- كتب: محمد ناجي أحمد
واحدية المكان في تنوعه وحركة إنسانه:
تتداخل الأمكنة بتنقلات دائبة للإنسان على الأرض اليمنية ، فسالم جد ” الحاج عبده” جاء إلى المنطقة ضمن العشرات من أبناء القبائل الذين نزحوا من ” بلاد مطلع” خلال فترات متعاقبة، واستقروا في عدة مناطق من البلاد…بعضهم يقولون: إنه جاء من “ريدة ” وبعضهم الآخر يقول من صنعاء وآخرون يقولون من ” حضرموت ” …”ص70.
الثابت في “الأصول” الانتماء للمكان ، المكان اليمني بشكله الجامع والمتسع للجميع، ولهذا تظل أوهام “الأصول” تخمينية “لا يعرف أحد حقيقتها على وجه الدقة” فكلما ألمَّ باليمنيين جائحة من جوع ومرض وحروب تكون هجرتهم الداخلية وتنقلاتهم في المكان، وطريق النجاة من تلك الجوائح كان “الوقف للمساجد” والتفرق بين قرى ووديان جبل التعكر، المعادل الموضوعي لأفق الجغرافية اليمنية.
“طواق العروس ” مقابر صخرية قديمة ،أو مذبحا للآلهة السبئية.
هند بنت عتبة والملكة أروى وصفية بنت حمود حيدر وريحانة ومارتا مايرز أسرى ” لفافة ” سطيح التعكر، و”طواق العروس ” التي لا تفتح جدرانها إلاَّ لمن وصل إلى عين اليقين، متلاشيا في سحرية المكان.
ومن الذكور ” علي بن الفضل، والمفضل بن أبي البركات ، والأشرف، وفورسكال وكريم وبيل كوهين الخ.
التماهي مع المكان ” دفنت ” مارتا” مع ” بيل كوهين” مدير المستشفى ، في حديقة المستشفى الخلفية ب” جبلة” حسب وصيتها ، في جنازة مهيبة شارك فيها آلاف اليمنيين ، رجالا ونساء ، وما يزال بعض الأهالي حتى اليوم يقومون بزيارة ضريحها ، لقراءة الفاتحة على روحها”ص96.
شخصية “العمدة” في هذه الرواية متحركة ، ترصد تحولات المكان بحنينية لما كان عليه ، فهو شاهد لما كان عليه بأحداثه وناسه ” كان يشعر بالحزن على أشياء كثيرة اختفت ، وعادات جميلة توقفت …على بساطة الأيام السعيدة التي كان الأهالي ينعمون بها…على المرح الذي اختفى من حياتهم لتحل مكانه قتامة بليدة …على الحقول الزراعية التي هجرها بعضها ، وبُنيت في بعضها الآخر منازل قبيحة …على بهجة الرقص الجماعي أيام الأعياد بعد ما اكتفى أبناء القرية بالصلاة في قراهم، ولم يعودوا يجتمعون في المصلى الكبير أسفل الشلال …على نقاء المروج والآكام والطرقات التي أصبحت مكسوة بكل ما خلق الله من أوساخ …على موت المواويل الزراعية التي كانت تردد صداها الجبال.. على الأمطار التي شحت كثيرا …على مبنى ” الولي” الذي تهدمت أجزاء من قبته البيضاء بسبب الإهمال… على نساء القرية وقد اختفت البهجة من حياتهن مثلما اختفت وجوههن وراء النقاب الذي لم تفلت من قبضته المتوحشة حتى وجوه الفتيات الصغار…على العزلة والتوحش التي فرضها الأهالي على أنفسهم …على البلاد التي انتكست أوضاعها وتفشى فيها الفساد….على توقف شباب القرية عن لعب كرة القدم…”ص264.
