هذا الكتاب عبارة عن انطباعات طبيبة فرنسية غامرت بالمجيئ إلى اليمن مع بداية خمسينيات القرن الماضي، والعمل مع مجتمعه، بدافع اكتشاف طبيعة هذا المجتمع وعلاقاته.. ويعد من الكتب النادرة في الأنثروبولوجيا.. وانطلاقاً من أهمية مضمونه.. فقد رأينا أن ننشر بعض من أهم المقاطع التي وردت فيه.. على أمل أن تشكل إضافة معرفية جديدة عن التاريخ الاجتماعي اليمني في العصر الحديث.
(1)
إن اليمن ما زالت تعيش في ظلام القرون الوسطى.. وهي من وجهة النظر السياسية مملكة إقطاعية.. اقتصادها قائم على الزراعة والحرف.
واحتياجاتها، لهذه الأسباب، قليلة.. ولا يدخلها إلا القليل من المهندسين والأطباء الأجانب.. وهي لهذا ميدان مفيد جداً للباحثين في أصول السلالات البشرية ومميزاتها.. إذ لم يعكرها أي شيء غربي على الإطلاق.
إن الحياة في اليمن، ليست سهلة على غريب.. فليس هناك أثر للراحة ولا للحرية.. والوسائل المهنية ضئيلة.. والعلاقات مع السلطات المحلية سريعة التأثر وضعيفة.. إن الإنسان في اليمن لا يكاد يشعر بوجود العالم الخارجي.
وللأطفال الفقراء فترة سعيدة في حياتهم تلك هي التي تنقضي من حين يتعلمون المشي إلى حين يجب عليهم العمل، فالحرية في هذه السن تمنحهم رونقاً يفقدونه في سن الرشد، والبنات يفقدون حريتهن هذه قبل الأولاد.
يكفي في اليمن أن يكون لإنسان أي نفوذ طبيعي أو قانوني وأن يكون غير راض عن شخص ليأمر بأن يكبل بالحديد.. إن هذا أصبح أمراً مألوفاً إلى حد أنه لم يعد يحدث أي أثر أو انفعال ولا يخجل من يجر القيود بل أنه يتفكه ويهزل ويواصل أعماله العادية.
وفي المدن اليمنية لا وجود للبيوت وراء الأسوار.. فالإنسان لا يرى إلا حقولاً ومقابر.
(2)
أول محاولة لإدخال السينما في اليمن عموماً وصنعاء على وجه الخصوص:
كان أحد رجال الأعمال قد تقدم قبل عدة سنوات يطلب من الإمام أن يأذن له بتشييد دار للسينما في صنعاء فقال له الإمام:
- إني أقبل، ولكن بشروط ثلاثة..
فقال الرجل: ماهي هذه الشروط؟
قال الإمام: أولاً- ألا يعرض شيء ضد أسلوب الحكم أو ضد الدين.
فقال الرجل: هذا أمر مفروغ منه.
قال الإمام: ثانياً- ألا تظهر النساء في الأفلام.
فأجاب الرجل مرتبكاً: إن هذا عسير جداً، ولكننا سنحاول..
قال الإمام: والشرط الأخير أن يدخل الناس جميعاً مجاناً!!
(3)
انطباعات أولية عن مدينة زبيد:
إن زبيد مدينة من مدن القرون الوسطى بكل ما فيها، أسوارها العالية، قلاعها، منصات المراقبين والحراس، أبوابها الحصينة المنيعة، وأعجب من هذا كله، أن الحياة تجري في كل شيء فيها، فلم تصبح أطلالاً كما رأينا في تعز، ولا يشعر الإنسان بالإعداد وإعادة الترتيب كما يحدث في أوروبا.. بل يتملك الإنسان حقيقة الشعور بأنه تراجع خمسة قرون إلى الوراء.. لقد فصلتني زبيد وعبال وحمام علي عن العالم نهائياً!
(4)
كيف ينام اليمنيون؟..
في بلاد العرب يجب أن أنام كما ينام العرب.. فأحضروا مجموعة من اللحافات بينها كيس يتدحرج داخله اليمنيون ويقفلونه وهم يمضون الليل على نفس الفراش الذي جلسوا عليه طيلة النهار!
