- كتب: محمد ناجي أحمد
(أرض المؤامرات السعيدة) لـ(وجدي الأهدل)،والصادرة عن دار نوفل 2018م:
هي من الروايات القليلة التي لا تريد مفارقتها إلا وقد استكملت رحلتك داخل عوالمها …
يتوقف ( مطهر فضل) عند بسطة إحدى المكتبات ليجد جريدة ” النضال” التي سطا عليها بقوة السلطة –مكدسة وبائرة، ويلمح ” نسخة مهترئة متآكلة الأطراف من كتاب تذكاري عن والدي ، انتابتني مشاعر متناقضة ، ثم حسمت أمري واشتريتها”ص247.
دلالة “الاهتراء” والتآكل ليست للأب البيولوجي فحسب ، وإنما لرمزيته اليسارية ، فالكتاب طبع قبل عشر سنوات ، بمناسبة حفل تكريم لأبيه أقامته أحزاب المعارضة…
لم يقل حينها لأبيه” ” حتى كلمة مبروك ” تجاهلته بصلف ورفضت قراءة النسخة التي أهداها لي ، ومن تقدير وتوقير المجتمع له حسدته على الاحترام الفائق الذي يحظى به في أوساط الناس ، منذئذ حصل شرخ في علاقتنا ، وبدأت أنفر منه ، ومن اليساريين الأقزام الذين افتتنوا به ، وسجدوا له ..أنا لم أسجد ، ولم تمنعني هالته …وزيادة في النكاية به ، رميت يساره خلف ظهري ، وانضممت إلى السلطة ، ولعلي عن عمد وسبق إصرار قد عجلت بوافاته”ص247-248.
واضح لأية قراءة متأنية أن “الشرخ” لم يبدأ قبل عشر سنوات بين الأب والابن ، وإنما هي رغبة في (قتل الأب) كطريق اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي ، مما جعل الابن يختار الطريق المضاد لأبيه ، طريق غلبة قيم الاستهلاك الرأسمالي ، فموت اليسار جينيا وقيميا بمطرقة الرأسمالية التي هوت على رأسه ، مسقطة نموذجها على الأرض ( الاتحاد السوفيتي ) وتجربة الدولة الاشتراكية في الشطر الجنوبي من اليمن، فمع عام 1986 كان اليسار يحتضر ، لـتأتي أحداث 13 يناير 1986 لتعلن انفجار تناقضاته، التي عززها الغرب بواسطة دول الإقليم ، وبفعل البداوة التي لم تستطع التجربة الاشتراكية في اليمن الجنوبي من تفكيك عصبويَّاتها المتخلفة، لتكون المحصلة أن المثقف العضوي غريب عن واقعه كثيف الطبقات والأزمنة الماضوية ، ولتكون الحداثة مجرد قشرة خارجية سرعان ما تلاشت مع تراكم الأزمات والصراعات داخل بنية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومن محيطها الإقليمي والدولي ، كونها تجربة أُقيمت على مشارف حركة التجارة العالمية في البحر الأحمر وتطل على باب المندب والبحر العربي والمحيط الهندي ، وتمثل بوابة وخطرا على “مياه الخليج الدافئة” التي ما قوة عظمى إلاَّ وبنت مجدها وسطوتها الدولية وبسطت نفوذها على تلك المياه وممراتها…
مسار ومشاعر الابن تجاه الأب البيولوجي والخصم الأيديولوجي الذي يقض مضاجع ضميره كلما أراد الاغتراب عن انتمائه الطبقي –تتجسد من خلال الضغينة من ناحيته تجاه أبيه، كإسقاط نفسي لانجرافه وتحوله بوقا للسلطة وإعلامها المزيِّف للحقائق والوقائع والأحداث!
لكن الأب كموقف اجتماعي لا يموت وإنما يُظل كامنا في أعماق الابن ، وهو ما يجعل مشاعر مطهر فضل في حالة توتر ، محاولا إقناع نفسه بأن نهجه كان انتقاما من الأب اليساري ، الذي أهمل عائلته ، وكان حريصا على قضايا الناس والانحياز لهم، فحصل الأب على تكريمهم وازدراء ابنه بل وانتقامه من خلال اختيار الابن لطريق مغاير ومضاد لطريق الأب:
” قرأت الكتاب الذي عن أبي ، ففهمت شيئا جديدا عن نفسي .. وعيتُ أن صراعي لم يكن مع ظروف الحياة القاسية، بل مع أبي ، لقد ظللت أتصارع معه حتى وهو مسجى في قبره .. لقد ضحيت به من أجل تفاحة
فاسدة”ص249. تم استبدال الأب ب”تفاحة فاسدة” هي ما يمثله أبو زوجته من قيم نقيضة لأبيه!
