- ضياف البراق
شخصيًا، بتُّ لا أعوِّل على أيًّ من هذه الأحزاب الخاوية، الفاشلة وطنيًا، المتناحِرة ولو لأتفه الأشياء أو أسخف الأسباب. لا أعلّق أملي عليها. إنني لا أثق بوعودها الفضفاضة على الإطلاق. إن صراعاتها التعصُّبية البينية الكريهة لا تنفع الناس في شيء، وإنما تكسِر ظهورهم المُتعَبة، وتخذلهم يومًا بعد آخر. غير أنّ الأنكى هنا هو أنّ أكثر المنتمين إلى الأحزاب هذه، هم من المواطنين الغلابى، وهؤلاء للأسف لا يكفّون عن سلخِ بعضهم لبعض، إذ يتلادغون حزبيًا بشكل مستمر، مع أنهم يتضوّرون جوعًا، ولكنهم لا يعقلون، أو لا يعلمون، أو بالأصح لا يبالون. أنا لستُ ضد الأحزاب، كأحزاب مدنية حقيقية، ولكنني ضد الأحزاب كعصابات ترتدي مسميّات وطنيّة لامعة، أو كمليشيات تردِّد شعارات الديمُقراطية، أو حين تتحوّل إلى مجرد سجون تعتقل العقول والتاريخ أو معاول للهدم المُزخرَف..
نريدها إمّا أن تتنافس بشرف من أجل تحقيق مصلحة المجتمع عمومًا، قبل تحقيق المصالح الشخصية، كما تتنافس الأحزاب في البلدان المتقدِّمة، وإمّا أن تطوي ضجيجها المزعِج من هنا وتذهب به بعيدًا عن حياتنا. إنّ الانتماءات الضيّقة لا تنتِج سوى الأمراض الثقافية الخبيثة والعنف الفِكري الدائم داخل الأفراد خصوصًا، ومن ثم داخل المجتمع عمومًا. وعلى المثقفين والسياسيين اليمنيين، أو على المتحزبين وغيرهم، جميعًا، لا سيّما في هذه المرحلة الراهنة، العصيبة، أن يخرجوا من انتماءاتهم الضيّقة أو الصغيرة، إلى الانتماء الواحد الجامِع الأوسع، والأهمّ، ألا وهو الانتماء للوطن كله، بغير شروط طبعًا، ولن يندموا إن فعلوا، وما لم يفعلوا ذلك، فإن هذه الحرب ستسحق الجميع، وحينئذٍ لن يبقى لنا أي شيء نبكي عليه غير الرماد المُخزي. أرجوكم، لا تُمَاهُوا بين الحزب الفلاني والوطن، أو بين الطائفة الفلانية والوطن، أو بين القبيلة والوطن، لأن المماهاة في هذه الحالة ستحرم أكثر الناس من حقوقهم الوطنية، والوطن في الأصل حقٌّ للجميع، وليس لمجموعة بعينها..
هذه الأحزاب انتهت تمامًا من الناحية الثورية. واليوم حان الأوان لتحترم نفسها وتعلن إفلاسها أمام الناس جميعًا، وأن تعتذر لهم بصورة كافية. أو حان الوقت، على الأقل، لتغيّر نفسها على النحو الحقيقي، الحضاري، الذي يحتاجه هذا الوطن المأزوم، لكي يخرج من حالته الدمارية القاتلة. وما زلنا ننتظر ميلادَ أحزابٍ جديدة شابّة رائدة من بين ركام هذه الأحزاب المتفسِّخة الموشكة على الانقراض. اليمن بحاجة قصوى إلى نُخَبٍ طليعية جديدة، وإن لم تأتِ هذه النخب المأمولة ذات يوم فإنّ لا مستقبل لنا ولا منفى حتّى. ومن أخطاء وتناقضات هذه الأحزاب، تستمدُّ الحربُ قوتها، ثُمَّ تستمر أكثر فأكثر، وأمّا الدمار الناتج من استمرارها فيقع على رقاب الجميع. ولعل الحسنة الوحيدة لهذه الحرب أنها كشفتْ لنا كمْ أنَّ هذه الأحزاب، الممطوطة إعلاميًا، عديمة جدوى في حقيقتها. إنّ نهيق الحمير أفضل بكثير من نهيق هذه الأحزاب المريضة، الشائخة.. فنهيق الحمير لا يدّعي الوطنية على الأقل. ونهيق الحمير لا يضحك على الناس المسحوقين، ولا يقحم أنفه في كل شيء، ولا يحمل الحقد على أخيه. لقد تحول التحزيب إلى تخريب. أمّا الاستقطاب الحزبي فيجري حتى في المدارس، والمساجد، والمستشفيات، وفي كل مؤسسة تعليمية.. وهذا بالتأكيد شيء كارثي جدًّا. إنّ استطقاب صغار السن إلى الأحزاب، يقضي على براءتهم، ومع الأيام يحيلهم إلى فاشلين، إلى أبواق شديدة الحمق، إلى كائنات عاجزة عديمة الفكر والحرية. والحزبيّة المتخلِّفة، كهذه، كارثية دائمًا.
