- كتب: خلدون العامري
شكلت الفنون الأدبية الحديثة التباسا في أوساط الساحة الثقافية وذلك بسبب القصور المعرفي والاندفاع التوصيفي الاعتباطي لبعض أدعياء الكتابة؛ أو لعله الهروب من الكتابة المدهشة إلى كتابة نعجز عن تصنيفها.
احتلت الومضة الأدبية أبرز إشكالات هذا الإلتباس وصارت محل خلاف، ابتداء بالخلط في المفهوم وانتهاء بالإرتباك في الشكل والمضمون. وللأسف لم يقتصر هذا الارتباك على الكُتاب وجمهور العامة بل هناك ما يوازيه من ارتباك في القراءة الناقدة، وحتى أزيل التشتت الحاصل سأوضح هنا مفهوم وحالات الومضة وفقا لوجهتي الشخصية.
- التعريف:
وَمَضَ، يَمِضُ، مصدر وَمْضٌ، وَمَضَانٌ، وَمِيضٌ.
وَمَضَ البَرْقُ : لَمَعَ لَمَعَاناً خَفِيفاً.
الومض: هو شدة الضوء الخاطف ك لمعان البرق، وهو السطوع المباغت اللحظي.
وَمْضة: جمع ومضات.
التماعه، الظهور المفاجئ والعابر
بريق من الضَّوء. (القاموس)
اشتقاقا من الومض جائت الومضة بمعنى “تناهي الصغر شديد الأثر” وانطلاقا من هذا التحديد فكل جنس ادبي -سريع البناء مكثف، ساطع الظهور، لامع المدلول- فإنه يقرن بصفة الومضة.. فنقول ومضة الحكمة، ومضة القصة، ومضة الشعر …إلخ
إذن الومضة صفة لأجناسٍ قائمة وليست اسم جنس مستقل كما ذهب إليه البعض.
ومن هنا يمكن القول إن الومضةَ “صفةٌ مجازيةٌ لأصغر وحدة بناءٍ يتم الوصول إليها -بالتكثيف مرة وبالانزياح مرة أخرى أوبهما في آن- على شرط احتفاظها بخصائص جنسها، وفتح باب التأويل بما تضمر من مغزى”.
وهي شکل من أشکال الحداثة الأدبية الكتابية، تُجاري في شکلها مبدأ الاقتصاد اللغوي، الذي يعطيها حقيقتها بأن تكون ومضة مكتملة.
- للومضة شروطها:
- الشكل المصبوب والمحدوية في بعض الأصناف.
- التكثيف الدلالي حتي التناهي في الصغر؛ حيث لا يمكن اختصار كلمة أو حرف منها.
- الإيحاء: وهو تلميحة سريعة عميقة ترمز إلى المعنى المقصود.
- المفارقة: وهي اللعب على التناقض لخلق الدهشة الهادفة.
- المغزى والهدف وهو ما يحقق المعنى المراد والجديد.
وللإيضاح أكثر فإني أقول: هناك الكثير من النصوص المكتوبة باختزال واقتضاب ويظن أصحابها أنها ومضات وهم عن الومض أبعد.! بينما مالم تحمل معنى قيمي، وتتضمن الشروط الآنفة الذكر فلا تسمى ومضات.
- نشأة الومضة:
قديمًا نشأءة الومضة مع نشأة الكتابة منذ الزمن البعيد، وهي أيضًا حاضرة في جميع الفنون الكلامية المعمقة، فلها وجود في المثل والحكمة والشعر وربما أيضًا في القول السياسي إذ لم تكن مصنفة ومستقلة .. ومن أعماق التاريخ تحضرني هنا ومضة أدهشتني “تمخض الجبل؛ فولد فأر.” كما تحضرني في هذا القول أيضا “حسبه صيدًا؛ فكان قيدًا”.
أما حديثًا فقد تولدت الومضة الأدبية مقترنة بعدد من أجناس النثر القائمة -السردية والشعرية- مجسّدة بعدا رمزيا للأدب في عالم التقنية الرقمية والزخم المعرفي المتسارع والذي يرجع إلى ترقي الكتابة وازدياد الوعي، وهنا يجيئ الكاتب مبدعًا في التكثيف والانزياح مواكبًا للعصر الذي يقتضي السرعة والإندفاع، وكذلك نظرًا لقصر الوقت ومحدودية القراءة لدى الجيل الجديد الأمر الذي جعل الومضة وجبة ضرورية خفيفة مثلها مثل الساندويتش.
وللومضة حالاتها وألوانها
- نجد أبرز حالاتها في:
- ومضة الحكمة: وهي حكمة مختصرة تهدف لقول مأثور، اشبه بشعار او تعبير سهل الحفظ والترديد، تعتمد علي: التكثيف، والإيحاء، والخاتمة المباغتة، والهدف والمغزى، ومحدودية الشكل المصبوب بمتن مكون من جملتي السبب والنتيجة بما لايزيد عن 8 كلمات بينهما فاصلة تعليلية(؛)، تتوج بعنوان نكرة وتنتهي بنقطة حتمية(.).
