- محمد ناجي أحمد
حين تكون الكتابة موقف ورؤية لكل أشكال الوعي الزائف-طبعا بنسبية الموضع المعرفي، فليس هناك موقف ورؤية مطلقة- اشتباك في مواجهة الأقنعة المصنعة إعلاميا وأيديولوجيا، إعادة رسم للشخصيات في مواقفها كما هي على حقيقتها ومسارها، لا على ما تم تسويقه عنها ومنها، إعادة قراءة للأيديولوجيا وتمثلاتها واستظهاراتها في الأشخاص، قراءة للمنتج الثقافي، دون موجهات المؤلفين، وحملة علاقاتهم العامة، مكاشفة مع تفاصيل حياتك بكل دوائرها الأسرية والحزبية والوظيفية والمجتمع، إلخ، فإن هذا النهج من القراءة التي تستقصد التحرر من كل أشكال التحيزات- وأؤكد هنا أن الكلية أيضا نسبية، وفق القدرة والطاقة والمحيط- تعمل على توسيع دوائر الخصومة الثأرية ضدك، وتُراكمها، تجعلك نصعا سهلا للجميع، بما هم “الإجماع” في عصر سلطة الفضاء السيبراني، وصناعة التافهين.
لكن صناعة التفاهة ليست حكرا على عصر هذا الفضاء، فلقد كانت الأيديولوجيا سباقة في صناعة أبطالها القتلة!
ليس هذا العقد الذي نعيشه فقط عصرا للتفاهة ورموز البلاهة، لقد كانت العقود الماضية، التي عشناها ترجمة حية لكل القمعيين الذين أرادوا أن يرثوا مواقع القمع لا إسقاطها.
لكن العقدين الأخيرين كانا ذروة التسلط في حقول الأدب والسياسة والمجتمع.
تقرأ رواية فإذا بأنفاس المؤلف الضاغطة تفرض عليك أن تكون مستلبا لعمله، أن تكون مهرجا في حفلة زارها، إنه يرسم لك طريقة التلقي، يضع لائحة بمحددات القراءة، من خلال عديد قراءات تسويقية وترويجية، فإذا غايرتها فإنك تجهل “تقنيات الأمكنة المغلقة”.
وإذا أردت رسم بورتريه لغوي وكلامي لشخصية ما تعرفها في مسارها لعقود، ثم أجدت الاقتراب من خطوطها وملامحها الحقيقية- أقول الاقتراب، فلست مالكا للحقيقة المطلقة- فإنك تتحول بالنسبة له، و مريديه وعبيده إلى نصع تتكالب كل خصوماتك الثأرية للتآزر معه ضدك، وذلك طبيعي ومتوقع.
هنا تصبح “الناصري” الذي “باع الناصريين”، و الـ”المرشد للمؤتمر” الذي باع المؤتمر-مصطلح “مرشد” يرتبط بالإخوان، لكن مع الخصومة الثأرية لا التفات للمصطلحات، المهم مراكمتها لإسقاطك أرضا- وأنت “الحوثي” ، و”المخبر في الأمن الوقائي” ثم الذي باع سيد الحوثيين، بانتظار مشتر جديد، وفي رواية لـ”نبيل البكيري” فأنت الإخواني المتستر بعباءة اليسار، فـ”عديد شكوك” حسب وصفه تقول ذلك، والعجيب أن تكون “الأخونة” مسبة من إخواني ضدك!
إنها الرغبة في إسقاط، دون الالتفات لمنطق أداة إسقاطك!
التوصيفات لمواقفك من قبل خصومك تخضع لتموقعاتهم لا لحقيقة موقعك وموقفك.
لقد ولى أكثر من نصف قرن(55عاما) من عمري، وأجدني ذلك المخلص للمعرفة ومراكمتها، والاشتغال المعرفي عليها وبها، والمخلص للموقف، وهذا لا يعني أن الموقف دغماتي، لكنه جدلي، يتحرى عدم الوقوع في التحيزات التي تستلب وعيك، وكينونتك وقدرتك على الرؤية والتفكير.
أزمة اليمين واضحة، فهو يعبر عن مواقفه ومصالحه وفق تموضعه، ولو استخدم البسطاء واستلب حقيقتهم الطبقية، لكن أزمة اليسار تتسع لتشمل المصلحة والرؤية وكيفية “الخروج من المضيق”.
