- سناء مبارك
كتبتُ قبل يومين عن التداوي بالخرافة في موروثنا الشعبي، وشاركني الكثير من الأصدقاء بالعديد من التجارب الغريبة، لكن أكثر ما لفتَ انتباهي هو أن كثيرًا من هذه العادات الاستطبابية ورغم التطوّر الكبير وتوفر المعلومة مازالت مفضلة عند البعض ومازالوا يعتقدون بجدواها لديهم ويفضلونها على رأي الطب، خاصة إن كانت عادات رافقتهم منذ الصغر.
بالتأكيد هذا هدف أساسي من أهداف التطبيب، أن يشعر المرء أنه أفضل، أليس كذلك؟ ولكن؛ هل الإحساس بالتحسّن يعني فعلًا الشفاء؟
حسنًا.. ليس دائمًا.
هناك تصنيفات متعددة للأمراض أعزائي، هناك الحاد والمزمن، وهناك ما نملك علاجه وهناك ما نقف أمامه عاجزين، هناك نوع يحدث ويذهب من تلقاء نفسه، وهناك النوع الذي يحتاج لتدخل دوائي أو جراحي طارئ أو غير طارئ، وهناك ذلك الذي يرتبط بالحالة النفسية، وهو وإن كان سببه نفسي بحت إلاّ أن بعض أعراضه حقيقة.
دعوني أقص عليكم التالي:
في الحرب العالمية الثانية نفذتْ كمية المورفين (مسكن قوي للألم)؛ التي كانت بحوزة الطبيب هنري بيتشر، ووسط استغاثات الجنود الجرحى وصرخاتهم لم يكن أمامه إلاّ أن يحقنهم بمحلول ملحي ويوهمهم أنّه يعطيهم أقوى دواء ممكن لإزالة الألم، فكانت المفاجأة !.. 40 بالمائة من هؤلاء الجنود شعروا بالتحسن فعلًا، وأمكنهم النوم تلك الليلة وبعدها بلا آلام، كانت هذه الملاحظة جديرة بالتسجيل فقام السيد بيتشر بتوسيع البحث عن هذه الظاهرة ونشر لأجلها ورقته الشهيرة”قوة البلاسيبو”، التي وضعت ولأول مرة في الطب الأساس للاختبارات مزدوجة التعمية التي تستخدم حتى اليوم في الحكم على فعالية العقاقير المختلفة.. والبلاسيبو لفظ لاتيني يعني “سوف أرضى”، دلالة على التأثير الإيجابي لعقارات ليست لديها فعالية علاجية، أو كما يحلو للبعض تسميتها بالعلاج الوهمي.
بيتشر وإن وصف تأثير الدواء الوهمي واقترح استخدامه في الممارسة الطبية، إلا إن لفظ بلاسيبو وعلاقة الاعتقاد، الخيال، والتوقع بالعافية لم تكن شيئًا جديدًا على ملاحظة الأطباء منذ القرن الخامس عشر ومابعده، ففي 1799 كتب الطبيب البريطاني جون هايجارث كتابه الأهم عن “قوّة التخيّل، كيف تُمرض وكيف تشفي الأجساد”، كان ذلك عندما قام بمحاكاة لجرارات بيركنز الشهيرة، التي اخترعها الطبيب الأمريكي اليشا بيركنز وأدعى؛ على الرغم من أنها مصنوعة من الفولاذ والنحاس؛ إنها مصنوعة من معدن نادر قادر على سحب المرض وإطلاق الألم من الجسد المريض، كانت تلك المخروطات المعدنية تباع بسعر خيالي، ويعالج بها مرضى الروماتيزم والصداع ونتائجها وللعجب كانت باهرة، ورغم أن جمعية كونكيت الطبية أدانت طريقة بيركنز ووصفتها بأنها “شعوذة مضللة” إلاّ أن الإقبال عليها كان كبيرًا، ليس فقط من العامة، فقد أقنع بيركنز ثلاث كليات طبية بجدوى طريقته وقيل أن جورج واشنطن نفسه اشترى تلك العصيان العجيبة، وتم اعتمادها في أمريكا من قبل أطباء وأساتذه ورجال دين، ثم انتقلت بصيتها إلى لندن، وبمرور الوقت كان البعض من الأطباء والباحثين قد ساورتهم الشكوك، وكان أحدهم هايجرث فقام بصنع عصيان مماثلة من الخشب صممت لتشابه تلك المعدنية وجاءت بنتائج إيجابية مماثلة، فخلص في النهاية إلى أن العلاج لم يكن في المعدن العجيب بقدر ما كان في خيال المريض.
لم ينفك الأطباء مذ عقود يدرسون تأثير الاعتقاد والتوقع على حدوث الأعراض المرضية أو زوالها، خلال الستين عامًا الماضية أصبح إيجاد تفسيرات بيولوجية لتأثير الدواء الوهمي ممكنًا، وأكثر الأمراض التي شملتها الدراسات كانت الاكتئاب، الباركينسون، والآلام بما فيها الصداع، والقولون العصبي واضطرابات الطمث والنوم، ونوبات الربو والسعال وغيرها. وهي أمراض يمكن ربطها بالنواقل العصبية والمواد الكيميائية والهرمونات، التي ترتبط بدورها بالجهاز العصبي والمناعي.
على سبيل المثال:
- في تجربة تم دهن إحدى اليدين بكريم وأُخبر المشاركون أنه كريم مخدر، بعد فترة تم تعريض اليدين إلى مؤثر مسبب للألم، استطاع المشاركون في التجربة تحمل الألم في اليد التي تم دهانها بالمخدر الوهمي. وكشفت بيانات التصوير أن تأثير الدواء الوهمي قد منع إشارات الألم الواردة من الذراع إلى الدماغ بالفعل.
