- عيبان السامعي
ثورة 11
فبراير الشعبية والفرص المهدورة:
جاء الانفجار الشعبي
والاجتماعي في 11 فبراير 2011م تعبيراً عن وصول أزمة النظام إلى الذروة واستحالة
استمرار الشعب في العيش بالأوضاع القائمة.
شكّلت الحركة
العمالية ــ بمختلف شرائحهاــ بمن فيها المعطّلين والمسرّحين من أعمالهم طليعة
الثورة الشعبية, فهؤلاء أكثر من اكتووا بنار الاستغلال والإملاق والظلم الاجتماعي
وغياب تكافؤ الفرص وانسداد أبواب الأمل أمامهم, فاندفعوا إلى الثورة رغبة في الخلاص وتحقيق حياة كريمة ومواطنة
متساوية.
لقد شهدت ساحات
الثورة على امتداد محافظات الجمهورية تدفق عمال القطاع الإنتاجي والخدمي, الذين
سارعوا إلى تكتيل أنفسهم في حركات وائتلافات ثورية, كان أبرزها: الحركة العمالية
الشبابية الثورية بساحة الحرية بتعز, بالإضافة إلى تأسيس لجان عمالية لعمال شركات القطاع الخاص وعمال المهن
الحرة, وقد تمخّض عنها تأسيس مجلس تنسيق لنقابات عمال القطاع الخاص والمهن الحرة
في مارس 2012م كأول وأوسع كيان نقابي يضم عمال القطاع الخاص وقطاع المهن الحرة في
اليمن.
ومن ناحية أخرى شكّل
عمال القطاع الهامشي (غير الرسمي/ غير المهيكل) النسبة الأكبر في خارطة الحركة
العمالية الثورية, وضم هذا القطاع طيف واسع من عمال البناء والتشييد, وعمال المهن
الحرة: النجارين والسمكريين والحدادين والخياطين وعمال النظافة وعمال المطاعم
والمحلات التجارية …إلخ. وكان مبعث انخراطهم في مجرى الثورة بدافعٍ من الأوضاع
السيئة التي يعيشونها, فهؤلاء العمال يبيعون قوة عملهم لقاء أجور زهيدة, ويتعرضون
لأسوأ أصناف الاستغلال من أرباب العمل في وقتٍ لا وجود فيه لقانون يحميهم ويكفل
حقوقهم في الأجر العادل والإجازات والضمان الاجتماعي والضمان الصحي والتأمين بعد
التقاعد.
وعلى الرغم من طبيعة
علمهم الشَّاق والظروف الخطِّرة التي يتعرضون لها, في ظل غياب كلي لمعايير
السلامة, فإنَّ غالبيتهم يعملون في إطار علاقة عمل غير واضحة, فلا عقود كتابيّة
ولا لوائح ولا ضوابط تحدد علاقتهم برب العمل, عدا الاتفاق الشفوي على الأجور وفق
منطق السوق (العرض والطلب).
وتزداد مأساويّة هذا
الوضع مع عمال الأجر اليومي, الذي يمكن لرب العمل الاستغناء عنهم في أيّ لحظة بسبب
أو بدونه, ولا يجد هؤلاء العمّال من يُمثلهم ولا من يُدافع عنهم.[82]
كما اضطلعت الحركة
النقابية بأدوار مشهودة في مسار الثورة الشعبية, فقد انخرط عدد من القيادات
النقابية في الثورة منذ الوهلة الأولى, وبرزت في هذا المضمار نقابات عمالية ومهنية
عديدة مثل: نقابة المحامين ونقابة الصحفيين ونقابة المهن الفنية الطبية ونقابة
الصيادلة ونقابة الأطباء ونقابة المعلمين والعديد من نقابات عمال وموظفي القطاع
العام والمؤسسات العامة.
وقد نفذت هذه
النقابات الإضرابات واشتركت في المسيرات الثورية وقدمت تضحيات مشهودة فقد سقط من
أعضائها شهداء وجرحى.
ورغم أن ثورة 11
فبراير قد أزلت العائق الموضوعي وفتحت الباب واسعاً أمام الحركة النقابية لتستعيد
أدوارها, وتعيد تنظيم صفوفها, وبشكل مستقل وبإرادة حرة, غير أنه لم يتحقق شيء من
ذلك باستثناء تشكيل مجلس تنسيق لعمال القطاع الخاص وعمال المهن الحرة في محافظة
تعز, حيث ضمّ هذا المجلس ما يزيد عن (14000) عامل منضوين في 12 نقابة عمالية, هي:
نقابة عمال مصنع
الاسفنج والبلاستيك.
نقابة عمال مصنع
السمن والصابون.
نقابة عمال شركة
المتنوعة.
نقابة عمال شركة
الجند.
نقابة عمال شركة
البحر الأحمر (الحاشدي).
نقابة عمال الشركة
المتحدة.
نقابة عمال مصنع
الألبان.
نقابة عمال شركة
التكامل الدولية.
نقابة عمال شركة هزاع
طه.
نقابة عمال شركة
عبدالجليل ردمان.
نقابة عمال المهن
الحرة.
وقامت نقابات عمال
القطاع الخاص ببلورة مشروع قانون عمل جديد وقانون تأمينات اجتماعية وسعت إلى
استصدارهما عبر الدوائر الرسمية ومجلس النواب, غير أن ظروف الحرب المندلعة منذ
مارس 2015م عطلت هذا المسار.
الحرب الجارية
وتداعياتها على عمال وشغيلة اليمن:
تسبب انقلاب 21
سبتمبر 2014م الذي قاده تحالف (المخلوع صالح وجماعة الحوثي) على الشرعية التوافقية
وعلى مخرجات الحوار الوطني ومسار الثورة الشعبية اليمنية في تفجير حرب مدمرة تدخلت
فيها دول التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات. وقد تسببت الحرب بانهيار
اقتصادي شبه كلي, وخلفت مآسٍ وكوارث إنسانية لفحت بنارها الأغلبية الكاسحة
للمجتمع, وقد نالت الحركة العمالية النصيب الأوفر من ذلك, يمكن تبيانه على النحو
الآتي:[83]
تشير بعض التقديرات
إلى أن عدد العمال الذين سرحوا من أعمالهم بفعل الحرب وصل إلى نحو (1.8) مليون
عامل, معظمهم من عمال القطاع الخاص.
(70%) من إجمالي العاملين
في مختلف القطاعات فقدوا أعمالهم بسبب توقف مشاريع الإنشاءات الحكومية، بالإضافة
إلى توقف معظم مشاريع الإنشاءات التابعة للقطاع الخاص التي باتت ترى في اليمن بيئة
غير ملائمة للاستثمار، وأخرى قلصت نشاطها في اليمن إلى أدنى نسبة ممكنة مما يجعلها
مهددة بالتوقف.
تعرض عدد من المصانع
والمنشآت الإنتاجية والخدمية للتدمير إما بفعل قصف طيران التحالف العربي أو بفعل
قذائف الانقلابيين, وقد ذهب ضحية هذه الأعمال الاجرامية العشرات من العمال
والعاملات.
تفاقم عدد الفقراء
بسبب الحرب إلى نحو (80%) من إجمالي سكان البلاد البالغ عددهم 24 مليون نسمة.
ارتفاع أسعار المواد
الغذائية بنسبة متوسطة (75%) عام 2018م مقارنة بالعام 2015م.
تدهور قيمة العملة
الوطنية مقابل العملات الأجنبية, فقد ارتفع سعر الدولار مقابل الريال اليمني في
العام 2018م بنسبة (153%), ما انعكس سلباً على قيمة الأجور, إذ تشير تقارير صحفية
إلى أن العامل اليمني فقد أكثر من ثلثي أجره مقارنة بالعام ٢٠١٥م. وبالتالي أصبح
(90%) من عمال وموظفي القطاع الحكومي يعيشون تحت خط الفقر الدولي.
انقطاع دفع رواتب
وأجور عمال وموظفي القطاع العام في معظم المحافظات اليمنية ولمدة تزيد عن عامين,
بل إن بعض المحافظات تجاوزت هذا الحد الزمني ووصل إلى الضعف. لقد خلقت أزمة انقطاع
دفع الرواتب آثار مدمرة وضعت الملايين من أبناء الشعب اليمني أمام شبح المجاعة,
فضلاً عن ما أنتجته من مشكلات اجتماعية كارتفاع نسب الطلاق والعنف الأسري والتفكك
الأسري وتزايد نسبة التسول ونسبة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية.
قيام الحكومة
السعودية بفرض رسوم باهظة على العمال اليمنيين المهاجرين، ما يهدد بعودة مائتين
ألف منهم لبلدهم رغم حالة الحرب، أو البقاء وتسليم الأجور مقابل الرسوم الباهظة
التي تُفرض عليهم.