(5)
وصف مدينة صنعاء:
إن صنعاء مدينة خارقة للعادة.. فهي مزدحمة محصورة داخل أسوارها ولكنها خلابة.. في موقع رحب على سهل فسيح.. ولها كل مظاهر العاصمة الكبيرة، مدينة لها عمارتها، الشاهقة المتلاصقة الفخمة المغطاة بالزخرفة والنقوش البيضاء وتعلوها المنارات العديدة.
إن هذا التناقض يأخذ باللب لكأن هذا المجموع المعماري المتناسق بهذا الغني وهذه الوفرة برز بفعل السحر في إطار يكاد يكون كله من المعدن، ان هذه هي الاصالة العميقة لصنعاء وهي التي كونت لها مجدها منذ أزمان طويلة في جنوب الجزيرة العربية.
لا يثير دهشة الأوروبي أكثر من مدينة عظيمة بلا نهر، بلا ينابيع على سطح الأرض.. فقد برزت صنعاء من فوق أسوارها، ناصعة البياض، ساطعة تحت شمس الظهيرة، فأي وصف وأية صورة فوتوغرافية ما كان يمكنهما أن يكشفا لي جمال منظر كهذا.
أسوار من الطين كثيفة وعالية تزينها أبراج تحيط المدينة من كل جانب، أبواب تقفل في الليل والباب الرئيسي هو باب اليمن الذي يفتح إلى الجنوب، والذي يجب أن يدخل منه الأجانب تلك قاعدة متبعة بدقة تفسرها خراقة قديمة، فقد كان في عقد الباب طلسم أو حجاب للحماية فإذا اجتازه العدو أو الثعبان السام خر لتوه صعقاً، ولكن الباب العربي القديم قد حل محله للأسف باب تركي.. صنع حديثاً، وقد اختفى الطلسم، فليحفظ الله هذه المدينة ولتحرسها حكمة الإمام.
قد يجد الإنسان في بقاع من العالم غير صنعاء حياة غريبة وغير عادية.. أما صنعاء فليس فيها شيء على الإطلاق، أن شيئاً من الغرب لا يعكر هذا السحر وتلك الفتنة.. وقد صعب علي أن أهضم كل ما حولي، وكان وقع الدهشة والإعجاب بكل هذا كوقع الشحنة الكهربائية لقد ذهلت في اللحظة الأولى، ولكني بعدئذ أحببت صنعاء من أعماقي.
وصنعاء من الشرق إلى الغرب تتكون من أجزاء ثلاثة متميزة تماماً، المدينة القديمة.. حي بئر العزب حيث تقع دار الضيافة، ثم حي اليهود.
أما المدينة القديمة فهي أقدم أقسام صنعاء وأكثرها اتساعاً ويسكنها قرابة أربعين ألفاً، وهي تمتد في الشرق إلى سفح جبل نقم الذي يلحظ الإنسان قمته خيال حصن قام على أطلال قصر سام بن نوح، أبي الساميين جميعاً.. إن أسوار المدينة ترتفع عشرة أمتار وتعلوها طريق دائرية ويعززها مائة وثمانية عشر برجاً. وفي هذه الأسوار أبواب ستة ففي الشرق باب القصر، وفي الشمال باب شعوب، وباب الشقاديف، وفي الغرب جهة حي بئر العزب باب السباح، وفي الجنوب باب اليمن وباب خزيمة.
إن أقدم أحياء المدينة تقع في الشرق بجوار القصر، قلعة ضخمة تقوي أسوار صنعاء على منحدرات جبل نقم. وبين باب اليمن والقصر يسير شارع واسع ترتفع الأشجار على جانبيه، وتوجد بجوار الأسوار بيوت عالية يرجع تاريخها إلى عدة قرون..
إن منظر هذه المدينة الملفوفة المكتظة داخل أسوارها في هذا السهل العاري محير للألباب.. فأشعة الشمس القوية تجعل بيوت صنعاء ناصعة البياض في سفح الجبل، وعند الغروب يتحول كل شيء إلى اللون الوردي والبنفسجي.
وفي فبراير ومارس يزيد الغبار.. ويصاب الناس بالسعال.. ولا تتوقف الآبار عن الصرير.. ويبدأ الحرث في ضواحي صنعاء.. فيسير الرجل بمحراثه في الحقول التي تعتمد على ماء السماء، تتبعه امرأة تضع البذور حبة حبة وترد عليها الرمال بقدميها، وتجف تربة الحقول التي سقيت وتصبح قشراً صلبة يضربها الرجال بالفؤوس وتفتتها النساء وراءهم.