- إن الاعتقاد الإيجابي يرفع مستوى الدوبامين في الدماغ.. مرضى باركنسون يتميزون بانخفاض مستويات مادة الدوبامين الكيميائية في الدماغ، أظهر أبحاث أن الأدوية الوهمية أمكنها أن تزيد من مستويات الدوبامين في أدمغة مرضى باركنسون، وساعدتهم بالتالي على التحرك بسهولة أكبر، مثلما يفعل “ليفو دوبا” العقار المستخدم في علاجهم والمكون من الدوبامين.
- لا يعتمد تأثير البلاسيبو على الاعتقاد فقط بل على قوّة هذا الاعتقاد، ففي تجارب مختلفة أظهرت النتائج أن الكبسولات الوهمية تعطي نتائج أفضل من الأقراص، والحقن أفضل من الكبسولة، والمحاليل أفضل من الحقن، وأن العلاج بحبة واحدة أقل فاعلية من العلاج بثلاث، وأنه كلما زاد سعر الدواء أو اختلفت طريقة تغليفه أو حتى لونه، اختلف تأثيره، وهكذا كلما بدى وكأن العلاج الوهمي أكثر حدة أو قوة كانت استجابة التحسن أفضل مع أن في كل هذه التجارب لم تستخدم مواد فاعلة.
- ليس هذا فقط، بل إن مظهر الطبيب المعالج وأسلوبه ومدى إظهاره للاهتمام والتعاطف وثقته في التشخيص ومن ثم في العلاج الموصوف تلعب دورًا هامًا في النتائج حتى وإن كان ما يصفه مجرد “بلاسيبو”.
مهلًا عزيزي قارئ هذه السطور، إن كانت قد أصابتك الحيرة والدوخة من تأثير هذا المدعو بلاسيبو؛ انتظر حتى تتعرف على أخيه التوأم “نوسيبو”، وهو مثل أخيه لفظ لاتيني يعني “سوف أضر”، ويعني ببساطة أن توقع حدوث أعراض جانبية لأي دواء أو إجراء طبي يجعل المريض يختبرها فعلًا.
- في واحدة من الدراسات تم إخبار المتطوعين أن تيارًا كهربائيًا خفيفًا سيمر عبر رؤوسهم وقد يتسبب في صداع، ثلتي من شاركوا في التجربة أبلغوا عن إصابتهم بصداع شديد جعلهم يتوقفون عن الاستمرار فيها، على الرغم من أنه لم يتم تمرير أي تيار كهربائي حقيقي في التجربة.
- في تجربة أخرى أعطي المجربون الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يعانون من حساسية تجاه الأطعمة المختلفة حقنة قيل لهم إنها تحتوي على مسببات الحساسية، كانت الحقنة عبارة عن محلول ملحي، لكنها تسببت في أعراض الحساسية في كثير منهم.. ثم قام المجربون بحقن الماء المالح مرة أخرى، هذه المرة قائلين أنه سيبطل تأثير الحقن السابق، وفي كثير من الحالات فعل ذلك حقًا.
- مثال مثير للاهتمام للدور الذي تلعبه التوقعات في تأثير الدواء الوهمي يشمل مرضى “آلزهايمر”، فقد وجد أن الأدوية المهدئة أقل فاعلية في تقليل شكاوى الألم الجسدي لدى المصابين بالزهايمر الخفيف إلى المتوسط، إذ يميل مرضى الزهايمر إلى طلب جرعات أعلى من مسكنات الألم، ربما لأنهم ينسون أنهم تناولوا أدوية أو أنها كانت تعمل معهم من قبل، نظرًا لعدم وجود توقعات لديهم، فإن الأدوية الوهمية تبدو معهم أقل فعالية.
قد لا يتسع هذا المقال للحديث عن التحفظات الأخلاقية في الطب الحديث وحدود المتاح سواء للاستفادة من تأثير البلاسيبو أو تقليل ارتدادات النوسيبو، ولكن من الجيد الإشارة إلى أن الحق في المعرفة والاختيار هو أثمن ما يمكن أن يقدمه طبيب لمريضه، وهو أمر قد يحاسبه عليه القانون في أماكن كثيرة .
والحق في المعرفة هو ما يتنازل عنه الناس في مجتمعاتنا، لأن المعرفة تبدو أحيانًا مخيفة، ولأن العادة تغلب التعوّد، والوهم يعفي مواجهة احتمالية الخطر، الأدوية الوهمية ومعها التداوي بالخرافة وإن أشعرتك بالتحسن أحيانًا، فإنها لايمكنها شفاء أي مرض، اللهم إلا المصادفة قد تضعها في تقاطع مع بعض الأمراض التي كانت ستتحسن من تلقاء نفسها سواء أخذت لها دواء أم لا، أو تلك الأعراض التي كانت بحاجة دفعة نفسية أكثر منها إلى علاج.
من المهم في كل الأحوال أن نضبط أدمغتنا على الاعتقاد الإيجابي والتصديق بأن في أجسادنا والطبيعة من حولنا أعظم العلاجات. وهذا حقًا كل ما نحتاجه في بعض الأحيان، مادمنا متأكدين أننا لا نخسر الوقت ولا نؤذي ولا نجازف ولا نعاند.
ما نراه في المستشفيات من عواقب وخيمة لإضاعة الوقت في “اللف والتجريب” للخرافات والخزعبلات ثمنه في بعض الأحيان حياة غالية، سرطان كان بإمكاننا اكتشافه مبكرًا، عدوى كان بإمكاننا محاصرتها، أو عاهه كان بإمكاننا منعها. والقائمة تطول.