- كتب: عبدالكريم الرازحي
(1)
كانت رحلتنا الخميس الماضي إلى (النبع المقدس )” نبع العُشّة “في” شعبان البروية” بني مطر وهو نبعٌ ينبجسٌ من قلب الصخر، ويذكرك بتلك الينابيع المقدسة التي فجرها موسى لقومه بامر من ربه .لكننا في كل مرة نذهب فيه اليه لانذهب مباشرة ،ولامن نفس الطريق، وانما نذهب من طريق غير الطريق الذي سلكناه في رحلاتنا السابقة.
ومع أن المسافة من متنة إلى النبع لاتزيد عن ساعة أو ساعة ونصف بالكثير، إلا أننا كمشائين هدفنا المشي وليس السياحة، نصل إليه بعد أن نكون قد مشينا خمس أو ست ساعات.. ونصل منهكين، ومتعبين، وهالكين. وبمجرد أن نغطس في مياهه العذبة الشديدة البرودة حتى تدب الحياة في أوصالنا، ويتدفق الدم في شراييننا، وتعود الابتسامة إلى وجوهنا. وعندئذ نشعل نارنا، ونعد قهوتنا ،وطعام الغدا ،وفي الساعة الخامسة عصرا نقفل راجعين إلى بيوتنا.
في رحلة هذ الخميس خرجت الساعة السادسة والنصف صباحا وأنا بدون نوم ، والسبب أن النوم يهرب مني ويعاندني، عندما أكون بحاجة إليه وفي الساعة السابعة وصلت ٠”عصر” وبقيت انتظر وصول بقية المشائين، عند فرزة متنة ذلك أن البرنامج في كل رحلاتنا، هو أن نلتقي السابعة والنصف عند الفرزة ..والساعة الثامنة نتحرك. وفي الساعة الثامنة بالضبط تحركنا وكنا ستة وبعد نصف ساعة كنا في متنُة نزلنا من فوق السيارة البيجوت ودفع كل واحد منا خمسمئة ريال أجرة ثم بدأنا رحلتنا مشيا على الأقدام، ومن متنة أتجهنا يسارا وكان الجو جافا مشبعا بالغبار ويبعث على الكآبة وفي الطريق قلت للكابتن سعيد السروري :
- هذه المرة ياسعيد نريد طريقا مختلفا عن الطرق التي سلكناها من قبل ، قلت ذلك لأني بطبيعتي لا أتحمس للذهاب إلى نفس المكان من نفس الطريق مهما كان المكان الذي نذهب اليه جميلا ومغريا.. ثم أن مايهمني من الرحلة ليس المحطة التي سنذهب إليها وانما الطريق .
- لكن فيما يتعلق برحلاتنا إلى نبع العشة كناقد أستنفذنا كل الطرق وأتيناه من جميع الجهات من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب من أعلى ومن أسفل ومن السائلة.
وافق سعيد على اقتراحي ولم يعترض ووافق الجميع وواصلنا المشي بخطى منتظمة لكأننا نعزف بأقدامنا لحن سيمفونية الضياع ..لحن ضياعنا.
عندما وصلنا إلى بني جهلان سألونا القبايل : - أين رايحين ؟
قلنا لهم: رايحين نبع العشة في شعبان البروية
قالوا وهم في حالة من الدهشة والاستغراب : - وماجابكم لابني جهلان !!
وعندما قلنا لهم بأننا نعرف المكان وسبق أن ذهبنا إليه لكن فضلنا نأتيه من طريق مختلف.
قالوا وقد ساورتهم شكوك بشان مهمتنا : - مادام وانتو تعرفوا الطريق للمة تتعبوا نفوسكم وتقطعوا هذي المسافة كلها !!
وفي كل القرى التي مررنا بها لم يدخل في عقولهم أن هدفنا هو نبع العشة وكيف لهم أن يصدقوا ونحن نمضي في الاتجاه المعاكس ونبتعد ونوغل في البعد!!
قال لنا أحدهم ينصحنا : - إذا مقصدكم نبع العشة من هنيِّة ها.. ارجعوا يمين.. أما لونزلتم منزل والله ماتوصلوا إلا مغرب .
