- ضياف البراق
في مدينة عربية مزدهرة، قبل أن تدمرها الحروبُ الأهلية الأخيرة، سقط سروالُ امرأةٍ من بلكونة في الطابق الخامس، ذات نهار كئيب، والتقطه أحد المارة في الشارع، وبسرعة فائقة ألقى الرجلُ التهمةَ على ظهر المثقف العربي وحمّله كامل المسؤولية.
ويَسقُطُ مواطنٌ عربي ممعود في بالوعة حكومية نتنة في شارع عربي مخروب وبائس، بعد منتصف الليل، في حارة كلها ظلمات وأطلال وفقراء، في أثناء عودته من العيادة بعد تلقيه العلاج، إلى منزله، وتُرمى التهمةُ مباشرةً على رأس المثقف العربي.
المثقف عندنا مُطَالب بأن يكون خارقًا وفوق المستحيل والسيوف والمشانق والرصاص، وبين العواصف والمحارق والوحول، وداخل السجون والقبور وفي تقارير المخبرين. إنه مطالب بالخضوع لكل شيء، والمشي على الصراط المستقيم. مطالب بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع، دائمًا.
إنه مطالب بأن يكون نشيطًا وخفيفًا، سريعًا وغزيرًا، عميقًا وكثيرًا، وأن يكتب دون أن يجرح مشاعر الجمهور، وأن يتحنن على كل المجروحين والمزكومين والمسطولين، وأن يكون وطنيًا ويبكي ويجوع ثلاث مرات في اليوم الواحد على الأقل، وأن يتكلم بموضوعية وبلغة سهلة يفهمها الجميع، ويتعذّب على الورقة بصدق، وأن تكون أفكاره كلها سليمة من كل العيوب والذنوب. مطلوب منه أن يتجدد باستمرار، ويتدفق بعذوبة خالصة. إنه في كل الأحوال والظروف محاسب على كل صغيرة وكبيرة.
وقالوا إنه يحوِّل القضايا الكبيرة إلى فقاقيع، أو يدفنها برماد الماضي. وقالوا إنه لا يستطيع أن يتنفّس إن لم يكذب، أو إن لم يؤجِّر قلمه أو لسانه، أو إن لم يخن الثقافة بأي شكل. وقالوا إنه إذا تحرّر فلا يتحرّر إلّا من الحرية نفسها. إنه رجعي، أو ظلامي، أو متعدد الوجوه ومتلوِّن في إبداء الآراء وطرح المواقف.
ويقولون: إنه مثقف السلطة، حليف الطغاة، قلم الموت الذي يقصم ظهر الحياة، خاذِل البسطاء، وصانع العبث. وهو في زمن الشدة والصراع، خائن لوطنه، أو جبان وانتهازي، وكتاباته تبث القذارة واليأس في وعي المجتمع، ويُتهم بأنه متآمِر على عروبته.
وكان الشاعر والمفكر السوري العالمي أدونيس، منذ بداية مشواره الإبداعي والفكري، يفكّر بطريقة مختلفة، ويكتب بلغة متمردة، ويقرأ التراث العربي من كل الجهات وينقده بأسلوب حضاري فريد، من دون خوف ولا تلميع ولا ترقيع، ولذا قالوا عنه: هذا ملحد، زنديق، عميل للغرب، يسعى لتجريف الثقافة والهوية العربية، لكي يمنحوه جائزة نوبل فحسب!
والشاعر الكبير نزار قباني كان هو سبب نكسة العرب الحزيرانية الكبرى أمام إسرائيل لأنه هو الذي أفسدَ الشبابَ بشعره الرومانسي المُنحَلّ، والحكاية هنا أطول وأغرب. وعندهم، شاعر المرأة ليس وطنيًا حتى وإن كتب عن الوطن بالدم والدمع والذهب.
ولهذه الأسباب يُهزَم المثقف العربي الحُرّ، أو يموت كمدًا في منتصف الطريق. أو يموت جوعًا في منزله أو تعذيبًا في السجن أو مرضًا في المنفى. إنّ الكاتب عندنا يموت وهو لم يحقق انتصارًا واحدًا في وطنه الطارد للمبدعين. إنه هو المثقف الأشد معاناة بين كل مثقفي العالم.