- جمال حسن
فتحت الموسيقا الهارمونية آفاقًا واسعة للتعبير الموسيقي، وكانت بمثابة اعلان مبكر عن ولادة الحضارة الغربية بالصورة التي نعرفها اليوم. فظهورها خلال القرون الوسطى كان استثناء عقلانيًّا وسط كثير من البدع والغيبيات التي اتسم بها ذلك العصر.
شكلت الحضارة الإغريقية الموطن الأول للفلسفة والمسرح، أما الموسيقا الهارمونية بحسب الدلائل المؤكدة فنشأت في غرب أوربا. ما يجعلها محورية بالنسبة للغرب، وذات أثر في تشكل الهوية الثقافية الغربية لما بعد سقوط روما، كما اصبحت مفتاحاً لتفردها. لكن هل سبق للهارمونية الظهور خارج اوروبا، قبل ان تصبح تعبيراً عن الغناء الكنسي والموسيقى الدنيوية هناك؟
لا يقتصر تفاخر الغرب بالموسيقى الهارمونية باعتباره انعكاس لتفوق حضاري، إنما تم تكريسه كتنميط لتميز النوع او العرق. وهذا الإحساس العميق بتبني تراكيب موسيقية معقدة، شكل حافزًا للتقليل من ثقافات أخرى، فيكفي وصم الموسيقا غير الأوربية بأنها تخلو من الهارمونية، كمثال على عدم التحضر.
عرف الغرب الموسيقا الهارمونية متعددة الأصوات، خلال القرون الوسطى؛ حقبة ركودهم الحضاري. والمثير للتساؤل هو؛ لماذا لم يستخدمها العرب في وقت كانوا أكثر ازدهارًا؟
ومع أن العرب وقبلهم اليونانيون، وربما حضارات سابقة، عرفوا بوجود التوافق اللحني بين نغمتين أو أكثر على بعد رابع أو خامس أو أوكتاف كامل، الا انهم لم يستخدموه كنظام في التأليف الموسيقي. على خلاف ذلك نظم الغرب قواعد لحنية صارمة افضت الى تطور الموسيقى ا لهارمونية. إذ ان الفوارق الحضارية تحددها انماط تنظيمية.
يُعتقد أن بداية استخدام الموسيقا متعددة الأصوات كان في غرب أوروبا خلال القرن التاسع الميلادي. يشير كتاب «مدخل إلى الموسيقا» إلى وجود دلائل على استخدام الهارمونية قبل ذلك الوقت، لكن ما أصبح متعارفًا عليه أن بداية التدوين الموسيقي لخطوط لحنية مستقلة ومتزامنة على بعد رابع أو خامس هو بداية الموسيقا الهارمونية. ومع اعتماد معظم الثقافات على الانتقال الشفهي للموسيقا، وعدم ظهور تدوين يحتوي على توافق صوتي، فإنه يقلل من أي فرضية تتحدث عن ظهور الهارمونية خارج أوربا.
ويعيد الفيلسوف النمساوي كارل بوبر نشوء الهارمونية إلى الأغلاط التي كان يرتكبها الأفراد أثناء غناء الجوقة في الكنيسة. وأدى ذلك إلى تنظيم الأصوات في خطوط لحنية متعددة الأصوات، في وقت كانت الكنيسة تعاقب على الأغلاط.
عبرت الموسيقا عن روح الإيمان في نظر الكنيسة، وكان لذلك علاقة بتبني الهارمونية في الغناء الكنسي. وربما بحثت الكنسية في غرب أوربا عن أشكال تعبيرية تميزها عن الكنيسة الشرقية، التي نقلت عنها كثير من الألحان، بعد سلسلة من الخلافات أنتجت الانفصال الكبير في القرن الحادي عشر. فمع انهيار روما سقط الحاجز الذي قسم الغرب إلى برابرة ومتحضرين، وساهم في ترابط الجزء الغربي من أوربا، نتيجة اكتساح قبائل الشمال إيطاليا وبلاد الغال وجنوب أوربا.
غير ان الهارمونية لم تأتِ عن طريق المصادفة أو الأغلاط، فمن الممكن حدوثها بصورة طبيعية في الأشكال البدائية عند إنشاد أفراد القبيلة، نتيجة اختلاف طبقات الصوت بين الشباب وكبار السن. ويمكن حدوثها أثناء غناء رجل وامرأة، لينتج عنه بُعد أوكتاف كامل.
وفي أوربا شكل ظهور الأورغانوم البداية الفعلية للهارمونية، وهو اللحن المُصاحب والمستقل عن اللحن الرئيس. بدأ الأورغانوم في لحن يشبه اللحن الرئيس على أن يبدأ من درجة منخفضة على بعد رابع أو خامس. ثم تطور إلى لحن مستقل أو مجموعة خطوط لحنية مستقلة عن اللحن الرئيس تتصاحب بتزامن يشكل نوعًا من التوافق.
وبصورة مختزلة يمكن تعريف الهارمونية بأنها “التركيب المتزامن لصوتين أو أكثر”. وظهر تعريف مبكر للهارمونية ينتسب إلى الراهب إيزيدور الإشبيلي الذي عاش في القرن السادس الميلادي؛ بأنها ارتباط الأصوات الخفيضة بشكل مباشر مع الأصوات المرتفعة لتعطي أصواتًا مشتركة في الوقت نفسه. بما يعني أنه كان هناك معرفة للهارمونية في ذلك الوقت، ما لم يكن التعريف أضيف لاحقًا على كتابات الراهب الإسباني، وفي مرحلة كانت الكنيسة تعمل على تعميم النظام الهارموني.