حين يصبح “اليسار العائلي” -وهذا مصطلح أتحمل تبعاته، تماما كمصطلح “الهاشمية السياسية” الذي اجترحته بداية عام 2011، ثم أصبح مشاعا في الاستخدام، والعجيب أن صديقي الدكتور محمد سعيد الصوفي هو من دخل معي باشتباك معترض مع المصطلحين، وهو مثقف مهم وجاد، لكن الأول شاع، وأظن الثاني سيأخذ مجاله في التداول- حين يصبح “اليسار العائلي” حاديا وهاديا لليسار فتلك الضلالة، لأن اليسار هو تحرير للذات من كل أشكال التحيزات، إنه الذاتية الفردانية المتحررة، بكل ما يعنيه ذلك من كلية المجموع، إنه الملكية الخاصة، بما يعني ذلك ملكية المجموع، أي المشترك الإنساني، بديهيات الحياة من ماء وكلأ ونار، قوت ومعرفة، الاحتياجات الإنسانية التي ينبغي توفيرها للجميع…
حين يصبح أصحاب المسارات الشخصية الضيقة، كُتّابا لليسار، أي الحادي والهادي فتلك مصيبة، وحين تكون موجهات التلقي للأدب والمعرفة، أكان رواية أو شعرا، أو لوحة فنية، أو أغنية أو موسيقى، او كتابا نقديا وفكريا، تنطلق من ضيق العصبويات فالمصيبة أعظم!
اليسار نقيض العصبويات والتحيزات.
إن السقوط في شروط تسويق التفاهة تعني أننا في خانة اليمين والرجعية، وأن اليسار مجرد تمنيات وأمنيات، لا مواقف واجتراحات معرفية وحركية وتحديات.
بالأمس كتب الدكتور ياسين سعيد نعمان منشورا تحدث فيه عن الخصومات حين تخضع للشخصنات الضيقة، أظنه يفي بما أريد الاستعانة به هنا، حين يقول “”كم هي الخلافات التي تبقي المختلفين أصدقاء لأنهم يجيدون إدارة اختلافهم .
وكم هي الصداقات التي أبقت الأصدقاء خصوماً لأنهم لم يجيدوا إدارة صداقتهم .
إدارة الاختلاف من أكثر التجارب الانسانية ثراءً عندما يتعلق الأمر باستلهام المعنى الانساني لاحترام حق الانسان في حرية التفكير .”
أتذكر أواخر تسعينيات القرن العشرين، كنت أكتب عمودا في الصفحة الأخيرة للثقافية، أو ملحق الثقافية، بعنوان “جموح الروح” ثم “مشاهد العقل” وحين ذهبت إلى الأخ العزيز سمير رشاد اليوسفي رئيس تحرير الصحيفة أو الملحق حينها، كي أتوسط لمحمد عبد الوهاب الشيباني، كي يكون كاتبا في ذلك الملحق أو الصحيفة، وقد تكللت مساعي بمقال له بعنوان “أغلفة ومتون” وكان مقاله الأسبوعي لا يفارق الأغلفة، دون الدخول في المتون- كان حديث محمد عبد الوهاب الشيباني الذي كنت حينها وسيطه في التعارف مع سمير، هو انتقاد سمير رشاد لنشره عمودا لي بعنوان “جموح الروح” ثم “مشاهد العقل” وكان سمير اليوسفي مدهوشا، كيف أنحاز لمن غِيرَتُه وضغينته وحسده ضدي!
وكذلك هو حال مثقفي “الإخوان المسلمين” اليوم، بينما أشتبك معهم في صراع صفري، يمتلك منطقه ومنهجه وحيثياته، يجدون العديد من اليساريين المتمركسين، وبعض الناصريين في خانة الضغينة ضدي!
أن يكون خصمك الصفري أكثر تقديرا ومعرفة بك، واحتراما لك من تشوهات المتيسررين فتلك مفارقة تشير إلى واقع شديد التشوه والتزييف، ومليء بالبالونات المتضخمة، في نفعيتها الفردية، وأسريا وعائليا!
حين أقول بأنني من مواليد 26يوليو 1967، أي أنني قضيت من عمري ما يقارب (55عاما) فهذا يعني أنني أنجزت السير في طريق معاناة الكتابة وقلقها الكثير، ولم يبق سوى القليل كي تصل “النفس القلقة” إلى طمأنينتهل، والرجوع بهيئة وروح وجسد جديد، فالمادة لا تفنى….