لكننا لم نصدق القبيلي ونزلنا منزل باتجاه عدد من القرى وفي كل قرية كان ثمة من يوقفنا ويسألنا إلى أين وحين نقول لهم باننا ذاهبون إلى نبع العشة ترتسم الدهشة على وجوهم ولايصدقوننا وكثيرا ماكان يترامى إلى مسامعنا قولهم وهم يروننا نبتعد: - هولا الله اعلم ماجابهم!!
- هولا الله اعلم مامعاهم!!
وفي الساعة الثانية عشرة ظهرا والشمس مثلما يقولوا في قرانا “تصلي العردان “، أختفى الطريق من أمامنا ولم نعرف من أين! وكيف نعبر إلى الجانب الآخر!! وفيما نحن نتخبط بحثا عن ممر قال لنا أحد الرعيان وهو يشير إلى شق ضيق ومرعب : - مابش طريق من هِنيّه به خُزقي ادخلوا من الخُزقي ذيّه
وفيما كنت منحشرا داخل الخزقي تذكرتُ قول المسيح عليه السلام :
“اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ”
(2)
بعد أن عبرنا من الباب الضيق قال لنا الراعي بان ثمة هاوية امامنا ونصحنا قائلا :
- اطلعوا مطلع وبعدا عتلقوا الطريق وتنزلوا منها للسائلة
وعملا بنصيحة الراعي طلعنا مطلع وتوقفنا لتناول وجبة خفيفة ولانني ازاوج بين المشي والصوم لم أشاركهم الاكل ولم يكن بي جوع الى الطعام وانما جوع الى الراحة وبمجرد ان انتهوا من تناول وجبتهم واصلنا الصعود ورحنا نصعد ونبحث عن الطريق التي سوف تفضي بنا للسائلة. لكننا لم نرطريقا وانما رأينا القمة تبعد كلما اقتربنا منها وبعد طلوع الروح وصلنا الى القمة وهناك من القمة أبصرنا الطريق في الأسفل وبمحاذاة المكان الذي صعدنا منه فكان علينا أن نهبط إليها عبر منحدر صعب.
(3)
كان المشاؤون الخمسة قد سبقوني في هبوط المنحدر وغابو عن ناظري وكنت انا في الخلف وثمة ألم في أصابع قدمي اليسار يضايقني ويجعل حركتي أبطأ وفيما رحت أهبط المنحدر ..
خرج خيط الجزمة من مكانه وقلت بيني ونفسي أول ما أصل أربطه لكني وقبل أن اأبغ نهاية المنحدر دست عليه وتدحرجت، وطار الآيباد من الحقيبة وشعرت بعد أن نهضت بأن الألم الذي كنت أحس به في أصابع قدمي اليسار قد زاد عن حده وأصبح سيري أبطأ مما كان وأصعب وبعد ان لحقت بالمشائين الخمسة الذين جلسوا ينتظروني تحت شجرة طلح
اأستلقيت في ظل الشجرة البارد العذب ولشدة ماكنت مرهقا ومتعبا تمنيت لحظتها ليس فقط انا أنام وانما تمنيت ماهو أبعد من النوم لكن المشاء فؤاد القطابري قال يستعجلني :
- ياالله يارازحي قم نلحقهم قبل تن يضيعوا علينا
كانوا الأربعة قد سبقونا إلى الطريق الذي اخبربه الراعي وكانوا قد ابتعدوا كثيرا، وانا في الخلف وفؤاد القطابري، الذي كان أخف واسرع من وعل جبلي يبطئ لاجلي ويسبقني بمسافة، ثم مايلبث أن يلحق بهم ، ثم يبطئ لاجلي ويطلب مني أن أسرع
ومن بعد وجدت نفسي لوحدي في طريق سيارات غير مرصوف ورايت المشائين الخمسة يهبطون من طريق الرصدة الترابي ويمضون باتجاه السائلة عبر طريق مختصر”مقطعة “
وكان فؤاد الذي كان قد لحق بهم ينادي علي ويطلب مني أن أهبط المنحدر والحق بهم،
لكني بسبب الألم في أصابع قدمي اليسار والذي كان يشتد في المنحدرات اثناء الهبوط واصلت السير باتجاه الضياع وفي الساعة الثالثة عصرا وصلت السائلة وشعرت وانا اصل اليها كمالوان معزوفة الضياع- ضياعي -قد اكتملت .