كل من اقترب قارئا للعلامات في حصن التعكر جذبته نحوها فلا يعود، وكل من اقترب من علامات هذه الرواية انساق لقوة جذب نحو سطورها وحكاياتها الشعبية التي تفتح أبوابها بجهد العاشق وشوق القارئ للمكان، المكان بما هو خطاب روائي ساردا سحريته لكل من يفكك دلالات العلامات والطلاسم والرموز، لكنه لا يعود بعد مغامرته القرائية كما كان قبلها ، فالشعور بتحولات المكان وموت العديد من أشواقه يترك غُصة على مآلاته ، وحنينا لما كان عليه ” لكن أليس هذا هو ما يتبقى من الحياة، التي عادة ما تختزل في آخر الأمر إلى ذرات رمال تعصف بها رياح الذاكرة في اتجاهات غير محددة، لتشكل لوحة متعددة المشاهد والألوان … لوحة تظل رغم كل شيء ناقصة، وفي أحيان كثيرة غير متجانسة ، مثل لوحتي التي حاولت أن أرسمها لكم عن قرانا الصغيرة التي تربض في سطح جبل التعكر، عن ناسها ، وحكاياتها التي طواها النسيان؟!” ص283.
هي غصة المكان حين يتحول إلى ذرات رمال مفككة ” تعصف بهارياح” الأحداث ، فتنبري الذاكرة لإنشائه من جديد…
هي علامات سطيح في حصن التعكر التي رسمتها دماء ” كريم” على الجدران ، ورسمه العشب الأخضر الذي نبت في المكان ، الشخصيات عابرة وزائلة ، والمكان هو الثابت الذي لا يفنى ولا يزول ولكن يتغير، يستعيد خلقه من ذرات الرمال كلما عصفت به رياح الأطماع …
ما رسمته الأحداث في المدافن القديمة ورسمه العشب فوق قبر “كريم” ” نحتها بعناية بالغة الراهب السبئي سُطيح منذ زمن بعيد جدا ؟!” ص289.
رحلة في المكان وأسطورة “لفافة” سطيح السبئي/ التعكري، التي ظلت منغلقة بطلاسمها وعلاماتها ، منحوتة في الصخر والمدافن وبالدماء على الجدران، تنتقل من هند التي لم يمسها ضر حين فتحت ” اللفافة” لتقرا ما فيها فلم تفهم شيئا، ثم لتصل تلك “اللفافة” إلى الداعية الإسماعيلي ، الذي وصفته الرواية خطأ بالداعية الفاطمي ،فقد تمرد على الإمام عبيد الله المهدي حين كان في سلمية ،وقبل أن يذهب إلى المغرب ، ناهيك عن تأخر نشوء الدولة الفاطمية في مصر –ومن ابن الفضل إلى المعماري اليهودي فالمفضل بن أبي البركات فالملكة أروى وصولا إلى فورسكال والطبيبة مارتا وعلي وريحانة وكريم، …
رواية الأساطير والأمكنة والرسوم ما إن تنغلق على الأفهام حتى تتحول إلى خرافة غامضة ، يجب التسليم لها وبها دون فك طلاسمها ، فقد حاولت هند ذلك فلم تعي شيئا ، سوى أنها وجدت طلاسم واشكال فحسبتها تميمة من التمائم وحرزا يحفظها من شرور الإنس والجان.
إنها رواية المكان والطلاسم في آن . رحلة الحياة والموت، المعرفة والسلطة.
“لفافة ” سطيح السبئي/ التعكري ارتبطت بمستقبل ملك بني أمية ، ويوتوبيا الفلاحين التي رفع لواءها علي بن الفضل، وكانت الملكة أروى وارثة لرموزها … بعضهم أراد الوصول فكان له ذلك ،وبعضهم فتح لهم الموت أبوابه مدخلا لما أرادوه…
هل ما كتبته سابقا كافيا لفهم المكان، وقراءة الأحداث التي حفرت نفسها في الصخور والمدافن والقبور وعشب الأرض وعيون المياه وتحت أنقاض المباني القديمة والعابرين كأطلال في ذاكرة هذه الأرض؟ المكان الممتد في الأفق الجامع لليمنيين في جغرافيتهم التي تعيد لملمة ذاتها متجاوزة للآني ، مكثفة لغتها باتساع جوهرة الحياة؟…