المحور
الثالث: عقبات على الطريق:
هذا المحور مكرس
لتناول قضايا ومشكلات الحركة العمالية, وقبل الولوج إلى صلب الموضوع, من المفيد
إعطاء صورة بانورامية للتوزيع الديمغرافي للقوى العاملة وتركيبها الاجتماعي.
(ج_ 1) التركيب
الاجتماعي للقوى العاملة اليمنية:
وفقاً لآخر إحصائية
رسمية[85], يبلغ عدد السكان في سن العمل (من عمر 15 فأكثر) (13.4) مليون
نسمة, ويشكلون نسبة (48%) من إجمالي عدد السكان البالغ (28) مليوناً.
ويشكل الذكور نسبة
(50.8%) من مجموع القوى العاملة, في حين تشكل النساء نسبة (49.2%).
وعلى الرغم من هذه
النسب المرتفعة إلا أن نسبة المشاركة في قوة العمل لا تتجاوز (36.3%), نسبة
مشاركة الرجال (65.8%), و(6%) فقط للنساء.
ويشكل العاملون بأجر
نسبة (70%), (30%) منهم يعملون في القطاع الحكومي, والباقون يعملون في القطاع
الخاص والقطاع غير الرسمي.
ويتوزعون على مختلف
الأنشطة الاقتصادية, كما يلي:
عمال الصناعة
(البروليتاريا الصناعية): ويشكلون نسبة (14.5%) من إجمالي القوة العاملة.
عمال الزراعة:
ويشكلون نسبة (29.2%), وهؤلاء يتألفون من قسمين: القسم الأول: العاملون
بأجر (بروليتاريا فلاحية) ويعملون في المزارع الكبيرة المملوكة للرأسماليين
وإقطاعيين, ويتركز هؤلاء بدرجة أساسية في المحافظات والمناطق الزراعية في تهامة
وحجة وإب وصعدة وعمران والمحويت وذمار وأبين وحضرموت.
والقسم الثاني:
فلاحين كادحين, يعملون لحسابهم في ملكيات صغيرة مملوكة لهم أو مستأجرة.
عمال الخدمات
والتجارة: ونسبتهم (55.6%), ويتألفون من قسمين: القسم الأول العاملون بأجر
(بروليتاريا رمادية), والقسم الآخر عمالاً يعملون لصالح أنفسهم في القطاع الهامشي
وتجارة التجزئة.
(ج_2) قضايا ومشكلات
الحركة العمالية اليمنية:
البطالة:
البطالة ظاهرة
إشكالية.. وتبدأ إشكاليتها في التحديد المفاهيمي وفي طرق احتساب مؤشراتها مروراً
بتفسيرها وانتهاءً بوضع تصورات لمعالجتها.
فعلى مستوى التحديد
المفاهيمي يجري اختزال “البطالة” في صورة البطالة السافرة, أي وجود
أفراد قادرين على العمل ويرغبون فيه ويبحثون عنه ولكن لا يحصلون عليه.
يستثني هذا التعريف
أولئك الأفراد القادرين على العمل والراغبين فيه وكانوا يبحثون عنه ووصلوا إلى
حالة يأس, وهؤلاء يشكّلون نسبة لا يستهان بها من المعطلين.
كما يستثني أشكال
أخرى من البطالة مثل: البطالة الجزئية, والبطالة الموسمية, والبطالة المقنعة, وغيرها, والقاسم المشترك لهذه
الأشكال البطالية, يتمثل في هدر المورد البشري بما يجعله عاجز عن تحقيق مستوى
انتاجية يتناسب مع قدراته واحتياجاته.
وعلى مستوى احتساب
مؤشرات البطالة: تقوم الاحصائيات الرسمية على احتساب نسبة البطالة ــ في الغالب
الأعم ــ كنسبة عدد العاطلين إلى مجموع قوة العمل مضروباً في (100).
وهذه الطريقة تعطي نتائج
مضللة, ولا تعكس الواقع الفعلي, ذلك أنها لا تأخذ بعين الاعتبار عدد الأفراد
المعطلين في لحظة زمنية معينة, والأفراد الذي يعانوا حالة البطالة الموسمية أو
المقنعة, وأولئك الأفراد المعطلين قسراً, ونعني بهم أولئك الذين جرى تسريحهم من
أعمالهم قسراً لأسباب سياسية أو لغيرها من الأسباب.
أما على مستوى تفسير
ظاهرة البطالة, ففي العادة يتم إرجاعها إلى العوامل والأسباب الآتية:
ارتفاع معدلات النمو
السكاني.
الهجرة من الريف إلى
المدينة.
عدم مواءمة سياسة
التعليم الجامعي مع احتياجات سوق العمل.
ويتم صرف النظر عن
العامل البنيوي المولد للبطالة, المتمثل في النهج الليبرالي الذي تتبعه الدولة في
إدارة الثروة والاقتصاد. وما ينبثق عنه من سياسات الخصخصة, , والتخلي عن القطاع
العام, والاعتماد على المصادر الريعية (النفط والغاز والنشاط العقاري والمصرفي) في
تمويل الميزانية العامة للدولة, وتهميش الصناعة والزراعة كنشاطات إنتاجية, والانفتاح غير المنضبط
للاستثمار الأجنبي, ناهيك عن تسيس الوظيفة العامة واستخدامها في شراء الولاءات
وبناء شبكات مصالح زبونية تخدم الطبقة الحاكمة وتؤمن شروط استمرارها.
وتعد البطالة من أكثر
المشكلات التي تمس الطبقة العاملة ومجموع الكادحين, نظراً لما يترتب عليها من هدر
للمورد البشري, وشعور بالحرمان والمعاناة, واتساع رقعة الفقر المدقع, لاسيما مع
انعدام التأمين الاجتماعي ضد البطالة, الأمر الذي يخلق بيئة خصبة لانتشار العنف
والتطرف والانحراف والجريمة في المجتمع.
وإذا تحدثنا بلغة
الأرقام, فقد وصلت نسبة البطالة عام 2014م إلى (66.17%).[86]
واستمرت في التصاعد
بعد ذلك, ووصلت إلى (90%) مع ظروف الحرب الجارية وفق تقارير صحفية.
إن التغيرات التي
طرأت على ظاهرة البطالة في العقدين الأخيرين, أنها لم تعد تنحصر في العمال غير
المهرة أو غير المتعلمين بل اتسع نطاقها, وباتت تطال العمال المؤهلين, بل حتى حملة
الشهادات العليا!
هذا عن الوجه السافر/
المرئي للبطالة, فماذا عن وجهها اللامرئي؟؟
البطالة ليست مجرد
مشكلة يعاني منها المتعطلون وحسب, بل هي خلل بنيوي وهيكلي في النظام الاقتصادي
ذاته.
يمثل الاقتصاد
الهامشي أو “القطاع غير الرسمي”, صورة غير مرئية للبطالة. وآية ذلك أن
هذا القطاع يضم جيشاً هائلاً من خريجي الجامعات والمعاهد الفنية والمدارس الثانوية
وغير المتعلمين والذين أعيتهم الحيلة عن الحصول على عمل فاضطروا لممارسة بعض المهن
لتأمين لقمة العيش.
ويتوزع هؤلاء في قطاع
البناء والتشييد, وقطاع الخدمات, وفي التجارة, وفي معامل الإنتاج الصغير والورش
الحرفية, ويعملون في المهن التالية: أعمال البناء, والنظافة, والحدادة,
والنجارة, والخياطة, والسمكرة وإصلاح السيارات, وصيانة المعدات, والسباكة,
والكهرباء, ويعملون نادلين في الفنادق والمطاعم والمتنزهات, وفي مجال التجارة:
محاسبين وموزعين وباعة, وفي مجال النقل: سائقو مركبات نقل البضائع, وسائقو مركبات
الأجرة, وحمالين, وفي مجال الزراعة: عمال باليومية, وفي مجال الاصطياد: صيادون.. إلخ. وقسم آخر يعمل كـ باعة جائلين.
يعمل عمال القطاع غير
الرسمي في ظل ظروف وشروط عمل قاسية, يمكن إيضاحها بالصورة الآتية:
لا توجد جهة تدير هذا
القطاع, لا الدولة ولا القطاع الخاص. لذا لا توجد قوانين ولا لوائح تنظم علاقة
العمل بين العمال وبين صاحب العمل.
لا توجد عقود عمل
مكتوبة بين العامل وصاحب العمل إلا فيما ندر, ويتم الاكتفاء باتفاق شفوي حول
الأجرة بين العامل وصاحب العمل.
لا يتمتع العامل بأي
حماية قانونية ولا بتأمين اجتماعي ولا بتأمين صحي ولا يحصل على التعويض المادي
العادل في حال إصابته أثناء العمل.
في حال وقعت خلافات
بين العامل وصاحب العمل, يتعرض العامل للطرد والفصل التعسفي من العمل, وأحياناً
يحرم من أجوره اليومية أو الشهرية المتفق عليها (شفوياً في الغالب) مع رب العمل!