ذلك إني عندما فكرت أن أمضي صاعدا في السائلة كيما ألحق بهم وجدت امامي حائطا يستحيل عبوره ووجدتني في حضرة صمت مريع ومخيف اخافني حتى انني رحت اصرخ بكل ما أملك من صوت عسى احدٌ من القرى المجاورة يسمع صوتي ويرد علي ولكن لا أحد .
عندئذ وقد تاكد ضياعي أستلقيت في ظل صخرة وخلعت حذائي ونزعت الجوارب ورايت انتفاخا في اصابع قدمي اليسار وكان ظفر الابهام شبه منخلع فقمت بخلعه كلية والقيت به في مجرى الماء ومن بعد غسلت قدمي بماء السائلة و غسلت وجهي وشربت إلى إن أرتويت ..
ولأن السائلة كانت موصدة في وجهي مشيت في طريق السيارات ورحت امضي صاعدا جهة قريةٍ كنت قد رايتها قبل أن اهبط الى السائلة وفي مدخل القرية رايت طفلا وحيدا لكأنه ضائع مثلي وسالته ان كان هناك سيارات او موتورات تمر!! فاجاب قائلا : - مابش كلهم مخزنين بالعُرُس
وسالته ان كان هناك من هو اكبر منه في القرية
قال :ابي مخزن بالبيت
(4)
دخل الطفل على ابيه واخبره عني ثم عاد وطلب مني ان اتبعه وفي بيتهم المتواضع استقبلني ابوه واسمه منصور الحشابي – نسبة الى القرية حُشَابة -وكان مخزنا لوحده وسالني من اين انا وماالذي جاء بي وعندما ذكرت له بانني واصحابي في طريقنا الى نبع العشة في شعبان البروية استغرب وقال يسالني :
- ماهو اللي جابكم لاحشابة وانتو سارحين العشة !!
ولم اقل له بان السبب هو رغبتي في الذهاب عن طريق مختلف وانما قلت له باننا اضعنا طريقنا وغلطنا في الطريق
وسالني عن اصحابي فقلت له بانهم نزلوا السائلة من مقطعة ولم انزل معهم
ورايته يتفحّصني وينظر باستغراب وبفضول الى بنطلوني المشطّط وقال يسالني: - وماهو اللي شطط بنطلونك ؟اين ادّربت ؟ كيف لوما تشطط *
قلت له : قد اليمن كلها مشطط
قال لي وقد لامس كلامي شيئا في نفسه : - شطّطُوها الملاعين
- كان صديقي المهندس بشر امين قد اهداني مشكورا بُعَيْد عودته من اجازته في ايطاليا بنطلونا مشططا وقد لبسته يوم الرحلة والقبيلي اعتقد بانه تشطط اثناء الرحلة.
(5)
كان لديّ يقين باني لن اجد اصحابي المشائين وكانت فكرتي هي ركوب سيارة او موتوسيكل الى متنه ومنها اعود الى صنعاء بدلا من اخبط في السائلة وحدي لكن الرجل قال لي نفس الكلام الذي قاله لي ابنه :
- هذي الساع مابش سيارات ولامتورات كلهم معرّسين
وعرض علي ان ابقى عنده للصباح لكني اعتذرت له وشكرته وطلبت منه ان يسمح لابنه بالمجيئ معي ليدلني على الطريق : - خلّي احمد ابنك يجي معي يورّي لي الطريق واعطيه مقابل تعبه
وعندها التفت منصور القبيلي ناحية ابنه احمد وقال له : - سير معه ..
وقبل أن أخرج طلب مني رقم تلفوني فاعطيته ثم وقد لاحظ عبوة الماء شبه فارغة طلب من ابنه أن يزودني بالماء وصب لي احمد من دبة كبيرة ماءً باردا وانقى من الماء الملوث الذي شربته من السائلة وبعدئذ ودعته وسرت خلف ابنه الذي صعد بي الى طريق اثارفي نفسي الرعب.