أما صنعاء فتأخذ في التأنق والنظافة، فتفرغ من الرمال والزبالة، ويقف رجال معلقون في حبال قوية يطلون واجهات البيوت ويبيضونها وتغسل النوافذ الخشبية في برك المفارج وترفع الفرش والسجاجيد في حجرات المنازل.
(6)
أسطورة باب خزيمة:
ولباب جزيمة أسطورة …فقبل ستمائة سنة كانت خزيمة شابة مسيحية ابنة أوروبي مارس في صنعاء تجارة البهارات والتوابل، وقد أشرف على تربيتها طباخ عربي عجوز وعلمها قراءة القرآن، وبعد أن كوّن هذا التاجر ثروة كبيرة صفَّى أملاكه وعاد إلى بلاده مع ابنته وخادمها الذي رغب في السفر معهما.
وقد نشأت خزيمة على الحكمة والرصانة والجمال، ولم تستطع أن تنسى شمس اليمن المشرقة وهواءها المنعش وجبالها الجميلة، فظلت حزينة ورفضت أن تتزوج. وقد مات أبوها ثم مات خادمها الوفي وتركها في وحدة تامة. وأخيراً ماتت هي وأوصت بأراضيها وقصرها للفقراء، ورغبت أن تدفن ومعها حقائبها المليئة بالذهب، وفي يدها رسالة مكتوبة باللغة العربية، ولم ير الناس في هذا العمل في ذلك الزمان سوى طلسم شيطاني.. ولكنهم مع هذا نفذوا وصيتها.
وكان يعيش في صنعاء، وفي نفس العصر، رجل متعبد، وهب نفسه للصلاة وتلاوة القرآن، وذات مساء رأى في الحلم خزيمة التي عرفها وهي طفلة، وكانت ترتدي ثوباً أبيض اللون كأي فتاة مسلمة ومدفونة على نفس الأرض بجوار باب من أبواب صنعاء، وكانت تمسك بيدها رسالة طلبت منه أن يوصلها إلى الإمام، وكان الحلم حياً قوياً واضحاً لم يجد معه الرجل أي مجال للتردد.
وفي الصباح ذهب الرجل مسرعاً إلى الإمام وطلب منه أن يسير وراءه وقد تبين المكان بسرعة، ولم يحفروا إلا قليلاً حتى بدت خزيمة، لقد كانت موجودة.. جميلة.. نضرة، ماتت في وطنها البعيد، ولكنها دفنت بمعجزة في اليمن، ورقدت على حقائب الذهب. وكان في يدها رسالة فتحها الإمام فوجد أن خزيمة قد قدمت للفقراء في صنعاء، أولئك الذين تحب أن تظل بجوارهم إلى الأبد، وبهذا الذهب بنى الإمام بيوتاً، وحفر آباراً، ووزع على البؤساء الأراضي الواقعة في جنوب المدينة، وكان كل واحد يود أن يدفن إلى جوار هذا القبر المعجزة، ولا يعرف أحد مكان هذا القبر اليوم، ولكن مقبرة واسعة تمتد بجانب باب خزيمة.
(7)
من هو “الدويدار”؟:
هو طفل صغير حل محل الخصيان الذين كانوا يخدمون الحريم عند العرب قديماً، وهم الصلة الوحيدة للنساء بالعالم الخارجي، إنهم في الغالب أذكياء جداً، ويقومون بمهمتهم بكل حذق ومهارة، ويقصون على سيداتهم كل ما يرونه في المدينة، وفي سن الثالثة عشرة يبدلونهم، ويأخذ من خدم منهم في بيوت الأمراء مرتبات صغيرة.
(8)
حياة الرجال اليومية في المجتمع الصنعائي..
من لم يتجول في صنعاء على ظهر حصان، فليس له أن يفاخر بأنه قد عرف صنعاء.. فحيث يكون الإنسان أعلى من الناس يمكنه أن يرى الأشياء المتنوعة.. ويجد الأوروبي نفسه حائراً عاجزاً أمام إنتاج الصناعات اليدوية المتنوع التوازن.
