياته كأنه شيء رخيص، ومع ذلك لم يتحول إلى وحش مُنتقِم، فالنقي يظل نقيًا إلى الأبد..
تعالوا نقرأ قليلًا من جراحاته الكثيرة:
“عام سعيد يا رنا
البحر يذكرهم وينساني أنا
ياللحنين، مخضباً بالأشرعة
بنوارس العهد البعيد
وزوارق الماضي التي ظلت هنا.
كانوا هنا يوما
ويوما هاجروا وتغربوا
كادت جياد البحر
تبعد بيننا.
همست بسر لي رنا
والبحر يفضح سرنا
عام سعيد يا رنا
البحر يذكرهم
وينساني أنا”.
خذلناه، تركناه وحده يواجه مصيره اللعين، لم نساعده ليرقص كما كان يحلم، لمْ نفتحْ له يد الحنان والأمل، لم ننتشله من الشارع، من الرصيف، من الريح، من الضياع، كان يعاني ويتعذّب بينما نحن لا نلتفت إليه، لا نأبه له، لقد خذلناه بطريقة بشعة، هي طريقتنا المعتادة في إفساد الجمال، وتحطيم الأرواح الطاهرة، نحن كائنات مريضة، متحجِّرة المشاعر، بليدة الكلمات، نحن موتى إلى أبعد مدى، أنانيون طوال حياتنا، لذلك لمْ ننجح في أي شيء، وسنظل نفشل حتى نتغيّر من دواخلنا، ونتطهّر من إفلاسنا هذا، اللعنة علينا، من يزرع الشوكة سيحرق الوردة، من يدهس الفراشةَ يموت مثلها في نهاية المطاف؛ مدهوسًا.
فهل نحن نستحق الاحترام، والسلام، لأننا نقسو حتى على الزهرة، نبصق على قطرة الندى، نُعامِل الجميلين بطريقة سيئة، نخذلهم، لا نقف معهم في أزماتهم، نتجاهلهم، نتركهم صيدًا سهلًا لمخالب الموت، ثم حين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، نذرف عليهم الدموع المزيَّفة، نتباكى عليهم، ونُعدِّد صفاتهم ومآثرهم، بهذا الأسلوب المبتذَل نستعرض بأننا إنسانيون، بينما نحن في الحقيقة مثل تلك الكوابيس التي نشاهدها في أفلام الرعب، أجل، نحن بلا أحاسيس صادقة، طبعًا الكوابيس لا تتآخى، قلوبنا لا تلين، إننا مجرد أقنعة مشحونة بالزيف والكذب والقسوة، نقرأ الكتب والمجلدات، ولا تتفتّح عقولنا، ضمائرنا لا تزهر، نتغنّى بالجمال ولا نتحول إلى جميلين، لا نتأنسن أبدًا، وكأنّ مرضنا هذا ليس له من علاج..
يا له من وطن قبيح، هذا البلد ليس أمينًا؛ إنه مُحارِبٌ للجمال، قاتِلٌ لكل ما هو جميل، نابغ في تدمير الأنقياء، وإطفاء الأنوار الحقيقية، وإحراق الزهور، وتهميش الأصيل وتمجيد الزائف.. ما هذا الوطن الذي عذّبَك أيها الشاعر الجميل، وقتلك مليون مرة.. ما هذا السجن الذي لا ينمو فيه الشِّعْر ولا الفلسفة ولا الحب.. ما هذا الوحش الكبير الذي يبتلع الطيّبين من أبنائه، يقسو على العصافير، لكنه يُقدِّس المتوحشين، ويحترم كل الذين لا يستحقون الاحترام.
عندما يموت شاعرٌ، ينجرِحُ نبضُ الحياة العميق، يكتئب وجهُ الحب، تدمع عين الجمال، تذبل أزهار كثيرة في الحديقة، وتموت فراشات لا نراها.. موت الشاعر يعني أنّ لا قيمة للحياة، موته مؤلم كثيرًا للطبيعة، يُشعِل نارَ الحزنِ في أعماق الكلمات، إنّ الشاعر يبذل روحه الجميلة رخيصةً من أجل تهذيب هذا العالَم، يعيش جميع أيامه يتعذّب من أجل إسعاد الآخرين، فهو يكتب لكم من أعماق قلبه، ليحميكم بجمال قصائده من عبثية الزمن، الشاعر مناضل صادق، لا ينشر شيئًا سوى الجمال، إنه مصدر أساسي للحب والأمل، الشاعر إنسان جماليٌّ لا نستطيع الاستغناء عنه، فلا يستغني عن الجمال إلا الموت، ولا يكره القصيدة إلّا عدو الحياة، إن الوطن الذي لا يقيم وزنًا للشاعر يبقى خرابًا، فالوطن بلا قصيدة مجرد مقبرة، لأنّ الشِّعر غذاء مُهِم للروح، وأبشع جريمة أن نرى شاعرًا يموت من الجوع، أو المرض، أو يُهان في السجن، أو ينام على الرصيف، أو لا قيمة له في وطنه، أكبر جريمة بحق الجمال أن يُحتقَر الشاعرُ، أو يُترَك وحيدًا حين تتأزم حياته، وآه كم يتعذّب الشعراء في هذا الوطن الذي لا يعرف قيمتهم، يا الله وطننا يأكل أنبياءه!
نَمْ بسلام أيها الشاعر العفيف، استرخِ طويلًا، ولا تسامحنا، فنحن لا نستحق زخة واحدة من عطرك، وأنت بلا شك تعرف هذه الحقيقة الواضحة.. ها أنت الآنَ بخير جدًا، استمتع بهذا الخلاص العظيم، فلا تنظر إلينا، ولا تشغل بالك بالبحر الذي كان يذكرهم وينساك أنت، استرِحْ أيضًا من شروط القصيدة، لقد نجوتَ اليومَ من زيف كل شيء، لقد انتصرتَ علينا برحيلك الأخير، ويكفيك هذا لتحتفل به وحدك، عليك سلام الله حبيبي القمر المسحوق!