كان الطريق عبارة عن خيط من الحجارة الصغيرة مشدودا في الحافة وفوق الهاوية ولم تكن تلك الحجارة الصغيرة المرصوصة طريقا وانما كانت عبارة عن غطاء لساقية يجري فيها خيط نحيل من الماء القادم من نبع في الجانب الآخر من القرية .
وكان علي لكي اعبر فوقها ان اتحول الى بهلوان وامشي بخطوات متوازنة ومتناغمة حتى لااقع واهوي الى الاسفل لكن توازني كان يختل وكان احمد كلما اختل توازني يصرخ مرعوبا : -ياالله.. ياالله
و لشدة خوفه علي من ان اقع راح يتعثر هو الآخر في سيره لكأنه يعبر الطريق لأول مرة .
(6)
بعد ان أجتزنا حبل الصراط الحجري وتجاوزنا الخطر ووصلنا إلى السائلة تبخر خوفي ورحتُ وقد شعرتُ بالامان اكسر حاجز الصمت بيني وبين الطفل احمد الذي راح يسالني عن العالم الواقع وراء السائلة و سالني عن الاطفال الذين يعيشون وراء السائلة وهل هم مثله يرعون الغنم ويحرسون القات ولم ادر كيف اجيب على سؤاله الذي آلمني وبدلا من اجيبه سالته عن عالم السائلة فقال بان علي ان اسرع في السير واجتاز السائلة قبل المغرب وعندما سالته عن السبب قال لي :
- السايلة هذي فيها جن خيرات وهم يرقدوا النهار ويقوموا مغرب وقال يحذرني:
- لوجا مغرب وانت عادك بالسايلة لاتلفت يمين ولايسار ابسر بس لابين ارجلك
قلت: للمه ؟
قال على سب ماتبسر نسوان الجن ولوانت ابسرت جنية بين الماء تتغسّل قفِّي لها ولاتخليها تبسرك
قلت : ولو شافتنا ماهو اللي عيوقع!!
قال : الجنيات خِبَاث لوابسرتك جنية تبسر لاعندها وهي تتغسل تقلبك حجرسايلة .
وحكى لي حكاية عن خمسة اشخاص قال بانهم تأخروا في عبور السائلة وصادفوا وقت المغرب خمس جنيات عاريات بين الماء فراحوا يحملقون فيهن اعتقادا منهم بانهن نساء انسيات فكان ان تحجروا وصاروا خمس حجار كبار ملتصقات ببعض وسط السائلة
وحين سالته عن الجن
قال : الجن طبيبين ولوانت ابسرت جني بالمغرب قل له السلام عليكم لكن لوهو ابصرك تبول وانت مستقيم بالسايلة ماعاد يرحمك .
وراح احمد بحديثه عن جن وجنيات السائلة يعيدني الى مربع الخوف
كان لديه الكثير من الحكايات المرعبة والمريعة لكنه فجأة توقف وقال لي وهو يشير الى اعلى السائلة : - اصحابك
وفجأة رايت اشخاصا يقفون فوق صخورضخمة حسبتهم لضعف نظري قرودا ثم مالبثت ان تعرفت عليهم
وحتى الفت انتباههم الى وجودي رحت اصرخ بكل صوتي واناديهم بنداء الهاش :
اوووووون اووووووون
ومثلما فرحت بالعثور عليهم فرحوا بالعثور علي وراحوا يعلقون ساخرين ومتهكمين : - هااااا طريق مختلف كيف شفت الطريق المختلف !!!