فالهارمونية شكلت سياقًا تعبيريًّا، بما يتلاءم مع تصور الكنيسة. ووفقًا لمقولة القديس أوغسطين، كل شيء في العالم يحمل معنى خفيًّا. وفي المرحلة التي اكتسحت فيها القبائل الإسكندنافية أوربا ودمرت المدن، بدت القرون الوسطى غائمة، وكان العالم في تصور فلاسفة اللاهوت في أوربا يموج في ظلال خفية، لتجسد الهارمونية بخطوطها اللحنية ظلالًا تصوغ ذلك المعنى بطريقتها.
لعبت الكنيسة الغربية الدور الأبرز في تنظيم الأصوات الهارمونية من خلال الجوقة المؤدية للقداسات والتراتيل. وجعلته قاعدة عامة لأي أسلوب موسيقي أو غنائي في أوربا. أي أن ظهور الهارمونية يعود بدرجة أساسية إلى استبداد الكنيسة وسلطتها التي صاغت نظامًا موسيقيًّا عامًّا. كما استبعدت كثيرًا من المقامات، لأنها من وجهة نظرها تثير الشهوات والخطايا، لتكتفي بسلمين موسيقيين هما الماجور والمينور.
ساهمت سلطة الكنيسة الروحانية والزمنية وتدخلها في كل شؤون الحياة في تعميم تلك الأنظمة الموسيقية على الغرب وتوحيد مضامينها. غير أن صراع السلطة الدينية مع الدنيوية اتاح طريقاً لتطور الموسيقا متعددة الأصوات. فالكنيسة حرمت مصاحبة البُعد الثالث والسادس في الموسيقى الهارمونية، وللنشاز الناتج عنه، بدا للكنيسة بمثابة صوت شيطاني. لكن بعض موسيقيي القرن الثالث عشر والرابع عشر خالفوا تلك التعليمات، ووجدوا الحماية في بلاطات فرنسا وبعض مدن ايطاليا.
ولعب الموسيقيون الفرنسيون الدور الأكبر في تطور الموسيقا متعددة الأصوات منذ القرن الحادي عشر حتى الرابع عشر، ثم حل الايطاليون مكانهم على مشارف عصر النهضة. ومن الناحية العملية لا يمكن تحديد منشأ الهارمونية إن كان في إيطاليا أو فرنسا، أو حتى إسبانيا. غير ان هناك حديث عن وجود مؤثرات عربية جاءت من اسبانيا عبر انتقال اشكال لحنية الى اغاني التربادور. وهي نمط من اغاني الرعاة ظهرت في فرنسا وتحديدا بعد محاولة شارلمان للسيطرة على شبه الجزيرة الايبيرية. ويمكننا التطرق إلى السفارات المتبادلة بين هارون الرشيد والملك الفرنسي شارلمان، والذي استمر بعدهما بين بلاط بغداد وبلاط الفرنجة، في ما إن نتج عنه مؤثرات حضارية وربما مظاهر موسيقية، مع انه لا وجود لأي دلائل تشير لذلك.
غير ان كتاب الأغاني للأصفهاني ذكر على لسان ابراهيم المهدي، شقيق الخليفة هارون الرشيد، أن الشيطان ألهمه لحنًا ومصاحبته. ما يُعتقد انه ربما قصد بالمصاحبة نوعًا من التوافق الصوتي. وهذا ربما يعطي انطباعاً عن إمكانية حضور اصوات موسيقية توافقية في الموسيقى العربية باكراً. تحدث الفارابي بصورة أكثر دقة، اذا تعددت الاوتار فإنها تحتاج إلى مصاحبة، والمصاحبة بمعنى تجاوب الأصوات.
تضمن الفصل الثالث لكتاب صفي الدين البغدادي، الذي عاش في القرن الثالث عشر، «عن الأدوار» إشارة إلى الأبعاد المتوافقة، بحيث إذا اتفقت نغمتان وضربتا في الوقت نفسه «كانتا كأنهما نغمة واحدة وقام كل منهما مقام الأخرى في التأليف اللحني». واشار إلى بعد الرابعة والخامسة والأوكتاف والأخير أسماه «البعد الذي بالكل». ومن المحتمل أن تكون الموسيقا العربية شهدت هذه التوافقات بصورة محدودة في الزخارف، أو نوع من الكوردات، أي الضرب على نغمتين أو أكثر في وقت واحد.
في مقالته «موسيقا الشرق الأوسط وآلاتها» يشير علي الشوك إلى إمكانية ظهور البوليفونية في حضارات قديمة، لافتًا إلى ما أشارت إليه رسوم مصرية لعازفي قيثارات متماثلة الحجم يعزفون على درجات مختلفة. الأمر نفسه في نقش يتحدث عن استقبال فاتح آشوري في بلاط عيلامي يعود إلى 650 ق. م ويظهر فيه سبعة عازفين يجس كل منهم على وتر مختلف.
مع هذا ليس بالضرورة أن يكون المغزى من الصورتين، وهو محاكاة واقعية، تعبيرًا عن استخدام التوافق الصوتي في ذلك العصر، إنما كان ربما على علاقة بتعبير درامي عن تعاقب الأنغام أو تسلسلها، أو تصويرًا لسلم اللحن.
كان لاستخدام الهارمونية في الموسيقا أثر مماثل لاستخدام المنظور في فن التصوير، إذ منحت التراكيب اللحنية كثافة ومساحات أوسع. غير ان الهارمونية ولدت من رحم تعسف السلطة الدينية، كما ان ارساء تلك القواعد الصارمة في الأساليب اللحنية هو الذي شكل الفرق بين ثقافة وأخرى.