غياب أدنى شروط
السلامة المهنية والصحية والجسدية.
يمارس عمال القطاع
غير الرسمي أعمالاً شاقة ولساعات طويلة تتراوح ما بين (9 – 13)ساعة يومياً, يكدون
طوال ساعات النهار وقِطعٍ من الليل, ولا يحظون بأوقات فراغ ولا أوقات راحة سوى
النزر اليسير.
لا يحظون بالإجازات
الرسمية (عدا يوم الجمعة) ولا بإجازات مرضية كما يحظى بها عمال القطاع الحكومي أو
القطاع الخاص. بل الأنكى من ذلك يحرمون من إجازة يومهم العالمي 1 مايو/ أيار الذي
يعد مناسبة عمالية عالمية وإجازة لكل العمال في الأرض قاطبة!
لا يحصلون على خدمات
المعاش التقاعدي بعد بلوغهم سن التقاعد.
يعيش غالبيتهم في
مساكن رديئة التهوية, في بدرومات أو محلات ضيقة يتكدسون فيها مثل تكدس أعواد في
علبة ثقاب! تفتقر لأبسط مقومات الحياة الإنسانية. ليس ذلك وحسب, بل قسم منهم
ينامون في أماكن العمل في الورش بجوار الآلات المعدنية والأتربة والقاذورات,
ويتعرضون طوال الوقت للأدخنة العادمة ولروائح المواد الدهنية والطلاء, التي تسبب
أمراض خطيرة مثل: السرطان والفشل الكلوي وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الجهاز
الهضمي.
المحظوظون منهم
يعيشون مع أسرهم في مساكن صغيرة لا تتعدى غرفتين ضيقتين في أحياء فقيرة ومكتظة
بالسكان ذات بيئة صحية وخدمية سيئة للغاية, تفتقر للصرف الصحي ولا تتوفر فيها
المياه النقية.
يجبرون على العمل في
ظل هذه الظروف القاسية بهدف تأمين لقمة العيش لأسرهم (غالبيتها من الأسر الممتدة!)
التي تتصف بارتفاع معدلات الخصوبة وارتفاع معدلات الإعالة بين أفرادها.
أجورهم في تدهور
مستمر, ويعيشون في حالة كفاف, ويجدون صعوبة كبيرة في تأمين الاحتياجات الأساسية
للمعيشة, وتعليم أطفالهم, وغالباً ما يضطرون إلى إلحاق أطفالهم بالعمل في سن مبكرة
ليساهموا في تأمين دخل إضافي للأسرة حتى تتمكن من مواجهة متطلبات العيش.
مشتتون, وغير منظمين,
ويجهلون حقوقهم, ولا توجد نقابات عمالية تهتم بقضاياهم.
رغم أن نسبة لا
يستهان بها من هؤلاء العمال يعملون لحسابهم الخاص, لكنهم أيضاً يمثلون وجه آخر
للبطالة, فالكثير من العمال العاطلين من حاملي الشهادات وخلافهم من الأميين والذين
لم يجدوا عملاً يضطروا إلى اقتراض قروض ميسرة لإنشاء مشاريع صغيرة وأصغر, كفتح محل
تجاري صغير أو شراء سيارة أجرة أو دراجة نارية أو عمل كشك أو بسطة لبيع مواد
غذائية وأدوات استهلاكية لتأمين لقمة العيش.
الفقر:
يعرّف البنك الدولي
الفقر بأنه: “عجز الفرد عن تحقيق الحد الأدنى من المستوى المعيشي“.
يختزل هذا التعريف
الفقر في بعد واحد وهو الجانب المعيشي المباشر, ويغفل عن الحاجات الإنسانية
المتصلة بالتعليم والصحة والخدمات العامة والرعاية الاجتماعية وصولاً إلى المشاركة
السياسية والحاجات المعنوية.
لقد تجاوزت نسبة
الفقر في اليمن في عام 2009م حاجز الـ (60%)[87]واستمرت في خط تصاعدي
حتى وصلت اليوم إلى (90%) وفقاً لتقارير صحفية.
عادةً, تعتمد
الاحصائيات في قياسها لنسبة الفقر وفقاً لمؤشر خط الفقر الدولي, أي نسبة السكان
ممن يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.
هذا المقياس مضلل,
لأنه يعتمد على نسبة الفقراء من إجمالي عدد السكان, بينما لا يتم قياس معدل الثراء.
إن قياس معدل الثراء
في مقابل قياس معدل الفقر سيعطينا صورة واضحة عن معدل التفاوت الاجتماعي.
يشير معهد تشاتام
هاوس[88] إلى أن أقلية لا تتجاوز (8%) من السكان تسيطر على (90%) من الثروة
الوطنية.
وثمة مؤشرات تدل على
تفاقم التفاوت الاجتماعي في اليمن, إذ تعيش أقلية عددية في بحبوحة من العيش والبذخ
وشتى مظاهر الاستهلاك الترفي وتمتلك العقارات والشركات والمصارف والأرصدة البنكية
في الخارج, في مقابل أكثرية تعاني من تدهور القدرة الشرائية وسوء التغذية وتعيش في
أحياء عشوائية مكتظة بالسكان وتفتقر إلى خدمات النظافة والصرف الصحي والمياه
النظيفة.
التدهور المستمر
للأجور:
على الرغم من أننا
نسمع بين الفينة والأخرى عن قرارات تصدرها الحكومة تقضي بزيادة الأجور, إلا أن هذه
الزيادة تظل زيادة اسمية أكثر منها حقيقية, فالملاحظ أن الأجور الحقيقية في انخفاض مستمر منذ عقدين ونصف على
الأقل.
ولتوضيح ذلك لابد من
التمييز بين الأجر الاسمي, والأجر الفعلي, فالأجر الاسمي هو مقدار ما يحصل عليه
العامل من مبالغ نقدية (أجرة) مقابل ما يؤديه من أعمال, في حين يعبر الأجر الفعلي عن القوة الشرائية التي يحصل عليها العامل
بهذا الأجر, أي مقدار السلع والخدمات التي يستطيع شرائها من أجره النقدي لإشباع
حاجاته.
يتأثر الأجر الاسمي
بمجرد حدوث تضخم وارتفاع الأسعار حيث تنخفض قيمته الحقيقية وبالتالي تنخفض القدرة
الشرائية.
لقد أدت سياسات
الاصلاح الاقتصادي واعتماد نهج الخصخصة, ورفع الدعم عن السلع الغذائية إلى تدهور
متسارع في القيمة الفعلية لأجور العمال, الأمر الذي أدى إلى تقلص النفقات المادية
وانعكاس ذلك على تزايد سوء الأحوال المعيشية لهم ولأسرهم.
إن هيكل الأجور في
اليمن مجحف وبشكل صارخ, فقد أبان حجم توزيع الأجور عن درجة عالية من انعدام
المساواة, فنسبة (23.8%) من إجمالي العمال يكسبون أقل من ثلثي متوسط الدخل الشهري
والمحتسب (35.000 ريال = 70 دولاراً حالياً!) [89] وهو أجر هزيل لا يفي بالمتطلبات الأساسية للعيش!
في حين, توجد
امتيازات أو ما يعرف ببنود الأجور غير الثابتة كالبدلات والمكافآت والحوافز
وغيرها, التي تمنح للمشرفين والمدراء والمسؤولين الكبار وبأرقام عالية, بينما لا
يحصل العمال والموظفون الصغار إلا على الفتات.
الهجرة:
تمثل الهجرة بنوعيها:
الداخلية والخارجية الوجه اللامرئي الآخر للبطالة. فالهجرة خيار اضطراري للمعطلين الذين فقدوا الأمل في الحصول على فرص
عمل في موطنهم, فيضطرون إما إلى الهجرة داخل الوطن, أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن
فرص عمل تؤمن لهم ولأسرهم لقمة العيش.
الهجرة الداخلية:
تنشأ بدرجة رئيسية عن
هجرة العمال الريفيين إلى المدن, بسبب تدهور الزراعة, ومحدودية فرص العمل في الريف, وافتقاره (أي الريف) إلى المقومات
الأساسية للعيش مثل الغذاء والمياه والتعليم والصحة والكهرباء والطرق.
واتخذت هجرة العمال
الريفيين إلى المراكز الحضرية بما يشبه موجات نزوح قسرية, أثرت سلباً على البنية
الحضرية وخلقت مظاهر عديدة من التشوهات: نمو المناطق العشوائية وأحياء الصفيح في
أطراف المدن, وتتسم هذه المناطق بافتقارها للتخطيط العمراني والحضري, والاكتظاظ
السكاني مما يسبب ضغطاً على الخدمات, وتدهور مستوى معيشة القاطنين فيها, وارتفاع معدلات الجريمة والانحراف.