(7)
لم اكن اتوقع بعد ان تأخرت كثيرا عنهم انهم سينتظروني وقد فرحت حين رايتهم وشعرت بالامتنان لكونهم انتظروا وعادوا للبحث عني ومماضاعف من شعوري بالامتنان هو ان السائلة التي رحنا نقطعها كانت اطول واصعب واشق من ان اعبرها وحدي
كانت الصخور تعترض طريقنا وتنتصب امامنا مثل جدران وعلينا ان نتسلقها ونتخطاها وثمة مستنقعات علينا ان نخوض فيها ونتعارك معها واحراش شائكة تتحرش بنا وكان الوقت يضيق والخوف يتسع والتعب يشتد ومن شدة ماانا متعب كنت كلما توقفت لالتقط انفاسي يستعجلني فؤاد وينادي علي قائلا:
- ياالله يارازحي قبلما يضيعوا ونضيّع الطريق
واحيانا كان يطلب من المشائين الذين سبقونا ان يسعفوني بشيئ من الطعام اعتقادا منه بان الصوم قد هد قواي وباني لواكلت سوف اقوى على السير لكني لم اكن اشعر بالجوع وانما كنت اشعر فقط بالتعب ومن شدة التعب كنت الهث مثل كلب . (8)
لاول مرة في رحلات فريقنا لم نتوقف ونخيم في مكان ولم نشعل النار لكيما نصنع قهوتنا ونعد طعام الغدا وانما كنا على عجل نجري كأننا مجموعة لصوص هاربين وثمة من يلاحقنا ليقبض علينا .ومع انني كنت صائما وليس بي جوع الاانني كنت انتظر بفارغ الصبر متى سيتوقفون لتناول وجبة الغدا كيما التقط انفاسي
وفي الساعة الخامسة عصرا توقفوا واخرجوا التونة والكدم والبصل والطماط والبسباس وعملوا لهم سندويتشات وانا استغليت فرصة توقفهم للاكل وغطست في الماء كيما اشحن بطاريتي واستعيد شيئا من طاقتي لكنهم التهموا سنديتشاتهم على عجل
وقبل ان استرجع شيئا من طاقتي كانوا قد تحركوا وطلبوا مني ان اسرع واتحرك خلفهم
قلت لهم: ياجماعة انا تعبان خلونا ارتاح شوية
قالواساخرين ومتهكمين : - هيااا كيف !! مش انت قلت تشتي طريق مختلف!!
اعطوني حصتي من طعام الغدا اثنين سندويتشات كدم وضعتهما في حقيبتي ومن بعد تحركنا وواصلنا المشي الى ان وصلنا المفرق المؤدي الى نبع العشة لكني وبالرغم من فرحتي باجتيازنا السائلة وخروجنا منها قبل المغرب وقبل موعد خروج الجن الاان الدرب الصاعد المؤدي الى نبع العشة بدّدفرحتى واثار في نفسي شيئا من الرعب.
كان الدرب الصاعد باتجاه نبع العشة اصعب واشق من اي نقيل وكان كل من ينظر اليه من السائلة يراه مركوزا ومنتصبا مثل مشنقة
قلت لهم وقد وصلنا الى المفرق : - دعونا نرتاح قليلا قبل ان نصعد
قالوا : مافيش وقت تاخرنا وكل هذا بسببك .
(9)
في الدرب الصاعد المؤدي إلى نبع العشة كان المشاء فؤاد القطابري يصيح بي ان اسرع :
لكني كنت قد صرت أعظم من حمار المُطَلّس
كان من عادة حمار المطلس عند صعود النقيل يمشي ويبرك وعندما يرغمه المطلس ان ينهض بقوة العصا يسير كم خطوة ثم يبرك ثانية وهكذا طوال النقيل. وهذا ماحدث معي اثناء صعودي الى درب العشة كنت امشي وابرك وكنت كلما بركتُ استحضرتُ روح جدتي ونهضت .
اتذكر كانت جدتي قد اخذتني معها الى قرية الهِتَاري تبحث عن شخص قيل لها بانه مهندس راديوهات وكان الراديو الذي تركه لها جدي قدتعطل وتريد منه اصلاحة. وفي رحلة العودة كنت كلمارحت اشكو من التعب واقول لها :
- تعبااان ياجدة
تقول لي :اصبر باقي قليل
وهكذا رحت بيني ونفسي وانا اصعد الدرب المؤدي الى النبع المقدس استحضر روحها واسترجع كلماتها : - اصبر باقي قليل.. اصبر باقي قليل.. اصبر باقي قليل.