فأبو زوجته يطلب منه بشكل مباشر أن يكون ” رجل دولة” أي “رجل سلطة” فالتماهي والترادف في الدولة السلطانية بين مفهوم (السلطة) ومفهوم( الدولة) يجعلهما شيئا واحدا لا تباين بينهما!
انتقال وانسلاخ من طبقة المستضعفين إلى طبقة اجتماعية طفيلية تخدم السلطة النافذة والقوى المهيمنة في المجتمع ، أي أداة في خدمة السلطة ببعديها السياسي والاجتماعي: سلطة المجتمع الأبوي وسلطة الحاكم الحامي لسلطة القوى التقليدية في المجتمع ، والذائد عن موروث الغلبة والقطيع الاجتماعي !
وهو ما يجعل ( مطهر فضل) في مشاعره المضطربة يعبر عن هذه القيم بقوله ” في هذه البلاد ، إما أن تنحني للظلم فتأكل ملء الفم ، وإما أن تحمل القلم وتتحَّمل الألم ، .دربان متناقضان ، وأنا اخترت الدرب الأول ، الدرب الأسهل.. إلاّ أنني اكتشفت أن الذي يفتح فمه سيأكل ، بالإضافة إلى اللذائذ والطيبات ، أشياء أخرى لم تخطر بباله، منها على سبيل المثال الخراء.”ص253.
ومع غلبة مشاعر الانتماء يأخذه حنين مفاجئ بالنسبة له لكنه متوقع لأفق القارئ النقدي – للاستعانة بمحرك البحث ( G00gle) كي يجمع صورا لأبيه ، وليقارن بين القناعة والرضى لدى أبيه ، والتعاسة والغربة عن ذاته بالنسبة له” أحسب أنه مضى قانعا من الحياة وسعيدا وراضيا عن نفسه . أما أنا فلا .. كنت أظن أنني شخص في قمة السعادة ، وأنني حققت النجاح في الحياة، وانتصرت على عقدة الجوع والفقر .. ولكنني أعلم الآن أنني لم أكن منتصرا ولا ناجحا ولا سعيدا. إنني شخص مهزوم ، وهي هزيمة لم اشعر بها وهي قاسية لأنها لم تخطر ببالي قط” ص259.
المقابلة والمقارنة النقدية بين ميتة (سامي قاسم) مراسل جريدة ” الأيام” العدنية ،وبين انسحاب وميتة (مطهر فضل) تعطي صورة عن الصراع النفسي والقيمي الذي يعيشه مطهر فضل، لتكون النهاية بتلك الغرائبية التي اختارها مؤلف الرواية ، استكمالا للبناء الأيديولوجي ، بتوظيف فني للأسطورة والغرائبية الشعبية ، التي تمثلت بتنبيه “العجوز التي تتسول” وطلبها من سائق البيجو ألا يسافر تلك الليلة، ومن ملامح العجوز الغريبة شعر مطهر فضل بالخوف منها ” تملك أغرب عينين في العالم ، لونهما أصفر، وتعطيان الإحساس بأنهما تدوران حلزونيا للداخل.. عينان قادرتان على جذب كل شيء إلى أعماقها.. لو أخبرني إنسان عن شيء كهذا لما صدّ قته، لكني اختبرت هذا الشيء بنفسي ، وهو لا يشبه البته الخوف المصطنع الذي نشعر به عندما نشاهد فيلما مرعبا ، إنه خوف حقيقي يقتحم قلبك ويجعلك تعاني من رغبة ملحة في البول. فجأة مدت رأسها باتجاه السائق وكلمته :” لا تسافروا الليلة”..” ألم تسمع عن شبح الشيبة الذي يظهر مرة في العام؟ الليلة موعده”…إنه يظهر عند باب الناقة .. والعام الماضي تسبب بحوادث أزهقت فيها أراوح كثيرة” ومن هذه الحكاية الغرائبية تكون حيلة المؤلف الفنية في إعادة تخليق الشخصية المحورية في الراوية، واستكمال مآلات الشخصيات الأخرى، وكأن الموت هو عودة إلى رحم الأسطورة والطبيعة في آن.