- كتب: محمد ناجي أحمد
في نقاش(مطهر فضل) مع الطبيبة الروسية (تاتيانا) يتضح للقارئ مفارقة الموقف تجاه سقوط الاتحاد السوفيتي:” تكلمنا عن المرحوم “الاتحاد السوفيتي ” وقلت لها إننا نحن العرب نَحِنُّ إليه ونشعر بالأسف على رحيله . قالت إن الروس لا يشعرون بالأسى على موته . وذكرت تشبيها لا أدري إن كان وصلني بطريقة صحيحة ، إذا شبهت الاتحاد السوفيتي السابق بشخص يتظاهر أنه غني وينفق ماله على الولائم ، بينما أفراد عائلته يتضورون جوعا ويضطرون إلى سرقة الملاعق من الجيران”ص132. هنا يتم اختزال نهج سياسي استمر لأكثر من سبعين عاما إلى مثال يختزل التجربة بما يعبر عن وعي الرأسمالية المنتصرة ومفهومها الطبقي في العطاء والإنفاق ، و بكرم بدوي يذكرنا بحاتم الطائي الحريص على إقراء الضيف وترك أبنائه يتضورون جوعا، وهو ما صوره حاتم شعريا على لسان زوجه التي تشكو من كرمه!
تسيطر مشاعر وقيم الإنسان على(مطهر فضل) ويلوم نفسه بعد اختفاء (منى) لماذا” لم أهرب مع منى إلى مدينة بعيدة عن عيون الشيخ وزبانيته ، ساورتني أفكار بأن منى تستحق أن أضحي بحياتي البائسة الضائعة من أجلها ، أن نسافر معا إلى أي دولة في العالم ونبدأ حياتنا من جديد ، بعيدا عن شبكة العنكبوت التي تمنعنا من الطيران بحرية، وتقيّدنا بخيوطها اللزجة المسمومة” ص137.
في حقبة زمنية ماضية كان الإسلام السياسي يعتاش فيها على مسرحية إدخال (الكفار)(النصارى) إلى الإسلام ، ويشيع الكثير من القصص الكاذبة والمختلقة عن هدايته للعديد من “بروفسورات العالم”-وكانت مسرحية هداية( الكفار) إلى الإسلام تخدمه في توسيع نفوذه السياسي في المجتمع اليمني ” تحدثت تاتيانا عن مديرها، قالت عنه :” إنه عرض عليَّ الدخول في الإسلام ، وعندما قلت له إنني لست مؤمنة ، أخذ يتشدد في معاملتي ، ويرفض منحي أية إجازات ” ص139.
عند قراءاته لجريدة “النضال” الحديدية، وجريدة ” الأيام “العدنية يجد (مطهر فضل) خبرا عن مقتل الطفلة محسنة ، كان ذلك الخبر القصير كافيا لأن يوقظ مشاعره وتعاطفه تجاه الطفلة محسنة بما يتناقض مع دوره في تزييف الحقائق وتحويل الضحايا من القاصرات إلى مجرمات، وتبرئة الوحوش المفترسة والمغتصبة للطفولة :”خبر مختصر جدا ،لم تكن هناك تفاصيل ، ولا حتى ذكر لاسم الطفلة…شعرت بانزعاج شديد ، بضيق في الصدر ، بالهواء لا يخرج ويدخل بسلاسة إلى رئتي ، وبغثيان يتصاعد إلى حنجرتي ، ويفسد عليَّ مذاق القات ، ما كنت أخشاه وقع ، قضية محسنة فاحت رائحتها ووصلت إلى وسائل الإعلام، ومن الصعب الآن وقف تداعياتها ، لن تلبث الأمور أن تسوء ، وسأجد نفسي كالعادة متورطا في الدفاع عن ” القذر” الذي فعلها”ص152-153.مشاعر مختلطة ، تعاطف مع الضحايا وانغماس في الدفاع عن القتلة ، والانخراط بأعمال ومؤامرات يندى لها الجبين!
بمناجاة سردية مع نفسه يبرر (مطهر فضل ) سقوطه؛ بأنه يعيش في مجتمع ليس فيه مشاعر ، مخاطبا زوجته بذلك الحوار الذاتي ” تقول إنها تريد مني ” مشاعر”! هووه ..لن تفهم هذه المرأة المدللة أن ” مشاعري ” قد ضاعت في زحمة الحياة…وتنسى أن للحياة متطلبات عملية، وأن النقود لا تأتي من تلقاء نفسها، ولا مفر من خوض صراع يومي للحصول عليها ، وانتزاعها من افواه الآخرين.” ص163-164.