ناهيك عن ضعف
الاندماج الاجتماعي للمهاجرين الريفيين وتمسكهم بالروابط القروية والأسرية, فقد
لوحظ أن توطن المهاجرين الريفيين في المراكز الحضرية يتخذ طابعاً مناطقياً, فأبناء
قرية ما يتجمعون في منطقة أو منطقتين في المدينة التي يهاجروا إليها, ويتحوصلون
حول أنفسهم, ويظلون متمسكين بالروابط السابقة وبالعادات والتقاليد الريفية
القديمة, ويقاومون عملية الانصهار والاندماج في المجتمع الجديد وفي الفضاء الايكولوجي
للمدينة التي يفدون إليها.
الهجرة الخارجية:
عجز العمال عن الحصول
على فرص عمل لائقة داخل وطنهم تدفعهم إلى التفكير في الهجرة إلى خارج البلاد, وعلى
وجه الخصوص دول الخليج, للبحث عن ظروف عمل أفضل وأجور أعلى.
تتخذ حركة الهجرة
الخارجية شكلين:
الهجرة الغير الشرعية:
تشتهر في اليمن باسم
“التهريب” وتشكل النسبة الأكبر في حركة الهجرة إلى دول الخليج, حيث
يجازف الشباب المعطَّل عبور الحدود اليمنية السعودية مع ما تحمله هذه المجازفة من
مخاطر على حياتهم. فمصير الكثيرين ينتهي إلى الموت برصاص حراس الحدود, ومن يحالفهم
الحظ ويتمكنون من الدخول إلى السعودية, غالباً ما يظلون يعملون في خفية من السلطات السعودية, ويتركز هؤلاء في
المناطق والمدن الجنوبية السعودية, لتبدأ معها فصول درامية هروباً من ملاحقات
السلطات الأمنية السعودية, ولكن غالباً ما يقعون في قبضتها, ويتعرضون
للمعاملة المهينة ومن ثمّ يتم ترحيلهم.
الهجرة الشرعية:
تشير الاحصائيات إلى
أن نسبة العمال المهاجرين الشرعيين تفوق (20%) من إجمالي القوى العاملة, وتتركز
الغالبية العظمى في دول الخليج وبشكل أكثر تحديداً في المملكة العربية السعودية.
يُسمح الدخول للعمال
اليمنيين إلى السعودية عبر ما يسمى “الفيزا” أو “تصريح
إقامة”, وعلى الرغم من ذلك يُفرض عليهم نظام الكفيل, ويُحرمون من حقهم في
التملّك, كما يعانون من قيود إدارية وإهدار لحقوقهم, وغياب قانون ينظّم علاقتهم
بالكفلاء وبأرباب العمل, وفرض رسوم وضرائب باهظة, والتعرّض للمعاملة المهينة من قبل الكفلاء.
ويظل مصير العمالة
المهاجرة في الخليج مرهوناً بتطورات الوضع السياسي, وتحسن أو تأزم العلاقة بين
الحكومة اليمنية والحكومات الخليجية, ففي مستهل تسعينات القرن المنصرم وأثناء حرب
الخليج الثانية, وعلى خلفية موقف الحكومة اليمنية من الحرب, أقدمت دول الخليج على
ترحيل ما يزيد عن مليون عامل يمني, وقد أحدثت عودة هذا الكم الهائل من العمال أزمة
اقتصادية واجتماعية حادة.
أما بالنسبة لوضع
العمال المهاجرين إلى دول في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا وجنوب شرق أفريقيا
فهو أفضل نسبياً عن غيرهم.
تعتبر العمالة
المهاجرة جزءاً لا يتجزأ من الطبقة العاملة الوطنية؛ لسبب بسيط أن جزءاً كبيراً من
دخولها يتم تحويلها إلى الأسر اليمنية في داخل الوطن ويتم إنفاقها في شراء المواد
الغذائية والاستهلاكية وبالتالي فهي تحتسب ضمن الدخل المحلي الإجمالي.
وعلى كل حال تمثل
الهجرة الخارجية إحدى الاختلالات البنيوية في الاقتصاد التابع, وهي إدانة للنهج
النيوليبرالي الفيروسي وللسياسات الرسمية التي ألغت حق المواطن في الحصول على فرصة
عمل في بلده, فيضطر تحت ضغط المعيشة لمغادرة وطنه ومفارقه أهله وأطفاله, ومكابدة
معاناة الغربة من أجل تأمين حياة كريمة لأسرته.
الاستثمار الأجنبي
والعمالة الأجنبية:
تدأب الطبقة المسيطرة
وشرائحها الطفيلية والكمبرادورية على أسطرة الاستثمار الأجنبي, وتقدمه في صورة
المنقذ من الأزمات الاقتصادية, وبناءً على ذلك تسعى إلى تهيئة المجال الوطني أمام
الاحتكارات الأجنبية وإطلاق العنان لها.
وفي الوقت الذي يُمنح
الاستثمار الأجنبي حرية شبه مطلقة, ويُعفى من الضرائب, ويحظى بامتيازات وتسهيلات
كثيرة, يُحرَم الاستثمار المحلي من كل ذلك!
وتفسير هذه المفارقة
ينطوي على بعدين:
الأول: طبيعة وعمق
المصالح المشتركة التي تجمع الاحتكارات الأجنبية بالشريحة الطفيلية اللصة التي لا
تتورع عن خيانة شعبها ووطنها, وتبرم صفقات مشبوهة مع الاحتكارات الأجنبية.
والثاني: عقدة النقص
التي تتملك النخبة الحاكمة يفضي بها إلى المراهنة على الاستثمار الأجنبي بشكل
مبالغ فيه, في مقابل تبخيس قيمة الذات والتسليم بعجزها عن تحمّل أعباء النهوض
المطلوب.
شكّل الاستثمار
الأجنبي إحدى ميكانيزمات سيطرة الرأسمال الاحتكاري المعولم على اقتصاديات البلدان
النامية.
وتسبب ولا يزال في
خلق نتائج مدمرة بالاقتصاد الوطني وبالطبقة العاملة بسبب تناقض أهدافه وأجندته
تناقضاً صارخاً مع متطلبات التنمية الوطنية. فالاستثمار الأجنبي يفضّل الاستثمار في قطاعات هامشية: كالخدمات
والسياحة والعقارات والمضاربات المصرفية, أو في مجالات استخراج النفط والغاز, ويعزف عن الاستثمار في قطاعات
الاقتصاد الحقيقي: في الصناعة والزراعة والموارد البشرية.
ومن بين النتائج السلبية
المترتبة عن الاستثمار الأجنبي غير المنضبط:
تكريس وتعميق حالة
التبعية الاقتصادية وإغراق السوق الوطنية بالسلع الاستهلاكية المستوردة.
استنزاف الموارد
والثروات والعملات الصعبة وتسربها إلى الخارج.
التسبب بإغلاق الكثير
من المؤسسات العامة وتسريح الألوف من العمال وارتفاع معدل البطالة.
ارتفاع معدل التضخم
وتدهور معيشة السكان.
نشوء نمط من الفساد
الكبير, ويتمثل في قيام البيروقراطية الحاكمة بإبرام صفقات مشبوهة مع ممثلي
الشركات الأجنبية تمس المصالح الوطنية, مقابل الحصول على نسبة من الفوائد أو
الدخول كمساهم في هذه الاستثمارات. وللتدليل سنشير إلى مثالين صارخين:
الأول: الصفقة التي
أبرمتها الحكومة اليمنية مع شركة “توتال” الفرنسية عام 2005م, التي بموجبها بِيْعَ الغاز اليمني
بدولار واحد لكل مليون وحدة حرارية ، فيما كانت أسعار السوق آنذاك تتراوح ما بين
11 و12 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية.
والمثال الثاني:
إبرام الحكومة اليمنية صفقة مع شركة موانئ دبي العالمية في نوفمبر عام 2008م بغرض
تأجير ميناء عدن وإعادة تأهيله. وقد شابت هذه الصفقة الكثير من الثغرات القانونية
وأثارت ضجة واسعة في مختلف الأوساط حينها.
ناهيك عما سبق, يلحق
النشاط الاحتكاري الأجنبي أضراراً بالعمالة الوطنية, فهي ضحيته الأولى, ويمكن
تبيان ذلك من زاويتين:
الأولى: يتم
تشغيل العمالة الوطنية في الشركات الأجنبية ــ وعلى وجه خاص العمالة غير الماهرة
ــ بأجور زهيدة, وفي ظروف عمل قاسية, وبدون حماية قانونية.
الثانية: يتم استقدام
وتشغيل العمالة الأجنبية وبأجور منخفضة وبساعات عمل طويلة وعلى حساب العمالة
الوطنية.
إن الشركات
الاحتكارية فوق القومية قوة دولية, وتستغل العمالة الوطنية وغير الوطنية, على
السواء. وانطلاقاً من ذلك تنطرح على جدول أعمال الطبقة العاملة ومجموع الحركة
العمالية اليمنية إقامة الصلات الوثيقة مع عمال وشغيلة العالم, لأن المصير واحد
ورب العمل المستغل واحد.
