- ضياف البراق
نزلتُ من الباص وهرعتُ مسرعًا إلى نفس المقهى. أنا عجول في كل شيء منذ صغري. على استعجالٍ أكتبُ وأكذب وآكلُ جثّتي. على استعجالٍ أقع في الأشياء والنساء والكلمات، وأَخرُجُ منها صِفْرًا. والاستعجال يورثني الشقاء باستمرار. والاستعجال دافع إلى الاستهتار المخيف، والأخير يجرف الحياة والناس والأشياء نحو الخراب، إلى الهاوية. وها هو طوفان الاستهتار يعصف بكامل وطننا العربي، ويثير فيه الفوضى والخوف والأزمات والخرافات الجديدة. استهتار بالكتابة واللغة والتأليف والنشر، واستهتار بالتراث، إمّا بنقده باستهتار وإمّا بالتشبُّث به والدفاع عنه باستهتار وإرهاب، واستهتار بأبسط حقوق الإنسان، وهناك استهتار وعبث في ممارسة الحريات واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، إنه استهتار متعدد من قِبَل الجميع، استهتار حتى على مستوى أكبر القضايا وأخطر العلاقات، استهتار بكل شيء. وهذا يعني أننا ننقرض من العالم. ثمة انخلاعٌ جماعي مخيف عن الوعي الذي يبني الحياة. وهاتوا لنا المزيد من أقراص الفياجرا والمخدرات والشعارات الثورية الكاذبة لكي نحققَ الكثيرَ من القفزات الحضارية ونصل إلى قمة البؤس والموت. وأنا أركض الآن إلى المقهى لإنجاز الكثير من الاستهتارات من أجل سلامة الحياة. وها هو بابُ المقهى ينتظرني بجنون لأفتحه بحسرتي القاتلة. في مُكْنَتي، غالبًا، الدخول بنجاح من الأبواب المغلقة. هنا أبواب الجحيم مفتوحة دائمًا.
وجلستُ أرضًا على رصيف المقهى وكتبتُ أغنيتين على نَفَسٍ واحد، وأشعلتُ شمعةً داخل حزني الطويل، وذابتْ. نَعمْ ذابت وصارتْ دمعةً كبيرةً منقوشةً على جناح قلبي. وصارتْ الدمعةُ طعنةً عميقةً في لحم روحي. لحمُ الكلمةِ تمزَّق أيضًا. ذوبان الشمعة لم يترك للأملِ مساحةً في حلمي. ثم تلاشى الضوء من هذه العين الحيرى. الكلمة هي عيني الوحيدة، وأنا أعمى من دونها. قلبي هو الكلمة. والكلمة تموت بغير الأمل. غير أنّ عينًا واحدةً تكفي أحيانًا لرؤية الحياة. وأعني تحديدًا تلك العين المُتحرِّرة من الخوف واليأس والاستهتار. وأحيانًا سيجارة واحدة تكفي للوصول إلى معنى الحياة. حتى احتراق السيجارة لا يخلو من معنى مفيد. المعنى تحت الركام، فابحثوا عنه هناك. ذاكرتي ذابت هي الأخرى. ولكن ذوبانها لا يعني نهاية الأمل، بل يعني فقط نهاية الألم. جرِّبْ أن تخلع ذاكرتك وعِشْ خفيفًا لبعض الوقت. الذاكرة منبع الألم، والألم يُثقِل حياتك.
وفجأةً يقطع الأملُ همسي العميق ويقول لي بصمت: لا تيأس، فتحت ضغط اليأس ينهار كل شيء. تمامًا مثلما تحت قسوة الجوع تُسحَق جميع معاني الحياة.
فيرد اليأسُ عليه من دون يأس: أولًا يا أخي المثالي، لا بُدَّ أن نتعلّم التعايش مع أضدادنا، يجب أن نخلق فينا مساحةً مُمكِنة للحوار المُشترَك والجدل والنمو والرقص. وعلينا أن نحافظ على قيمة الكلمة، أن ننقذها من الشيخوخة والذوبان، وأن نعتني بها على الدوام؛ هي حاليًا نافذتنا الأخيرة. فبالكلمة الصحيحة سنصنع التعايش، ومن نخاع التعايش ستنبثق حياتُنَا المزدهرة في أبهى معنى. أمّا أنا فلمْ أقل شيئًا. لقد ذابت حجنرتي من فرْطِ الصراخ في الفراغ، أو تحطّمتْ على حائط الوجع الضاغط عليها. والآن، بقي أن أعود وحيدًا إلى غرفتي اللعينة، ولو فوق أي نعش، ولن أخرج بعد اليوم إلى مقهى ولن أجلس على رصيف ولن أكتب رسالة حب إلى أيَّ امرأة.