- كتب: محمد ناجي أحمد
يتناول المفكر هادي العلوي في العديد من كتاباته موقف ماركس من المرأة والدين ، وكان رأيه أن ماركس لم يكن يدعو إلى الإلحاد ، ولم تكن هذه قضيته ، لقد كان معنيا بتحرير الإنسان من كل ما يكبله اجتماعيا واقتصاديا وأوثان. وعن المرأة أشار العلوي إلى قصته مع شيوعي سوداني التقى به في أحد المؤتمرات ، فقد كان الرفيق يدعو إلى مشاعية النساء حتى يشبع نزواته ، وكان رأي هادي العلوي يرى أن الماركسية لا تدعو إلى الانحلال وإنما إلى الاحتياج الانساني بين المرأة والرجل، وإجلال الحب كاحتياج متبادل. ولهذا فـ(هادي العلوي) يرى أن الإلحاد والانحلال والمجون نتاج للرأسمالية كثقافة للاستهلاك اللامحدود والإشباع الماجن ، في تحريف لإنسانية الإنسان ولثروات الأجيال القادمة…
في كتاب (مفهوم الإنسان عند ماركس)لـ(إريك فروم) ترجمة محمد سيد رصاص-دار الحصاد 1998م- يتوقف( فروم)عند مفهوم ماركس للعلاقة بين الرجل والمرأة، ويرى انها علاقة احتياج إنساني، ذو طابع إنساني ، وبالتالي ، الحد الذي أصبح فيه الشخص الآخر ، كشخص، واحدا من حاجاته، ، فالإنسان في وجوده الفردي كائن اجتماعي. وينتقد ماركس الشيوعية الفظة التي تدعو إلى مشاعية العلاقات الجنسية ” في العلاقة مع المرأة كفريسة وخادمة للشهوة المشاعية، يتم التعبير عن الانحطاط اللامتناهي الذي يوجد فيه الرجل من أجل ذاته” و(فروم) إذ يأخذ هذا المقتبس من كتاب( المخطوطات الفلسفية والاقتصادية) لماركس الشاب ،فإنه لا يرى انفصالا بين (ماركس الشاب) و(ماركس الشيخ) وإنما تكامل وإن في سياق تطور الأفكار.
الانحلال والمجون بما هو سمة من سمات مجتمع الاستهلاك الذي ” يولد الكثير من البشر العقيمين ن أو بحسب تعبير ماركس” إن إنتاج كثير من البشر يولد كثيرا من البشر العقيمين” وبالتالي ينبغي التفريق بين هدف تجاوز حالة الفقر العميقة التي تتعارض مع شروط الحياة الكريمة ، وبين هدف الاستهلاك اللامحدود…
لقد كانت علاقة ماركس مع زوجته وأطفاله علاقة حميمية ،مبنية على الوفاء المتبادل. تتحدث ابنته(لورا) عن مشاعر أبيها وامها قبل يوم من موت الأم ، وكيف كانا يتبادلان الحب وكأنهما شابان، وعن تعامل ماركس مع أطفاله وحكايته لهم في نزهاتهم ، فقد كانوا يطلبون منه أن يحكي لهم “ميلا” أي حكاية لمسافة لميل!
اشتراكية ماركس وفقا لإريك فروم في كتابه هذا تحقق الدوافع الدينية الأكثر عمقا ، السائدة في أديان الماضي الإنسانية العظيمة. فقد عبر ماركس عن اهتمامه بالجانب الروحي للإنسان، ولكن ليس بلغة دينية ، بل فلسفية. لهذا فقد كانت حرب ماركس في جوهرها ضد الوثن بمختلف مسمياته، فبحسب ماركس في شبابه
” ليسوا ملحدين أولئك الذين يحتقرون آلهة الجموع، بل ذلك الذي ينسب آراء الجموع إلى الآلهة”.
ما حاربه ماركس ليس الآلهة بل الأوثان التي هي تعبير عن اغتراب الإنسان وتشيئوه. غربته عن ذاته الخالقة، واستلابه تجاه ما صنعته وأبدعته يداه. ولهذا فالمتعصب لوثن يعبر عن فراغه المميت، ومن أجل التعويض عن ذلك الفراغ والموت الداخلي يلجأ إلى التعصب لوثن، أي تحويل الوثن إلى كلي القدرة، والخضوع له بشكل مطلق، وبهذا يكتسب معنى ويملأ الفراغ داخله بهذا الوثن. الفراغ المميت داخله يكون بحجم الوثن اللامتناهي القدرة.
يقول ماركس في رده على فيورباخ ” فيورباخ يحل جوهر الدين في جوهر الإنسان. إلاَّ أن جوهر الإنسان ليس تجريدا متأصلا في كل فرد مستقل. في حقيقته. إنه مجموع علاقاته الاجتماعية”.
يتمثل هدف ماركس في الانعتاق الروحي للإنسان، وتحريره من قيود الحتمية الاقتصادية ، لإعادة بنائه في كليته الإنسانية، ولتمكينه من إيجاد الوحدة والتوافق مع أقرانه من البشر ومع الطبيعة.