ظاهرة
تشغيل الأطفال.. جريمة بحق الطفولة:
يزخر عالم العمل
الرأسمالي بالكثير من المفارقات المدهشة والعسيرة على الفهم ومن تلك المفارقات:
اتساع دائرة البطالة وارتفاع نسب المتعطلين, في الوقت الذي تتسع فيه ظاهرة تشغيل
الأطفال!
تشكل فئة الأطفال,
وهي الفئة العمرية ما دون (15) عاماً ما يقارب نسبة (46%) من الإجمالي العام
للسكان البالغ تعدادهم (28) مليوناً. وتتميز هذه الفئة بخصائص وسمات اجتماعية
وسيكولوجية خاصة تفرض على الأسرة والمجتمع إيلائها اهتماماً خاصاً وتلبية حاجاتها
الصحية والنفسية والفكرية والاجتماعية.
وتعد ظاهرة تشغيل
الأطفال من أخطر المشكلات المرتبطة بالطفولة في اليمن, وتشير الاحصائيات إلى أن
عدد الأطفال العاملين في اليمن يصل إلى مليون عامل.
وتشغيل الأطفال مشكلة
مزمنة في اليمن, وتقف ورائها عوامل وأسباب مختلفة, أبرزها:
الفقر وتردي الأحوال
المعيشية للأسر اليمنية, مما يؤدي بتلك الأسر إلى دفع أطفالها إلى سوق العمل لكسب
العيش.
تراجع الدولة عن
تطبيق مبدأ مجانية التعليم وإلزاميته والذي نص عليه دستور دولة الوحدة في 1990م
ودستور(ج.ي.د.ش) قبل ذلك.
سوء الوضع التعليمي
في مدارس التعليم العام, إذ أمست المدرسة بيئة طاردة للطفل إما بسبب سوء المعاملة
أو بسبب افتقار المقومات المدرسية الجاذبة للطفل أو بسبب زيادة تكلفة التعليم
ووطأتها على الأسر الفقيرة التي لديها عدد كبير من الأطفال.
تخلي الدولة عن
التزاماتها الاجتماعية في مجال الرعاية الاجتماعية للمجتمع بصفة عامة وللأطفال على
وجه الخصوص.
التفكك الأسري وشعور
الأطفال بالحرمان من الرعاية وتلبية احتياجاتهم, يدفع بالكثير منهم إلى ممارسة
أعمال لإشباع حاجاتهم, أو للهروب من الوضع الأسري المفكك إلى بيئة أخرى.
المعايير الاجتماعية
عن الرجولة, إذ يسود تصور راسخ لدى الكثير من الآباء والأمهات أن من الواجب عليهم
دفع الطفل إلى العمل “كي يصبح رجلاً” (يقع رجال وفق اللهجة الدارجة),
وقادر على تحمُّل المسئولية في المستقبل, وحفاظاً عليه من الضياع والانحراف,
وغيرها من التصورات الخاطئة.
فقدان الأسرة
لمعيلها, بسبب الوفاة أو لأي سبب آخر, يدفع الطفل ليحل محل المعيل المفقود.
تفضيل بعض أصحاب
العمل عمالة الأطفال, وذلك لرخصها وعدم وجود التزامات قانونية يلتزمون بها.
عدم جدية السلطة في
تطبيق المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحماية الطفولة, فعلى
الرغم من أن الدستور والقوانين الخاصة بالعمل وكذلك اتفاقية العمل الدولية رقم
(138) لسنة 1973م بشأن الحد الأدنى لسن الاستخدام والاتفاقية رقم (182) لسنة 1999م
بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال, واللتان صادقت عليهما اليمن, تحظر تشغيل
الأطفال, إلا أن ظاهرة تشغيل الأطفال تتوسع يوماً عن يوم.
مجالات وظروف عمل
الأطفال:
يستحوذ القطاع
الزراعي على النصيب الأكبر في تشغيل الأطفال, إذ يتركز (93%) من الأطفال في هذا
القطاع. ويليه قطاع تجارة الجملة والتجزئة وإصلاح المركبات والسلع وأعمال
الصيانة ويعمل فيه (4.8%). ويزاول الأطفال خمسة أنواع من المهن التي لا تتطلب
مهارات عالية. وهناك علاقة مباشرة بين المهن التي يزاولها الأطفال, ومهن أرباب
أسرهم ما عدا الأطفال العاملين في مهن عمال التشغيل والتجميع.[90]
ويتعرض الأطفال
العاملون لشتى أنواع الاستغلال والمخاطر. إذ يتم تشغيلهم في أعمال شاقة وفي ظل
ظروف وشروط عمل بالغة السوء, وبدون عقود عمل مكتوبة, ولساعات طويلة تصل إلى (57)
ساعة في الأسبوع وبأجور بخسة, وفي ظل بيئة عمل سيئة لا تتوفر فيها شروط السلامة
المهنية. فضلا عن تعرض هؤلاء الأطفال للتحرش الجنسي والعنف البدني إما من قبل
أصحاب العمل أو من قبل العمال البالغين الذين يعملون في نفس نطاق العمل.[91]
ويتولد عن ظاهرة
تشغيل الأطفال العديد الآثار السلبية على الطفل وعلى الأسرة وعلى المجتمع ككل:
فاحتمالية إصابة الطفل العامل بالأمراض والإصابات الجسمية والعاهات تبقى كبيرة,
فضلاً عما تولده ظروف العمل من آثار نفسية وعصبية سلبية في الطفل, وعلى مستوى
تكوينه الجسماني. وتفضي إلى التسرب من التعليم وارتفاع نسب الأمية والجهل
والانحراف في المجتمع.
تظل ظاهرة تشغيل
الأطفال إحدى التحديات الكبيرة التي تواجه الحركة العمالية, وإدانة أخلاقية لعالم
العمل الرأسمالي المتوحش.
المرأة العاملة:
معاناة مريرة
يكمن أكبر القيود
الاجتماعية المكبلة للمرأة في الفكرة القائلة بأن البشر غيّريّون بالفطرة, وأن
المرأة متكيّفة بيولوجيًا مع دور رعاية وتربية الأطفال في الأسرة.[92]
هذه الفكرة التي تربط
وضع المرأة في المجتمع كمواطنةٍ من الدرجة الثانية، عمومًا، بدورها داخل الأسرة
النووية (Nuclear Family).
وإذا كانت هذه الفكرة
تمتد جذورها إلى مرحلة تاريخية موغلة في القدم, وهي مرحلة التحول من المجتمع
الأمومي إلى المجتمع الذكوري, أو وفقاً لفريدريك انجلز “الهزيمة العالمية التاريخية للجنس الأنثوي”[93], فلا تزال هذه
الفكرة راسخة في الوعي الاجتماعي اليمني, فـ”المرأة ما لها إلا بيتها والمطبخ“!
تفيد الاحصائيات بأن
النساء يشكّلن (49.2%) من إجمالي السكان النشيطين اقتصادياً, ومع ذلك فإن نسبة
مشاركة النساء في العمل لا تتعدى (6%) [94], الأمر الذي يعني أن (94%) عن النساء اليمنيات ما يزلن خارج إطار العمل. رغم أن
ما يقارب (70%) منهن يعملن بدون أجر لأسرهن كربات بيوت و/ أو في الملكيات الزراعية
العائلية وفي الأراضي المستأجرة, ولا تزال النظرة القاصرة تجاه خروج المرأة للعمل
تحكمها عوامل ومعايير اجتماعية وثقافية ودينية كثيرة وتحتاج إلى دراسة منفصلة.
ما يعنينا هنا هو
تناول أوضاع النساء العاملات, وما يواجهن من مصاعب وتحديات جمة, تبدأ بالنسق
الأسري وتنتهي إلى طبيعة نظام تقسيم العمل السائد.
فعلى المستوى الأسري
تعترض المرأة العاملة المصاعب والمشكلات التالية:
تتحمل مسؤوليات
مضاعفة, فهي مطالبة بأن تكون أم وزوجة وربة منزل, وفي موقع العمل مطالبة بأن تؤدي
عملها وتنفذ كل ما يوكل إليها من مهام.
وتشير الدراسات
السيكولوجية إلى أن المرأة العاملة تعاني من القلق والإحساس بالذنب تجاه أطفالها,
وهذا ما يدفعها للتعويض عن غيابها بأن تميل للين أحياناً حتى تكون أماً صالحة,
ولكن في ذات الوقت فإن الأسر التي تعمل فيها الأم, غالباً ما تكون أكثر انتظاماً
وحسماً في أمور الحياة والتربية, وتشجع الأطفال على الاستقلال في أمورهم البيتية
الخاصة. إلاَ أنه لوحظ في بعض الأسر أن عمل المرأة يؤثر سلباً على علاقتها بزوجها,
وطبعاً هذا ناجم عن الفهم الخاطئ من الزوج لعمل ونفسية المرأة, وعدم مساعدتها.[95]
أدى انخراط المرأة في
العمل إلى تغيُّر بعض الأدوار والوظائف في نسق الأسرة لكلٍ من الرجل والمرأة,
فحظيت المرأة العاملة بفعل استقلالها الاقتصادي مكانة اجتماعية وسلطة تخولها اتخاذ
القرار في الأسرة, الأمر الذي يعني تهديد السلطة المطلقة للرجل. وإذا كان الرجل
تقليدياً ويحمل نظرة دونية عن المرأة, فسيؤدي ذلك إلى إحدى نتيجتين: إما إجبار
المرأة على ترك عملها, أو إنهاء العلاقة الزوجية بالطلاق.