ومع هذا.. فالمرء جزء من هذا الجمهور يعيش حياته، ويستطيع أن يفهمه.. والناس هنا حاضرون، مستعدون يبتسمون ويتطلعون إلى المارة.. ويتكلمون فيما بينهم.. وتظهر عليهم السعادة في حياتهم البسيطة.. عندهم متسع من الوقت، فليسوا عجلين ولا مرهقين.. إنهم هزيلون في أغلب الأحوال.. ويرتدون ملابس رثة.. ولكنهم ليسوا مستعجلين أبداً، ولا يتعبون أبداً، ذلك لأنهم لا يعملون قليلاً ولا كثيراً.
وعندما سألت متسولاً صغيراً: “ماذا يعمل والدك؟”.. أجابني: “يصلي.. ويظل يتجول ويتنزه..!”.
في هذا الوسط إذا حدث شيء لأحدهم، ولو كان تافهاً، فإن عشرين شخصاً يهتمون بالأمر في الحال.. وهذا تطفل وهو غالباً ما يضايق.. لكنه ودي دائماً، ففي الوسط العربي لا يشعر الإنسان بالوحدة أبداً.
في الظهيرة.. ودون خوف من اللصوص، يقفل كل تاجر دكانه بخيط خفيف ويذهب ويؤدي صلاته في المسجد، ويلتقي في الطريق برجال قد سربلوا أكمامهم الطويلة لوقاية أيديهم.. وقد تطهروا في بيوتهم تفادياً للزحام في أحواض المساجد.. وهم مستعدون للصلاة.. يتأخرون في المساجد.. لأن المقاهي محرمة.. والمسجد هو المكان الوحيد للاجتماعات العامة.. وبعد تبادل الأخبار كلها.. يذهب الأغنياء لشراء القات. واليمنيون يحرصون على الراحة كثيراً.. فأوراق القات يمضغونها طازجة وهم لهذا يقطفونها في الصباح المبكر من ضواحي صنعاء وينقلونها إلى المدينة في ربط من أوراق الذرة الخضراء حتى لا تجف ويخرج الناس من المساجد ليتزاحموا على أشجار القات.. وكل واحد يريد أن يختار بكل عناية أجمل الباقات.. وتخلو الشوارع فالناس قد ذهبوا للغداء.. وبعد الغداء.. لا أحد يعمل.. فالصناعات اليدوية ومكاتب الحكومة والورش الصغيرة، والمحلات التجارية.. كل هذا مغلق.. وإذا فتحت بعض الدكاكين من الساعة الرابعة فليس إلا تكملة للدخل اليومي الناقص.
بعد الظهيرة يتغير طابع الشوارع ومظهرها كلية، فالرجال يذهبون إلى مجالس القات وقد حملوا معهم ربط القات.. وصناديق التنباك تحت أكمامهم أو على ظهورهم.. إن البطالة هنا لا تعني الرضا.. ولكنها بكل بساطة تدل على انعدام العمل.. وساعات النهار الهادئة هذه ليست امتيازاً للأغنياء بل إن متوسطي الحال وحتى الفقراء يشاركونهم فيها.. والفرق هو الزينة والملابس ونوع القات.. إن القات في العادة يخصص للجمعة والمناسبات الهامة.. أما في الأيام الأخرى فإنهم يدخنون ويضعون في أفواههم «البردقان» أو مسحوق التنباك.
(9)
حياة النساء اليومية في المجتمع الصنعائي..
تظهر النساء في الشوارع وقد تغطي الجسم كله من قمة الرأس إلى أخمص القدم بملاية هندية ذات رسوم متشابهة وألوان حمراء وزرقاء وخضراء.. وعلى الوجه حجاب أسود شفاف يتلمسن طريقهن من خلاله، وتزينه دوائر بيضاء وحمراء تعطيه شكلاً غريباً شبيهاً برؤوس الحشرات.
وفي الصباح قلما يرى الإنسان امرأة في الطريق.. اللهم إلا فلاحات في السوق أو نساء فقيرات ملفعات بأقمشة سوداء يخرجن لجلب المياه. وعلى رؤوسهن “تنكة” من الصفيح الأبيض.. وقد حلت محل القلة القديمة الثقيلة القابلة للكسر.