تحولت الحزبية إلى دروشة مقرفة إلى أقصى حد، لا تنفصل عن سلوك المتحزبين جميعًا. كما أنّ المناقرات الحزبية التباغضية، قد تجازوت كل الحدود اللائقة، حتى صارت المنافسة الوطنية بين الأحزاب مجرد سباحة عبثية في أوحال شتى تؤدي إلى الخراب المتعدد الألوان والأشكال. نَعم، أصبحت الحزبية لا تطاق. ومن كوارث هذه الحزبية أنها مزّقت حتى تلك الروابط الأخوية التي بين الأفراد، فعلى سبيل المثال؛ ستجد الاشتراكي لا يطيق قريبه الإصلاحي، والناصري لا يطيق جاره المؤتمري أو الإخواني، والمؤتمري هو الآخر يسبح مثلهم في الكراهية، وربما الإصلاحي لا يطيق جميع هؤلاء عن بكرة أبيهم، وربما هم أيضًا لا يطيقونه أبدًا، وهذه التجربة المخيفة عشتها أنا نفسي بمرارة في تعز مسقط رأسي. وتعز، كما نعلم، ومن دون شك، صادقةٌ جدًّا في نضالها الوطني الكبير، وهي السبّاقة دومًا إلى التمدين الشامل والبناء العام، ولكنها أغرقت نفسها زيادة عن اللزوم في ضجة الحماسة الحزبية الخانقة، وهي تخطئ أكثر بحق نفسها حين تختار قادتها من الصغار بدلًا من الكبار، وكذلك حين تندفع سريعًا استجابةً لدعوات شعاراتية ماكرة أو غوغائية مُنفعِلة لا معنى لها ولا قضية. وأنا حزين جدًّا لحال تعز المخذولة من قِبَل الجميع، حالها الأشبه بحال مَن يتخبط في طريق مسدود، مشبع بالوحل، في غمرة الظلام الحالِك.
عمومًا، المعارك الحزبية الدوغمائية المقيتة، المتصاعدة بين المتحزبين الفارغين، قائمة ومستمرة في كل البلاد، وهي تشتعل في القرى مثلما تشتعل في المدن، ولا يخلو الآن أي نقاش، من أي نوع كان، في البيوت أو خارجها، وفي كل وسائل الإعلام اليمنية، من النغمة الحزبية المتطرِّفة أو الإقصائية، إذ إنّ هذه الأحزاب استطاعت أن تسيّس كل شيء، بعد أن وسّختْ عقول وقلوب أتباعها، إلى درجة أن الناس أصبحوا ينظرون إلى الأشياء من جانب حزبي، أو يتعاملون حتى مع الأحداث العادية انطلاقًا من دوافع حزبية، وحتى العلاقات الإنسانية صارت تتشكل بين الأفراد على أسس حزبية، أو تتمزّق لأسباب حزبية، والمعاملات لا تخلو من بعض أمراض هذه الحزبية العمياء، وإنها لكارثة كبرى أن نصل إلى هذا الحد الخطير من البؤس التدميري الأعمى. وكل يوم تتخلّق مناقراتٌ حزبية جديدة، أيضًا لا فائدة منها، بينما الحرب تأكل الوطن من جميع أطرافه، بل تأكل الأخضر واليابس والمستقبل، وحِدّة المجاعة تتفاقم، والأوبئة تتنتشر بيننا، والسجون تزداد، والمقابر تختنق بالجثث الحيّة أو الميّتة، لا فرق.