“استنزاف
فرغت الجيوب؛ فرضوا الضرائب.”
(ام عبدالرحمن البرقاوي) - ومضة القصة:وهي ومضة قصصية ساطعة الظهور توصل نفس ماتوصله القصة القصيرة والقصيرة جدا ورغم انها تتشارك معهما نفس العناصر مع فارق الدهشة والمباغتة وضرورة حضور الإيحاء بفنية أكثر عمقا، وتكثيفا اشد اختزالا، حيث تكتب في سطرين أوثلاثة بكلمات قليلة مابين6 -20 كلمة،، بينما يمكن أن تتراوح القصة القصيرة جدا بين أربعة وعشرة أسطر ..
ولم أجد لومضة القصة من تعريف أشمل مما لخلصه الناقد حمدي عليوه بأنها:”قصة الجملة الواحدة، أو أكثر المترابطة لغويا لتقرأ في اتصال واحد ونفس واحد – وليس جملا متعددة منتهية، وتهدف لعرض قضايا الحياة الأساسية ومواقف الإنسان الأساسية تجاهها”.
“إخلاص
الرجل الذي لملم أشلا أطفاله وزوجته بعد القصف لم يعد من المقبرة أبدا؛ دفن بقاياه هناك.”
(أمير المدرس) - ومضة الشعر: وهي مايصوغه الشاعر بألفاظ قليلة تعبر عن كل مايمر في الذهن من احساس شعري خاطف.
أو كما عرفها الناقد سيد عفيفي بأنها: “كل بيت – أو أبيات قليلة- من الشعر المختزل والمضغوط حد الانفجار، يقدم قيمة الحكمة أو النصح، أو السخرية من الواقع.
“للشمس ضفَّتان
إحداهما للناس
والأُخــرى
ملاذ الشعراء”
(رفعت المرصفي)
تعد هذه الحالات من أرقى وأعرق فنون الومض وهي ما يبرع فيها الكثيرين من الكتاب العرب منهم حسب معرفتي على سبيل الذكر لا الحصر منهم الأجلاء حمدي عليوة علي أحمد عبده قاسم حسن فياض سائدة محمد ضياف البراق مجدي شلبي فاطمة الشيري أكثم جهاد رائد طياح besam bassouma فاطمة المخلف، مهدي الصالح، أمير المدرس، حاتم عبدالهادي السيد، عائشة المحرابي هيثم رفعت، سكينة شجاع الدين.
- أما أبرز ألوانها -أي الومضة- فنجده في:
- ومضة المقارنة: التي ترصد حالة معينة بلقطة إبداعية خاطفة في عمق شيئين مختلفين يجتمعان عند التقاء الانزياح.
“على جدار الذكرى
أنا وساعة الحائط
لا نهدأ”.
(هيثم رفعت) - ومضة التناص: التي تسدعي نص شهير من النصوص الدينية او الأدبية؛ لبلوغ معنى آخر، بالدهشة والمقاربة.
“سلامٌ لمن رأوا جدار روحك يريد أن ينقض فأقاموه، ولم يتخذوا عليه أجرًا” . (جلال الدين الرومي)
“هزي إليك جذع يساقط عليك عشقا نديا”
“أما الليل فكان لنبض حائرٍ، وكان ورائه شفاه تأخذ كل شيء غصبا.” (هيثم رفعت) - الومضة التعريفية وهي ومضة فلسفية شديدة الدهشة لا تزيد عن سطر لكنها تغني في مدلولها عن ألف سطر.
“الخذلان: طفلي الذي لم انجبه.”
“الوحدة: أختي التي لم تلدها أمي”
(رنيم أبو خضير Raneem Nizar) - الومضة الحوارية: وهي الومضة المختزلة بسؤال وجواب حواري بين اثنين.
“رسول
دع روحك للَظَّى المداد، كن محارباً نبيلا. - ولكني ياقلمي معجون بالخطئية والسواد.
- ألم أقل لك:إنك لن تستطيع معي صبرا “
ونلاحط هنا التناص القرآني وبذلك تتقاطع هذه الومضة الحوارية مع ومضة التناص .(هيثم رفعت)
وهذه الألوان نجدها إما مستقلة بحد ذاتها كما جرى عليها العرف في الكتابات الشائعة، أو نجدها مضمنة في نصوص أوسع، نجدها متربعة في النص المفتوح، النص الذي لا يخلو سطر فيه من ألوان الومضه، كتلك التي ينقشها الكاتب ضياف البراق في نصوصه المفتوحة ولنا في نص “ليس بشيء يذكر” مثال صارخ.
من خلال ماسبق يتضح بأن الومضة فن تشاركي بين الكاتب والقارئ، انها خلاصة الخلاصة وهي من الصعوبة اشبه باستخراج ابرة من كومة قش، لا يتقنها إلا من يكتب في آخر حدود التكثيف والعمق، ولها من الإيحاء ما يجعلها تعتمد وتراهن في ترجمتها على خيال المتلقي.