إن للنساء مجالسهن الخاصة، والرجال في المناسبات الهامة يتركون لهن المفارج.. تخلع كل قادمة ملايتها وحذاءها وتضعها فوق اللفات المكدسة في الحجرة. ثم تدخل وتحيي الجالسات في الغرفة ويتبادلن تقبيل الأيادي .. وثمة نظام دقيق يحدد طريقة التحية وعدد القبلات ومن يجب أن يبدأ أولاً وفيما إذا كان لابد من الوقوف، الخ. وتجد الداخلة أخيراً مكانها حيث تجلس متربعة لا تتحرك ساعتين أو ثلاثاً..
والرجال يفضلون المجالس الصغيرة، حيث لا يزيد العدد عن خمسة عشر شخصاً .. وهذا مناسب للحديث والنقاش. أما النساء فيعشقن الكثرة.. وقد يصل عددهن أحياناً إلى أكثر من مائة سيدة.
وتكون النوافذ مغلقة بالستائر، بل أحياناً بالسجاد، والعقود الزجاجية وحدها هي التي تضيء الحجرة، وفي هذا الظلام الخفيف يتكون من ثياب هؤلاء النسوة الجالسات، ومن يرافقهن، روضة ساحرة جميلة زاخرة بالألوان الصارخة المتعددة.
ولليمنيات وجوه ممتقعة شاحبة ، وملامح متناسقة، وهن يستعملن أصباغاً كثيرة.. ولا يكتفين بالروج للشفاه والخدود والأظافر، بل الكحل أيضاً الذي يجسم الحواجب ، ويضع نقطاً دقيقة، تحت الفم وعلى الجباه ، أما اليدان والقدمان فتزينهما جدائل سوداء في شكل أكليل من الزهور والخضرة.. بل ان بعض النساء يرسمن أشكالاً تزين صدورهن وتنزل إلى ما بين النهدين، ولكن هذه النعمة لا يعرفها إلا الزوج والطبيب!.
وفي هذه المجالس تدخن النساء كثيراً، وإذا كان الزوج كريماً فإنهن يتعاطين قليلاً من القات.. وتتحدث كل واحدة همساً مع من تجاورها وقد تقول بعض الجريئات شيئاً يهز، فتطلق النساء من حولها صرخات الدهشة والعجب.. يوه.. يا أختي!.. مع إخفاء وجوههن.. إنهن يتكلمن قليلاً ولكنهن يرقصن كثيراً.. ويفسح المجال في الوسط بكل صعوبة وتقف مغنية في يدها الدف.. ثم تنهض امرأة وتدعو إحدى زميلاتها، ويرقصن اثنتين اثنتين.. أو ثلاثاً ثلاثاً.. وأحياناً أربعاً.. وتتقدم الراقصات.. ويدرن وينثنين طبقاً لنظام يبدو لأول وهلة رتيباً مملاً.. وتتقدم الراقصات.. ويدرن وينثنين طبقاً لنظام يبدو لأول وهلة رتيباً مملاً.. ولكنه لا يلبث أن يصبح ساحراً فتاناً عندما يتعود عليه الإنسان.. وتخفض النسوة طرفهن.. ولا يبتسمن، وتمسك الراقصة بيد منديلاً وطرفاً من الثوب، وبالأخرى تمسك يد زميلتها في الرقص.. ويكمن فن الرقص في أوضاع القدمين المعقدة اللتين تنتقلان على الأرض.. وفي حركات الأرداف، وتظل نساء اليمن نحيفات.. طريات العود.. طوال حياتهن، وهن غير راضيات لهذا.. فالمرأة المثالية في نظر اليمنيين.. هي البيضاء البدينة الجميلة.. وكثيراً ما طلب مني الرجال أن أعمل على أن تصبح نساؤهم بدينات، ولكن دون جدوى للأسف.. أما الفتيات الصغيرات فوجوههن جميلة.. إلا أنهن لا يحسن الرقص لأن أجسامهن متصلبة ناشفة..
هكذا تقضي النساء أوقات فراغهن، بعيداً عن الرجال.. في الصباح وأثناء الغداء وبعد الظهر.. شيء مدهش هذا المجتمع النسائي.. فالنساء أنيقات، مخضبات يرقصن، ويعرضن مجوهراتهن.. ولكن لا لإرضاء الرجال.. فالرجال لا يشاهدون أبداً هذا البهاء.. وكثيراً ما سألت إحداهن: “ولكن هل سيراك زوجك بهذا الجمال وهذه الزينة.. هذا المساء، هل رآك ترقصين”؟.. فترد دهشة مستغربة: “كلا!”.