(10)
وصلنا نبع العشة مغرب وكان ان تذكرنا كلام القبيلي. الذي قال لنا:
- لو انتم نزلتم منزل والله ماتوصلوا إلا مغرب
ولشدة ماكنت متعبا ومرهقا تحولت إلى واعظ وطلبت من المشائين الخمسة أن يصلوا المغرب وكان هدفي من ذلك هو مصلحتي وراحتي فلوانهم صلوا المغرب لحصلت على قسط من الراحة لكنهم خذلوني واحبطوني وبدلامن ان يصلوا القوا باللوم علي وحملوني ذنب صلاتهم التي لم يصلوها وذنوب اتعابهم وذنوب الرحلة كلها وكانوا على حق .
(11)
حين رحت أحاول النهوض شعرت كمالوان شللا أصابني وحال بيني وبين الحركة فقلت لهم : اذهبوا وأنا سأنام هنا بجوار النبع المقدس إلى الصباح لكن. الكالتن سعيد رفض وقال بان الكلاب ستاكلني
وعندما رحت استحضر روح جدتي لاحتمي بها لم تحضر وقلت بيني ونفسي :
- ربما أن روح جدتي تخاف هي الأخرى من أن تاكلها الكلاب!!
عندئذ طلبت من الكابتن سعيد أن يسلمني عصاه لأستعين بها على النهوض والسير وكان أن وافق بدون تردد واعطاني عصاه رغم حاجته الماسة اليها وقد تبين لي وأنا أمسك بالعصاكم هي مفيدة ومساعدة !!لكني فيما بعد ولكثرة ماتعثرت في طريقي أعطيتها للمشاء فؤاد فقد كان من الصعب أن أمسك العصا باليمين والتلفون باليسار وأواصل المشي ذلك لاننا بسبب الظلام كنا قد رحنا نواصل الصعود إلى قرية “القارن “على ضوء تلفوناتنا التي كانت هي الاخرى قد استنفذت طاقتها وصارت على وشك الانطفاء.
(12)
في الساعة الثامنة والنصف مساءً وصلنا قرية القارن وبمجرد أن وصلنا انطفأ تلفوني وانطفأتُ أنا ووجدتني قاب قوسين أو أدنى من الهلاك. وحين رحنا نسال عن سيارة توصلنا إلى الرصدة أو إلى متنة قيل لنا بان الوقت متأخر ولاتوجد سيارات أجرة والسيارة الوحيدة الموجودة تمنّع صاحبها واعتذر ، وحينها من التعب والألم والعجز ، أجهشت بالبكاء وبكيت، وعلى صوت بكائي خرج عقال وفتيان وأطفال القرية من بيوتهم وتحلقوا حولي يسالون عن سبب بكائي فقلت لهم
- أنا رجل عجوز ومتعب ولاقدرة لي على السير وبيني وبين الموت بضعة خطوات وأمنيتي أن أموت في بيتي بدلا من أن أموت في قريتكم وأحملكم المسئولية .
وسألوني ماهو المطلوب ؟
قلت : المطلوب تدبروا لنا سيارة تنقلنا إلى الرصدة أو إلى متنة على حسابنا
وكان هناك قبيلي شاب وشهم تحرك معنا واقنع سائق سيارة الاجرة ان يأخذنا الى متنه
وقال له وهو يشير إلي : الرجل عيموت
قال سائق السيارة البيجوت :وأنا ما دخلي !!
قال له : كيف مالك دخل!! انت واحد مننا ولومات والّاحدث له شي القرية كلها عتتحمل المسئولية واخرج لنا توصله وهو حي بدل مانوصله وهو ميت .
وعندها شعر السائق بخطورة أن أموت في قريتهم ووافق على أن ياخذنا بسيارته إلى متنة مقابل أربعة ألف ريال .
ومن متنة ركبنا إلى صنعاء و كان أول شيئ فعلته بعد وصولي البيت هو الاستحمام ومن بعد التهمت نصيبي من سندويتشات الكدم، ثم استلقيت على الفراش ونمت
وفي الختام اشكر المشائين :
كابتن سعيد السروري
مبخوت الماوري
سليم مبخوت الماوري
فؤاد القطابري
محمد مقبل
وأعتذر لهم عن كل المتاعب التي سببتها لهم.