أما على مستوى نظام
تقسيم العمل السائد, الذي يتخذ طابعاً ذكورياً, فيقوم على أساس حصر عمل المرأة في
مجالات خدمية معينة, مثل ممارسة مهنة التدريس في المدارس, والأعمال الإدارية
والمكتبية, ومهنة التمريض. وبدرجة أقل في مهنة الطبابة وفي مهنة التدريس بالجامعات
والمحاماة والإعلام والتجارة, إلخ.
وفي مجالات العمل
الانتاجي, تساهم المرأة في الريف بنسبة معتبرة للعمل في الزراعة, غير أن هذه
المساهمة لا تعدو أن تكون عمل في ملكيات وحيازات زراعية عائلية صغيرة, بمعنى
آخر أن نسبة النساء اللائي يعملن بأجر في مجال الزراعة لا تكاد تذكر.
ويضم قطاع الصناعة
الآلاف من النساء العاملات, موزعات على مختلف مجالات التصنيع, في المنشآت الصغيرة
والمتوسطة والكبيرة. وبحسب دراسة لـ د. فوزية حسونة, فإن (68%) من النساء اللائي يعملن في المصانع أميات, في مقابل
(8%) يجدن القراءة والكتابة, ونسبة (1%) فقط مؤهلات, ونسبة (31%) منهن
مطلقات وأرامل, وقد توصلت الباحثة إلى أن غالبية أولائي النسوة قد اضطررن للعمل في
المصانع بحثاً عن لقمة العيش رغم انخفاض أجورهن إذ يعشن على أقل من دولار أمريكي
واحد في اليوم, وذلك لعدم توفر فرصة عمل أخرى, فالكثيرات منهن معيلات لأسرهن, إذ تشكل النساء اللواتي يصرفن أجورهن
للإنفاق على الأسرة نسبة (52%).
وتعاني النساء
العاملات في المصانع من عزلة وتهميش, وحصار اجتماعي وأسري, فنسبة (56%) منهن لا
يخرجن من المنزل إلا بمحرم, والغالبية العظمى منهن لم يسافرن داخل اليمن طيلة
حياتهن. كما يعانين من ضغوط العمل في المصنع والعمل في البيت وهذا يحول بينهن وبين
أوقات الفراغ.[96]
وإذا كان وضع المرأة
العاملة في قطاع الصناعة يتسم بهذا القدر من البؤس, فماذا عن وضع المرأة العاملة
في القطاعات الأخرى؟؟
تعاني النساء
العاملات في القطاعات الخدمية من “تمييز مركب” إن جاز التعبير, فهنّ
يعانين من تمييز على مستوى الأجور والمكآفات, إذ يقبضن أجور أقل من أجور الذكور
وذلك بسبب أن الغالبية الكاسحة من النساء العاملات يحتللن مواقع متدنية في السلم
الوظيفي والمهني, حيث “تدفع الأجور على أساس المنصب وليس على أساس
الجنس”.[97]
ويعانين من نظرة
دونية من قبل أرباب العمل أو من المدراء التنفيذين والمشرفين في مواقع العمل,
ويجري تهميشهنّ وحرمانهنّ من حقهنّ في الترقي والحصول على فرص التأهيل والتدريب
واكتساب الخبرات وبالتالي حرمانهنّ من إمكانية تحسين أجورهنّ.
هذا فضلاً عن تعرضهنّ
لمشكلات “مسكوت عنها”, مثل التحرش الجنسي والابتزاز والاستغلال العاطفي.
وفي المجمل يمكن
القول بأن خروج المرأة إلى العمل, يمثل خطوة تقدمية هامة وانتصاراً كبيراً للحركة
النسوية, ويضيف إلى الحركة العمالية رافداً اجتماعياً وإنتاجياً لا غنى عنه,
فالمرأة تشكّل نصف المجتمع, وتؤثر على النصف الآخر. وارتفاع نسبة مشاركة المرأة في
العمل يزيد من إمكانيات الانتاجية الاقتصادية والتنموية للمجتمع, ويخفض من نسب
الإعالة والفقر والأمية والتخلف, ويساهم في التطور الاجتماعي والثقافي بوجه عام.
وصارت الحاجة ملحة
لسنّ تشريعات ووضع سياسات تساعد المرأة العاملة على التغلب على المشكلات التي
تعترضها, وتحقيق المساواة والعدالة في التوظيف والأجور والترقي أسوة بزميلها
الرجل, ونشر الوعي المجتمعي والأسري بأهمية عمل المرأة, وضرورة التعاون بين أفراد
الأسرة لمواجهة الالتزامات الأسرية.
تشريعات
العمل.. قصور النص, واختلال الممارسة:
تتكون المنظومة
التشريعية المتعلقة بالعمل وبالحقوق العمالية في اليمن من مصدرين:
المصدر الأول:
التشريع الوطني: ويشمل:
الدستور:
الذي لا يزال قائماً
منذ آخر تعديل أجري عليه في العام 2001م. وقد تضمن عدداً من المواد المتعلقة
بالعمال وتنظيم علاقة العمل بين أطرافه, ومن تلك المواد:
المادة (24) وتنص على
أن تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً
وثقافياً.
المادة (29): “العمل حق وشرف وضرورة لتطور المجتمع, ولكل مواطن الحق في ممارسة العمل
الذي يختاره لنفسه في حدود القانون, ولا يجوز فرض أي عمل جبراً على المواطنين إلا
بمقتضى قانون ولأداء خدمة عامة وبمقابل أجر عاد, وينظم القانون العمل النقابي
والمهني والعلاقة بين العمال وأصحاب العمل.”
المادة (58): “للمواطنين في عموم الجمهورية ــ بما لا يتعارض مع نصوص الدستور ــ
الحق في تنظيم أنفسهم سياسياً ومهنياً ونقابياً, والحق في تكوين المنظمات العلمية
والثقافية والاجتماعية والاتحادات الوطنية بما يخدم أهداف الدستور, وتضمن
الدولة هذا الحق.. كما تتخذ جميع الوسائل الضرورية التي تمكن المواطنين من
ممارسته, وتضمن كافة الحريات للمؤسسات والمنظمات السياسية والنقابية والثقافية
والعلمية والاجتماعية.”
الثغرات وأوجه القصور
في المواد الدستورية المذكورة:
في المادة (24):
استخدم لفظ “المواطنين” واستُثنِيَ لفظ “المواطنات”, فقد جاء
النص محمولاً بالطابع الذكوري كانعكاس لذكورية النظام الاجتماعي السائد.
فلفظ “المواطنين”
جمع مذكر سالم, أي هو جمع للذكور حصراً, ولا يشمل الإناث, بخلاف جمع التكسير الذي يشمل الذكور والإناث, ولمّا لم يوجد جمع تكسير
في العربية لـ “المواطن”, كان من الضروري على المشرّع أن يورد لفظ
“المواطنات” إلى جوار لفظ “المواطنين” لتصبح المادة شاملة للذكور
والإناث.
في المادتين (29), تم
الإحالة إلى القانون في العبارة التالية: ” وينظم القانون العمل النقابي
والمهني والعلاقة بين العمال وأصحاب العمل.”
لقد مثلت
“الإحالة إلى القانون” إحدى الآليات التي يتم عبرها إفراغ مضامين
الدستور وتقييد الحريات والحقوق, حيث يستغل المشرّع عمومية النص وانعدام وجود
ضمانات ومحددات في الدستور ويقوم بإصدار قوانين تتضمن قيود وضوابط تحصر الحقوق
وتفرغها من مضامينها ومقاصدها, بل وتتصادم مع نصوص الدستور, ومثال
ذلك: حظر العمل النقابي على العاملين في دواوين الوزارات وفروعها في المحافظات وهو
ما يتعارض مع نص المادة (58).
القوانين: تشمل ثلاثة
قوانين أساسية خاصة بالحقوق العمالية وهي:
قانون العمل: وهو
القانون رقم (5) لسنة 1995م, وتعديلاته بالقانون رقم (25) لسنة 1997م.
قانون الخدمة المدنية
رقم (19) لسنة 1991م, ويتعلق بحقوق وواجبات العمال والموظفين في مختلف أجهزة
الدولة, وفي القطاعين العام والمختلط.
