- صلاح الحقب
على حافة إحدى الطرق في شارع بعيد عن منزلي وقفت بالخطوة العاشرة ، أنتظر باص الأجرة كي أعود إلى منزلي فور انتهائي من العمل وغيابي عن أمي يومين متتاليين .
شمس هذه الظهيرة لافحة جدا ، ولإنها كذلك في مطلع الصيف، تقول جداتنا : إنها إشارة لهطول المطر بعد حين .
السلام على جداتنا الوديعات كم يبتهجن بحضرة الغيم ويبتسمن في مراياها ، والسلام لقلبي كم تبكيه السماء فليس يزهر بالمسرات ولو سكبت عليه كل ما في سحائبها .
استوقفت باصا عابرا ذات الطريق بعد خمس دقائق من الانتظار ،صعدت على متنه وجلست بالمقعد الأخير ، فالباص ممتلئ بركاب أشقياء ، يتحدثون دون توقف حتى لتشعر أن ليس فيهم أحد يستمع للآخر من فرط انفعالهم ، وتلمح الحسرة بادية في وجوههم وكأن أمرا ما قد ألم بهم !
من مقدمة الضجيج، قال سائق الباص وهو ينظر في مرآة معلقة بالقرب من رأسه : متأكدون من صحة الخبر ؟
يجيب نصفهم بصوت واحد : نعم نعم بينما النصف الآخر يصرخ ثائرا : لااااا ، ما زلنا بخير ، هذا هو الإعلام، هذا هو الإعلام يكذب كعادته!!
ما الأمر ؟ “سألت شابا يحمل هاتفه ويحدق بدهشة !
كورونا وصل اليمن! وهناك حالات إصابة ووفاة كثيرة.
أهاه!
أطرقت برهة ،وجعلت أتأمل المباني والعابرين من نافذة الباص، فيما استمر الجميع بالجدال .
أشقياء نحن جميعا ، وقد اجتاح هذا الوباء كل بلدان العالم ، شعرنا أنه لن يقصدنا أبدا ، ليس لأي شيء ، فقط لأننا نموت كل يوم دونه ، إن لم يكن موتنا بالحرب ، فبالأوبئة الأخرى ، الأوبئة التي غادرت العالم واستقرت في أجسادنا ، وعناية الله هي ثقتنا الوحيدة فوحده من يدرك حجم هذه الكارثة فيما لو اجتاحنا هذا الوباء!!!
ماذا لو أصبتُ؟!! أخذني هذا السؤال بخيال بعيد إلى وجه أمي ، في حالة من الذعر ، وأنا أفكر بحياتي البائسة، ما كان ينبغي لها أن تصبح بهذا السوء !
على عكس ما كنت أحلم تماما ، شهادتي الجامعية تلك ، طوت أحلامي الكبرى فما رأيتها غير ورقة بيضاء تحمل اسمي بخط أسود الحظ .
لا أب أشكو إليه مخاوف الدنيا فأسند ظهري على كتفيه كما كنت أفعل طيلة ذاك العمر، قبل رحيله ، ولقد تحتم عليَّ الآن أن أنسى نفسي الأولى وأدرك آخري الجديد الذي خلقته أقدار هذا الفقر ، أمام مسؤوليتي في الكفاح لأجل أمي العجوز ولأجل نفسي أيضا ، لنحيا فقط ،نعم لنحيا دون أن نموت جوعا أو مرضا فلا يدركنا أحد.
تنهيدة من صميم القلب أعادتني لجدل من في الباص ، فور وصوله الجولة الأخيرة .
ما أن وصلت باب منزلي حتى وجدت أمي تقف هناك بانتظاري وفيها من القلق ما جعلها تفقد شعورها بحرارة الشمس ، يبدو أنها شاهدت الأخبار ، لا بأس ، وفرت عليّ عناء نقل الخبر إليها بالطريقة التي لا تفزع بها .