لم يعد هناك يسار ، فلقد مات في الأقطار العربية قبل سقوط الاتحاد السوفيتي ، صار نجوم المعارضة يتناسلون من معطف السلطة اليمينية وقواها الاجتماعية، مات “الأب” الشيوعي وأصبح بطل المرحلة ” غالب زبيطة ” رئيس تحرير جريدة ” النضال” لا يختلف من حيث الدور الوظيفي عن ” رياض الكياد” رئيس تحرير جريدة ” الشعب” صارت السلطة هي من تصنع نجوم المعارضة، وتملي الفراغات ومربعات قطع الشطرنج بتحريكها القطعة التي تكسب من خلالها مرحليا، ثم تتخلص منها في لعبة الذات المتسلطة وإدارتها للأزمات عن طريق الفوضى المنضبطة والمحددة الأهداف!
” غالب زبيطة” رئيس تحرير جريدة ” النضال” وفقا لتصور ومشاعر ( مطهر فضل) متهافت على تقاليد كل ما هو هوليودي ، وببغاء يردد مقولات المنظمات الأجنبية العابرة للقارات.ص172.
مع “جليلة ومنى ومحسنة وخاتمة ” تنسال مشاعر إنسانية وتحيزات مطهر فضل اليسارية” شعرت بتأنيب الضمير لأنني تسببت بتجويع إنسانة كان مصيرها معلقا بي ، وتوقعت أن أرحم ضعفها وغربتها” ص177.
يتطابق حضور الجندي المهمش ” سعد موسى” مع ورود اسم الحزب الاشتراكي اليمني بشكل عابر وهامشي ويتيم الذكر” وجدت في صحيفة ” الثوري” التي تصدر عن الحزب الاشتراكي اليمني خبرا لفت انتباهي :”مقتل الرفيق مساعد أول سعد موسى في ظروف غامضة”. تأملت الصورة وعرفته . كان الجندي الضخم الجثة الأسود البشرة- من طائفة الأخدام- الذي تصدى للشيخ وأعوانه في قسم شرطة باب المنجل. ورد في الخبر أن جثة سعد موسى ، عضو الحزب ، قد وجدت مرمية في أحد دروب قرية باب المنجل ورأسه وأطرافه مقطوعة”ص177.
يحاول ( مطهر فضل) الابتعاد عن كل ما يذكره بنشأته وأخوته فقيرا معوزا ، حتى وجبة الفول أصبح لا يتناولها لأنها علامة الانتماء للفقراء ” ما لم تكن خاتمة تعرفه عني هو أنني لا أتناول الفول إطلاقا . وأعترف بأنني أتجنبه لكونه وجبة شعبية ، وعلامة على الانتماء للفقراء . أمتنع عن أكله لأسباب طبقية ، انا برجوازي ، ولا أقبل أن أتدنى إلى مستوى طبقة البروليتاريا ، وأعتقد أنني ضحّيت بقدر لا يستهان به من الأخلاقيات والمثل العليا لأتخلص من هذه الوجبة وإلى الأبد.”ص182.
“خاتمة ” بذكائها الغير عادي، وقدرتها على تفسير مشية “الجبالية” ومشية أهل تهامة ، ارتفاع الأقدام في مشية الجبالية ، وإظهار القوة فيها، ومشية أهل تهامة المنسابة” نحن نمشي براحة ، ندفع أقدامنا للأمام ولا نرفعها إلاَّ مقدارا يسيرا”..”لا مشيتكم فيها إظهار للقوة، ونحن لا نحتاج لإظهار قوتنا”ص183.
إزاء هذا الذكاء الاجتماعي في تفسير ” ثقافة القوة” و”ثقافة الراحة” من خلال لغة ” المشي” نجد مطهر فضل يرجو الله ما زحا” أن لا يعطيها أحدهم كتبا لكارل ماركس أو لينين ، لأنها بصراحة ستكون داهية سوداء ، وقد تتسبب بانهيار الرأسمالية البدائية في هذا البلد!”ص183.