كان ماركس بعيدا عن المادية البرجوازية بمقدار بعده عن مثالية هيغل، ولهذا لم تكن فلسفته “مثالية ” أو “مادية” بل تركيبا من مذهب إنساني ومذهب طبيعي. ولهذا فقد نظر إلى الإنسان ليس بوصفه استاتيكيا ساكنا وإنما في حركته وصيرورته. أي دراسته ضمن شروطه الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش في ظلها. على قاعد أن الإنسان هو مبدع وفاعل في تاريخه. أي صانع لتاريخه ، الإنسان يلد نفسه في سياق عملية التاريخ.
ويورد إريك فروم مقطعالـ(غوتة) معبرا عن هذه الفكرة:
” الإنسان يعرف ذاته بمقدار ما يعرف العالم . إنه يعرف العالم داخل ذاته ، كما أنه يدرك ذاته داخل العالم. إن كل موضوع جديد يتم فهمه ، حقيقة ،يزودنا بعضو جديد داخل ذواتنا”
يرى إريك فروم في كتابه سابق الذكر أن سبينوزا وغوته وهيجل وماركس، الإنسان بالنسبة لهم هو حي بالقدر الذي يفهم العالم ” خارج ذاته” من خلال فعل التعبير عن قواه الإنسانية الخاصة، ويقبض فيه على العالم بواسطة هذه القوى.
الفكرة المركزية لدى ماركس بحسب (إريك فروم) هي تحويل العمل اللاهادف المُغرَّ ب إلى عمل حر ومنتج، وليس أجرا أفضل لعمل مُغرَّب تدفعه رأسمالية الدولة( المجردة) أو الخاصة” أي ليس ذلك الأجر الذي يدفعه القطاع الخاص أو رأسمالية الدولة.
تاريخ النوع الإنساني هو تاريخ التطور النامي للإنسان ، وفي نفس الوقت تاريخ الاغتراب المتزايد.
إن مفهوم ماركس للاشتراكية هو الانعتاق من الاغتراب ، عودة الإنسان إلى ذاته وتحقق ذاته.
ولذلك يصبح مفهوم الدولة الرأسمالية ومفهوم الدولة كما تحقق في الاتحاد السوفيتي مرفوض لدى ماركس .إن اهتمام ماركس الرئيسي ليس في التساوي في الدخل ، وإنما بتحرير الإنسان من ذلك النوع من العمل الذي يدمر فرديته، والذي يحوله إلى شيء، ويجعله عبدا للأشياء.
فالاشتراكية لدى ماركس هي قهر الاغتراب ، عن الذات، عن الآخر، عن الطبيعة، عن الدولة…عن السياسة وعن الصناعة وعن الفلاحة وعن اللغة الخ.
إنها بحسب تعبير إريك فروم في كتابه سابق الذكر، تحقيق للأمل النبوي: تدمير للأوثان .
إن الإنسان اللامُغرَّب ،والذي هو هدف الاشتراكية ، هو الإنسان الذي “لايهيمن” على الطبيعة ، بل الذي يصبح متوحدا معها، والذي يكون حيا ومستجيبا للأشياء ، بشكل تصبح فيه الأشياء حيَة بالنسبة له.
طبيعة الإنسان ليست كينونة موجودة خلف أو فوق، بل كما هي في الإنسان في حركته وصيرورته.
لقد كان ماركس إنسانا مستقلا ، غير مُغرَّب ، ومنتجا، بنفس الشكل الذي صورته كتاباته، لإنسان المجتمع الجديد، فقد كانت صلاته بالعالم ذات طابع منتج، وكذلك علاقته بالناس والأفكار، لقد كان ما يعتقد.
وفي إجاباته على استجواب قامت به ابنته(لورا) ” يكشف فيه عن جوانب كبيرة في شخصية ماركس، الإنسان: إن فكرته عن البؤس هي الخضوع ، والنقيصة التي يمقتها أكثر هي الخنوع، ومثله الأعلى :”لا شيء إنساني غريب عني” ، “يجب الشك بكل شيء”.
ماركس كما يراه (إريك فروم) في كتابه(مفهوم الإنسان عند ماركس) لم يكن متعصبا أو انتهازيا ، بل إنسانا يملك حسا لا يساوم بالحقيقة، ويملك قدرة على النفاذ إلى جوهر الحقيقة ذاته، ولا يؤخذ بالمظاهر الخداعة، رجل ذو كمال وشجاعة لا تنطفئ ، مع اهتمام عميق بالإنسان ومستقبله، غير أناني ، ذو غرور قليل وشهوة ضعيفة للسلطة، حي دائما ، متحفز باستمرار، ويعطي الحياة لكل ما يلامسه، إنه تجسيد للقيم الإنسانية المتمثلة بالإيمان بالعقل وتقدم الإنسان، الذي هو أكثر بإنسانيته ،والذي يملك أقل ، الإنسان الذي هو غني لأنه في حاجة إلى أخيه الإنسان.