في كل مرة كنت أعود بها إلى منزلي ، تسألني أمي :
_كيف لنا أن نبقى في المنازل ؟
ولعل هذا السؤال يحمل أبعاد هذه المأساة ، بمفارقة كبيرة بيننا وبين كل العالم ، ندرك أن بقاء كل الناس في منازلهم نجاة لهم ، نعم هو كذلك ، في كل بلدان العالم دوننا ، فنحن وإن خرجنا من منازلنا هلكنا بالوباء دون العلاج ، وإن بقينا في منازلنا هلكنا من الجوع دون أن يدركنا أحد ، إذ لا نملك شيء سوى فرص الهروب من الموت ،الهروب المستمر من هذا الموت الذي يأتينا بألف صورة.
يا للفضاعة ! وصلنا الوباء وبات يستل أرواحًا كثيرة من الجياع الهالكين دونه، والمسنين الذين لا حول لهم ولا قوة ، ويا للوحشة التي تملكتني حين دخلت “السوبر ماركت” التي أعمل بها ووجدت مالكها بتلك الحالة المزرية، شاحب وجهه ، وذابل ذبول الموتى ، وأكاد أجزم أنني لمحت موتا يتكئ على جفنيه ، لم يتمالك نفسه حتى انثنى بهدوء على كرسيه وسعل كثيرا ،ثم تجشأ عناء الأنفاس الأخيرة ، هرعتُ لنجدته وحملته على غير هدى إلى المستشفى القريب من الحي ، فور وصولي ، أخبرني الأطباء أني جئت بجثة موبوءة.
رحل وترك لي موتا محتما ، كيف أعود إلى أمي؟!
يا إلهي سأقتل أمي العجوز إن عدت ، وإن بقيتُ بعيدا عنها ، من سيعتني بها ؟
هاتفتُ أمي وأخبرتها بالحقيقة ، وكان موتي في بكائها سلفا وليس في علة الوباء، مضت ثمانية أيام وأنا في غرفة مغلقة بذات المكان الذي أعمل به ، حتى تملكني الإعياء ، فخارت قواي وشعرت أني أفقد نفسي يوما بعد يوم ، وبرغبة الهارب من موته ،خرجت نحو ذاك المستشفى القريب ، أحمل مبلغا زهيدا ، كنت أسعل وأسالب الضيق أنفاسي .
لم يسمحوا لي بالدخول بل كدت أسحق من حراسه ، ومثله ثلاثة مستشفيات أخرى رفضت حالتي الهالكة ، لا أدري من الذي أبلغ عن حالتي، فلبوا نجدتي إذ حملتني سيارة على متنها أربعة رجال يرتدون بدلات بيضاء وكمامات ويتوشحون سلاحهم صارخين في وجه الخطيئة أنا .
وها أنا أجد نفسي في غرفة ضيقة برفقة سبعة من الهالكين مثلي يلفظون أنفاسا أخيرة ، جل ما حصلنا عليه أكسجين صناعي يكاد ينفد ، أشعر بموتي يدنو لحظة بلحظة ، أكاد أختنق ، سمعت من بعيد أمي العجوز تنادي وتصرخ: دعوني أراه وأموت معه ، ما شأنكم أنتم ، أتركوني ، دعوني أرى ولدي” واختفى صوتها فجأة .
مات الذين بجانبي واحدا تلو الآخر ، وظن ذلك الطبيب أننا متنا جميعا.
حملوهم جميعهم دوني !
“وهذا لماذا لا نحمله معهم ؟ ” قالها أحد الممرضين .
” لم يدفع أحد بعد قيمة قبره،وقد خرجت أمه تبحث عمن يشتري له القبر” رد ذلك الطبيب وأوصد الباب وبقيت بحضرة الموت .
يا إلهي ! تذكرت الآن حياتي كلها في لحظة عابرة ، كتبها صديقي في جبيني :
” إنني أموت في بلاد لم أجد فيها ما يساعدني على الحياة ، كيف سأجد من يشتري قبري؟”
يبدو أنني سأغفو الآن ، أو أنه الموت ، لست أدري!!
إذا صحوت سأخبركم أنني عدت من كف ذاك الردى ، وإذا رحلت فهذه بسمتي الأخيرة ، أبلغوها للذي اشترى قبري .