قانون تنظيم النقابات
العمالية رقم (35) لسنة 2002م, وينظم حق تكوين النقابات وفقاً لشروط.
وهناك مآخذ كثيرة على
هذه القوانين, نعرضها فيما يلي:[98]
اختلاف كل قانون من
هذه القوانين في تعريفه للعامل.
فقانون العمل اليمني
يعرّف العامل: بأنه كل شخص يعمل لدى صاحب العمل ويكون تحت إدارته, ولو كان بعيداً
عنه لقاء أجر, ووفق عقد مكتوب, أو غير مكتوب ويشمل ذلك الرجال والنساء والأحداث.
بينما تضمنت المادة
(2) من قانون تنظيم النقابات العمالية, تعريفاً مختلفاً للعامل: كل شخص يعمل
ويتقاضى أجراً معيناً مقابل جهد عضلي, أو ذهني, أو يعمل لحسابه الشخصي.”
ونلاحظ في التعريف
الأخير مدى اتساعه ليشمل كل شخص يعمل.. حتى العامل لحسابه. فلم يأخذ بمفهوم
التبعية القانونية والاقتصادية في علاقات العمل.
إن المنظمات النقابية
في النظام القانوني اليمني تدرج من اللجان النقابية إلى النقابات العامة, وإلى
الفروع, وإلى الاتحاد العام.. وبالتالي لا يسمح في هذا النظام بتعدد النقابات, أو
الاتحادات العامة فلا يجيز القانون تشكل أكثر من اتحاد عام على مستوى اليمن, وهذا
الخطر رغم ما هو عليه من ميزة, وهي توحيد العمل والجهود النقابية وعدم تشتتها, إلا أنه يخالف
المعايير الدولية التي تتيح للعمال حق تعدد النقابات والاتحادات العامة, وقد حصلت
بعض الانقسامات داخل الحركة النقابية في اليمن وارتفعت بعض الأصوات التي تنادي
بتشكيل اتحاد عمال حر.
تصادر الدولة حق
موظفي دواوين الوزارات في تشكيل نقابات عمالية وذلك يتعارض مع ما جاء في دستور
الجمهورية اليمنية الذي كفل حق التنظيم النقابي لكل العمال من موظفين, وغيرهم دون
استثناء, ويتعارض هذا الحظر ــ أيضاً ــ مع المواثيق الدولية الصادرة من منظمة
العمل الدولية, والتي صادقت عليها اليمن, ومنها على سبيل المثال: الاتفاقية الخاصة
بحماية حق التنظيم وإجراءات تحديد الاستخدام في الخدمة العامة والصادرة عام 1978م.
ومن النصوص المخلة
بحرية العمل النقابي, ما ورد في الفقرة (ب) من المادة (7) في قانون تنظيم النقابات
العمالية التي لا تعترف بالتنظيم النقابي إلا بعد إشهارها وتسجليها لدى وزارة
الشئون الاجتماعية والعمل.
المصدر الثاني:
الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها اليمن:
وقعت اليمن وصادقت
على أكثر من (29) اتفاقية متعلقة بحقوق العمال.[99] ناهيك عن التزامها وبموجب نصوص
الدستور بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالحقوق المدنية والسياسية.
ومجمل هذه المواثيق
والمعاهدات قد نصت على جملة من الحقوق العمالية أبرزها:
الحق في الحصول على
عمل, والحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية.
الحق في الحصول على
أجر عادل وبدون تمييز.
الحق في إنشاء
النقابات وحرية الانضمام إليها, وعدم جواز وضع القيود على ممارسة هذا الحق. وضمان
ديمقراطية
الحق في الضمان
الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية.
وحظر العمل الإجباري,
وحظر عمل الأطفال, وحظر التمييز في الاستخدام والمهنة.
تحديد الحد الأدنى
للأجور.
وعلى الرغم من كثرة
هذه الاتفاقيات التي صادقت عليها اليمن, إلا أنها لا تلتزم بها, وثمة اختلالات
وانتهاكات كثيرة يمكن عرضها على النحو الآتي:
الانتهاكات بحق العمال
والحريات النقابية:
تتمثل مظاهر
الانتهاكات الشائعة من قبل أصحاب العمل والدولة ضد العمال والحريات النقابية فيما
يلي:[100]
اشتراط طلب الإذن, أو
إيداع اللوائح والنظم الداخلية, أو التسجيل قبل تكوين النقابات, أو وضع شروط
لاكتساب الشخصية القانونية (الاعتبارية).
اشتراط انتماء القادة
النقابيين إلى نفس المنشآت التي يمثلونها.
تحديد بنيان وتركيب
النقابات واشتراط إقامة منظمة نقابية واحدة في أية منشأة أو مهنة أو صناعة.
فرض لائحة نموذجية أو
نظام أساسي على النقابات سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
تحديد الاجراءات التي
تنظم الانتخابات تفصيلاً, أو تدخل السلطات في إجراء الانتخابات بحضور ممثلين عن
وزارة العمل, أو غيرها.
قصر الأنشطة النقابية
على المسائل المهنية ومنع الأنشطة السياسية.
حظر تنظيم أعمال
الاحتجاج والاضراب للدفاع عن مصالح أعضائها الاقتصادية والاجتماعية وتدعيمها
وغيرها من الانتهاكات التي ترتكبها كثير من الدول منها اليمن.
بالإضافة إلى ما ورد
سلفاً, هناك اختلالات أخرى هي:
اقتصار التشريعات
والقوانين على عمال القطاعات المهيكلة (القطاع العام والقطاع المختلط و القطاع
الخاص) فقط, وعدم شمولها لعمال القطاع الهامشي (عمال القطاع غير المهيكل) والذين
يشكلون نسبة تفوق (70%)!!
عدم شمول قانون
التأمين الصحي والاجتماعي لنحو (90%) من إجمالي عمال اليمن!!
غياب قانون للتأمين
الاجتماعي ضد البطالة.
ثمة حظر غير معلن
للعمل النقابي في القطاع الخاص, إذ يمارس أصحاب العمل أساليب من الإرهاب المعنوي
والفصل التعسفي ضد العمال إذا طالبوا بحقوقهم أو فكروا في تنظيم أنفسهم في نقابات
عمالية, وعلى الرغم من أن الدستور والقانون يكفل لهم الحق في النشاط النقابي, إلا
أن غياب الحماية الكافية للعمال وللنقابيين في القطاع الخاص تجعلهم مكشوفي الظهر
أمام تعسفات أصحاب العمل.
ثمة شكاوي من
النقابيين بخصوص تبعية المحاكم العمالية للغرف التجارية, والتي تستغلها الادارات
الوسطية وتوظفها في ممارسة التعسف ضد العمال.
ضعف الوعي الطبقي:
يشير مصطلح الوعي
الطبقي إلى وعي الطبقة بمصالحها ومواقفها ومكانتها في نظام الانتاج الاجتماعي.
ولكل طبقة اجتماعية
وعيها الخاص بها, ويتحدد الوعي الطبقي للطبقة من خلال عدة محددات: طبيعة العلاقات
الاقتصادية والاجتماعية السائدة, والموقع الطبقي الذي تحتله الطبقة في عملية
الانتاج, والتعليم, ومستوى التطور التكنولوجي, ومستوى المعيشة, ووجود/ غياب التنظيم الاجتماعي للطبقة.
ومن الثابت أن درجة
الوعي الطبقي تختلف من طبقة إلى أخرى, فالوعي الطبقي للطبقة السائدة يتبلور بشكل
أبكر, ذلك لأن هذه الطبقة تسيطر على وسائل الانتاج ومصادر القوة والمعرفة في
المجتمع, ولحرصها على أن تظل مسيطرة, فإنها تلجأ إلى منع الطبقات الأخرى من امتلاك
وعيها بمصالحها الطبقية, عبر التضليل والتزييف الأيديولوجي, وتلعب وسائل الإعلام
ودور العبادة والمؤسسات التعليمية والثقافية دوراً حاسماً في ذلك.
وهذا يعني أن وعي
الطبقة المسودة (الطبقة العاملة وسائر الكادحين) يأتي متأخراً عن وعي الطبقة السائدة
للأسباب المذكورة سلفاً.
إن ضعف وتأخر وعي
الطبقة المسودة, لا يعني غيابها, فالوجود الموضوعي للطبقة سابق على وعيها الطبقي.
وتأسيساً على ذلك يتم التمييز بين حالتين: “الطبقة في ذاتها”,
و”الطبقة لذاتها” كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذه الدراسة.
يتسم الوعي الطبقي
للطبقة العاملة والشغيلة في اليمن بالضعف والتأخر, وتقف عدة عوامل ومسببات وراء
هذا الضعف والتأخر, نوجزها على النحو الآتي:
عوامل موضوعية:
ضعف وهشاشة البنية
الاقتصادية, فالملكيات الانتاجية الكبيرة لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جداً, فيما يشكل
قطاع الإنتاج الصغير وقطاع الخدمات والقطاع الهامشي النسبة العظمى.