في التقاط فوتوغرافي لدوافع بعض المناضلين للظهور بمظهر البطولة، يورد المؤلف على لسان وكيل النيابة :” أعرف جيدا هذه الألاعيب الصغيرة، وأن البعض يبحث عن الإثارة ويضع نفسه في صدام معنا لكي يقال عنه مناضل ، ولكن الأمر تجاوز حدود سلطاتي…”ص188.
ثم يخاطب (مطهر فضل ) نفسه ،قائلا: ” طوال الطريق إلى الحديدة انشغل ذهني بالتفكير في سلسلة الأخطاء المشؤومة التي تقع فيها السلطة ، والتي بسببها يتحول نفر من الأغبياء إلى أبطال في نظر الشعب ، ربما كنت أشعر بحسد طفيف تجاه سلام مهدي وزميلها حسين البطاح…إنه شعور غريب ، أيُّ نفس هذه التي أحملها بين جنبي!.”ص190.
هي ليست جينات البطولة والفروسية لدى أجداده كما يفسرها ، لكنها جينات النضال المكتسب لدى الأب ، الذي ظل السارد الداخلي يحاول أن يكبتها ، محاولا استبدالها بقيم المجتمع الاستهلاكي، والانخراط في مستنقع المؤامرات الدنيئة، والصحافة الكيدية التي يمثلها رئيسه في العمل ( رياض الكياد)…
و ظيفيا لا أجد دلالة لتوجيه “رياض الكياد” رئيس تحرير جريدة ” الشعب” لمطهر فضل- في سياق البحث عن مكيدة يوقعون بها بالقاضي طاهر الدرّاك – لا أجد وظيفية بنائية لذلك التوجيه، الذي أمره فيه بالذهاب إلى ” مطعم السكارى” فالذهاب إلى هناك لم يكن سوى فاصل للاسترخاء والاستمتاع بالمفارقات الضاحكة للسكارى ، وانتهى الحديث سرديا عن القاضي طاهر الدراك بعزله دون مكيدة تُذْكر في متن الرواية!
لا تختلف دوافع مطهر فضل ومشاعره المتعاطفة مع فتحية ، سكرتيرة ” رياض الكياد” فهي في الثلاثينيات من عمرها، وبسبب فقرها تشبع رغبات رئيسها في العمل “تسكن في حي فقير جدا ،والبيت الذي خلفه لها والدها المتوفى كان شعبيا ، ومكونا من غرفتين وحمام ومطبخ. كانت بكر أبيها ، وهي التي تعول أسرتها منذ وفاته. قمتُ بمناورة لكي تنزل من السيارة إلى عتبة بيتهم مباشرة لأن المجاري كانت طافحة ، والشارع صار بحيرة..”ص239
لم تكن مشاعر (مطهر فضل) المتمزقة بين عالمين وفكرتين مشاعر شفقة تجاه ” فتحية” وما تعيشه كضحية لعالمين متناقضين فحسب وإنما كان شعورا يصف به نفسه وما يعانيه من انشطارات وجدانية تدفع به نحو التلاشي ن والانسحاب عن طريق الموت المعنوي، والذي يجد ملاذه بموته أثناء عودته إلى جذوره القبيلية ، في طريق عودته نحو تلك الجذور تكون وفاته بحادثة اصطدام سيارة الركاب التي كان يستقلها ، فكانت رحلته بدلا من عودته إلى رحم القبيلة عودة إلى رحم الطبيعة ، ولوجا إلى الموت من خلال بوابة الأسطورة- نجاة من مأزقه النفسي ، وانشطاره بين عالم وقيم اليسار المتجسدة بأبيه وبين قيم المجتمع الاستهلاكي الذي لا يرى في الإنسان سوى سلعة يتم تثمينها بما يملك من مال وجاه ونفوذ، في مجاورة للثقافة السلطانية وثقافة السوق!
يتوقف ( مطهر فضل) عند بسطة إحدى المكتبات ليجد جريدة ” النضال” التي سطا عليها بقوة السلطة –مكدسة وبائرة، ويلمح ” نسخة مهترئة متآكلة الأطراف من كتاب تذكاري عن والدي ، انتابتني مشاعر متناقضة ، ثم حسمت أمري واشتريتها”ص247.
دلالة “الاهتراء” والتآكل ليست للأب البيولوجي فحسب ، وإنما لرمزيته اليسارية ، فالكتاب طبع قبل عشر سنوات ، بمناسبة حفل تكريم لأبيه أقامته أحزاب المعارضة…