- جمال حسن
عن عمتي التي أجللتها أكثر من أي شخص أخر وأصبحت في حكم الغياب السريري:
غادرتُ القرية وأنا في الرابعة والنصف من عمري بعد أكثر من عام على انفصال والديّ. وفي طريقي إلى تعز شربت أول زجاجة مشروب غازي في حياتي. وطوال الطريق كنت افكر بـ “صندقة” عمتي في تعز، شقيقة والدي الكبرى.
ولأنها أرسلت لنا مرتين أو ثلاث مرات حلوى فاخرة أو كعك أتذكرها في علبة بنفسجية؛ فكرتُ أنها تمتلك دكانة. وحين رأيتها باشرتها بالسؤال: معك صندقة؟
ضحكت وهي تشاهد سذاجتي البريئة، وظلت دائماً تذكرني بتلك اللحظة أو تشاركها مع الآخرين بحب عني. كنت ألاحظ الفرح في عينيها وهي تشع بابتسامتها الجميلة، كما لو كانت ساعة ولادتي التي ستربطني بها إلى درجة وثيقة. تبنتني وشقيقتي، هي وعمي زوجها القاضي عبدالله عبدالوهاب الشلفي، الرجل الرفيع المكانة دائما.
ربما لا يوجد شخص ترك أثراً في حياتي كما هي. ظلت تحرسني مثل الملاك في كل لحظة، وحتى في الحي إن حاول أحدهم مسي يندلع صوتها فجأة من النافذة: كانت تراني طفل غير قادر على حماية نفسه. وهذا الحب جعلني أيضاً محل تقريعها اللاذع، لاعوجاجي أمام لوائحها شديدة الانضباط. كانت تتمتع بشخصية قوية، مزاج سيدة آمرة، كان علينا جميعا أن ندور حولها؛ وهذا ما كنا عليه بالفعل.
وكذلك هذا ما أرادتني أن أكونه، أتمتع بتلك الشخصية التي تحدد ما يتوجب على الآخرين القيام به: إذ كانت تنهرني غاضبة وهي تُلح علي بالجلوس إلى جوار عمي لأتعلم منه مهنة القضاء. وكأنه يتوجب علي أن أرث السلطة الناعمة التي تمتعت بها عائلتنا في مسقط رأسي.
وما أمتع أسلوبها في الحكي لا يضاهيها أبرع الحكائين، حين تكون في مزاج رائع تلون ساعاتنا بطُرفها، تعليقاتها وملاحظاتها الدقيقة وتهكمها الذي علمني كيف أضحك على النكتة حتى وإن كنت موضوعها، لأني كنت موضوعاً لكثير منها. في الأمس أخبرني عمي الفاضل أنها في موت سريري.
عجزت عن الكلام ومازلتُ أبكي مثل طفل، وكانت صورتها فقط لا تفارق عيني يدها على شعري، صوتها العذب، حتى وجهها الحزين والغاضب مني، حضورها بجوار الطفل ثم الرجل الذي أصبحته.
فعندما أخذت طفولتي مجرى مأساوياً، بعد انفصال والديّ، كنت دائماً مميزاً ولها دور في ذلك، فالآخرين كانوا ينظرون إلى وجوه سعادتي؛ حبها الحنون، مظهري الذي جعلني محسوداً بعض الشيء، طفولتي الميسورة. هكذا كنت اعطي انطباعاً بأني وحيد امي، أو فتى مدلل.
وكانت عمتي تقف عندما ركضت وأنا أسألها عن الصندقة. لكنها منذ سنوات لم تعد تُذكرني بتلك الحادثة، بعد مرضها، ثم أصبحت بالكاد تتعرف علي، بينما خذلني عجزي، حتى أصبحت في هذا الحال. تلك المرأة التي كانت تأمر؛ وتجعلنا جميعا ندور حولها، بشخصيتها القوية واقناعنا سواء كانت حججها قوية أو لا، لأنها هي الحُجة. ثم بما ستفيد احزاني.