تخلف وسائل الانتاج,
وغياب التقنيات والهياكل الحديثة في مختلف القطاعات الانتاجية.
الاقتصاد الريعي
القائم على الاستثمار في الثروات الطبيعية (النفط والغاز), وتهميش القطاعات
الانتاجية, وما ينتج عن ذلك من نشوء قيم جديدة تبخس من قيمة العمل والإنتاج, وتعلي
من شأن الاتكال على الآخر, وتمجد الاستهلاك المظهري والتفاخري.
قيام الطبقة
المافياوية المسيطرة بتشويه حقيقة الصراع وإلباسه لبوس دينية أو طائفية أو مناطقية
أو قبلية, في محاولة منها لوأد أي بذرة صراع طبقي قبل نموها. إن الطبقة المسيطرة
تعتاش على استغلال الطبقة المنتجة, وتذريرها, وتخريب وعيها من خلال ما تملكه من
مال سياسي ووسائل إعلام ومؤسسات تعليمية ودينية وثقافية.
التبعية الاقتصادية,
واعتماد النهج النيوليبرالي وتجريف القطاع العام وتنصل الدولة عن التزاماتها
الاجتماعية, وعلى وجه الخصوص: مجانية التعليم وإلزاميته.
عوامل ذاتية:
انحدار غالبية العمال
من أصول فلاحية أجبرتهم ظروف الريف للهجرة إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل, مما ترك
بصمات واضحة على تدني وعيهم السياسي والطبقي والفكري.
تمسك العمال
المهاجرين بصلاتهم الريفية, والاحتفاظ بالروسب القروية التي تحول دون اندماجهم في
حياة المدينة.
استمرار بعض الرواسب
الاقطاعية القديمة واتخاذها شكلاً حديثاً, مثل التوارث المهني لمهن معينة, إذ تلحظ
أن الأب يورث لابنه المهنة التي يعمل بها, والأخ الأكبر يورث لأخيه الأصغر مهنته,
وابن القرية الذي هاجر في وقت مبكر يرشد أبناء قريته من العاطلين لذات المهنة,
وهكذا… إلخ.
الخلل في التوزيع
الجغرافي للقوى العاملة: تعد عاصمة الدولة أكبر مركز جاذب للعمال, وبعض
المدن الرئيسية كعدن وتعز والحديدة والمكلا ومأرب, أما بقية المدن فلا يتواجد بها
إلا أعداد ضئيلة وذلك بسبب ضعف البنية التحتية ومحدودية الأسواق وغياب الخدمات
وغيرها.
التشتت والتبعثر وعدم
الاستقرار, إذ يتوزع العمال والشغيلة على أربعة قطاعات هي: القطاع العام والجهاز
الحكومي, والقطاع الخاص, والقطاع غير الرسمي, والقطاع الأجنبي.
وهذه القطاعات تتشابك
وتتداخل حيث ينتقل العمال من قطاع لآخر بل ويقومون بوظائف متعددة في أكثر من قطاع
في آن واحد.
ناهيك عن أن قسماً لا
يستهان به من العمال يعملون في أعمال موسمية ومتغيرة وينتقلون من مكان إلى آخر في
البلاد بحثاً عن فرص عمل أفضل, وهذا كله يقف عائقاً أمام انتظامهم واستقرارهم.
تأثير العامل
المناطقي على نوعية المهن ومجالات النشاط الاقتصادي, إذ نلاحظ أن العمال المنحدرين
من محافظة تعز ينتشرون في مختلف محافظات الجمهورية, ويعملون كحرفيين أو موظفين أو
عمال خدميين, في حين نجد العمال المنحدرين من المحافظات الجنوبية نادراً ما يعملون
في مثل تلك المجالات, أما العمال المنحدرين من محافظتي إب وحضرموت فالغالبية
مهاجرين إلى الخارج. وبالنسبة لأبناء مناطق شمال الشمال فإما فلاحين أو يشكلون
جزءاً من جيش الدولة, وذلك بسبب سمات البنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة في
تلك المناطق التي يغلب عليها الطابع العصبوي القبلي والنشاط الزراعي شبه الإقطاعي.
تدني مستوى التحصيل
التعليمي للعمال, فالغالبية (حوالي الثلثين) لم يكملوا التعليم الثانوي وفقاً لمسح
القوى العاملة لعامي 2013/ 2014م.
نقص في التأهيل
والتدريب والمهارات لدى العمال, إذ تشكل العمالة غير الماهرة نسبة تفوق (40%).
ضعف التنظيم النقابي
وسيطرة القيادات الانتهازية عليه, مما يؤدي إلى تجريف الوعي الطبقي للعمال.
اغتراب الحزب الطليعي
(والمقصود هنا الحزب الاشتراكي اليمني) عن العمال وعن قضاياهم.
من المعلوم أن الوعي
الطبقي للعمال يأتي من الخارج, من الحزب الطليعي, إذ لا يمكن لعمال يعيشون في
أوضاع مزرية أن يمتلكوا وعياً بمصالحهم الطبقية من تلقاء أنفسهم.
لكن الحزب الطليعي
هذا يعيش أزمة, وتكمن أزمته في غياب الرؤيا الواضحة تجاه الطبقة العاملة وجماهير
الكادحين.
لقد انجرف الحزب وراء
الدعاوي الليبرالية المشككة بجدوى العمل في أوساط العمال والكادحين, وكان انهيار
الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي قد ساهم في ترسيخ هذه الدعاوي حتى
ارتفعت إلى مصاف اليقينيات الراسخة التي لا تقبل التمحيص أو إعادة النظر فيها.
إن الحاجة باتت ملحة
ليقوم حزبنا الاشتراكي بإجراء مراجعة فكرية نقدية تستند إلى دراسات علمية لواقع
تحولات البنى الاجتماعية والاقتصادية, ومن ثمّ تحديد طبيعة المهمات والآليات
الملائمة لتعميق الارتباط بقضايا العمال وسائر الكادحين.
الهوامش والإحالات:
[82] عيبان السامعي, 11 فبراير 2011م في دلالة الحدث ومآله, دراسة منشورة, 11
فبراير 2017م.
[83] تم الاعتماد في جمع معظم المعلومات الواردة في هذا الجزء على المصادر
التالية:
فاروق الكمالي, الحرب تزيد فقراء اليمن إلى 80% من السكان(تقرير) , العربي الجديد,
نجيب العدوفي, عُمال اليمن .. الموت المجاني من نصيبهم (تقرير), العربي الجديد,
مركز الاعلام الاقتصادي, تقارير صحفية.
عمال اليمن لا عيد لهم (تقرير), المصدر أونلاين, 1 مايو 2018م.
[85] مسح القوى العاملة في
الجمهورية اليمنية 2013 – 2014م, الجهاز المركزي للإحصاء بالتعاون مع منظمة العمل
الدولية, 2015م.
[86] ينظر: نفسه.
[87] راجع: تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2009م.
[88] راجع: بيتر سلزبري,
اقتصاد اليمن: النفط والواردات والنخب, معهد تشاتام هاوس, ورقة بحثية, أكتوبر
2011م.
[89] راجع: مسح القوى
العاملة 2013/ 2014م.
[90] د. خالد راجح شيخ, عمالة الأطفال في اليمن, مجلة حوليات العفيف
الثقافية, العدد (3), 2003م, مؤسسة العفيف الثقافية, صنعاء, ص362 –
363.
[91] بتصرف: نفسه, ص366.
[92] شارون سميث, في تنظير
قمع المرأة: العمل المنزلي واضطهاد النساء, مدونة ما العمل, مقال مترجم, تاريخ
النشر: 14 سبتمبر2016م.
[93] راجع: فريدريك انجلز:
أصل العائلة, الملكية الخاصة والدولة.
[94] راجع: مسح القوى
العاملة 2013/ 2014م.
[95] إيمان أحمد ونوس,
سيكولوجية المرأة العاملة, الحوار المتمدن, مقال, تاريخ النشر: 26/ 4/ 2015م.
[96] راجع: د.فوزية حسونة,
المرأة اليمنية والتصنيع, دراسة ميدانية, مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان,
مايو 2002, تعز.
[97] منظمة العمل الدولية:
اتجاهات تشغيل المرأة في اليمن, المكتب الاقليمي للدول العربية, بيروت, يونيو
2005م, ص19.
[98] بتصرف عن: د. يحيى محمد النجار, حقوق العمال النقابية في ضوء المعايير
الدولية, دراسة تحليلية للتشريعات اليمنية, الدار العربية للمحاماة بالاشتراك مع
الصندوق العربي لحقوق الإنسان, صنعاء, ط1/ 2012م, الصفحات: 28, 128, 131, 182.
[99] نفسه, ص21.
[100] نفسه ونفس الصفحة.