- كتب: محمد البكري
مفتتح:
حين نتحدث عن العلمانية أو الاشتراكية أو الديموقراطية على أنها الحل الذي يجب أن يكون، نغدو من حيث لا ندري امتداداً لذهنية وعظية غالباً ما يصفها بعض المثقفين بالفصام عن الواقع.
أي أننا نكون رهائن ذهنيةٍ ترى الحل ناجزاً وجاهزاً وتنسى تفاعل الواقع وحركته واشتراطاته وتغيراته وتحولاته وإبدالاته.
وهذه الذهنية الرومانسية تثبِّتُ في المفهوم بُعداً يقينياً يجعل المفهوم فوق التاريخ، وتسوره بوثوقيةً لا ترى المستجدات و لا ترصد ما يتناسب مع الواقع.
ذهنية حالمة تتعالى على حقائق الواقع وتقسر عليه ما هو مثالي في الذهن أو يُخيل لها أنه مثالي.
وهذه الذهنية مدفوعةً بضيقها من الواقع وعجزها عن مواجهة مشاكله تذهب إلى القفز عليه، وتحاول استبداله بمفاهيم تظنها خَلاصية أو معصومة من أخطاء التجربة البشرية!
فهي لا تقرأ الواقع وتعمل على تفهم شروط تغييره من داخله، وإنما تعمد لاستجلاب ما تتوهم أنه الحل. أو تذهب للمقارنة بين واقعين غير متناسبين وتأخذ من أحدهما نموذجاً للآخر، غير عابئة بمحاذير مثل هذه المقارنة، وغير متنبهةٍ لتداعياتها، وسوء مآلها. وتقع في المجازفة التي لا تتوفر على الحد الأدنى من النجاح.
وبالنظر لما ينشط بين آونةٍ وأخرى من تبشير بعددٍ من المفاهيم أو تسويق لها نجد أن معظم ما يقال لا يلتفت لطبيعة المفهوم، وحدود المفهوم، وتأريخ المفهوم، وبيئة المفهوم…إلى غير ذلك من العوامل التي تسهم في فاعلية المفهوم الذي تنادي به.
ويصبح التعلّق بهذا المفهوم أو ذاك تعلقا مَرضيا ينتج هذيانا وتفاعلا شعاراتيا.
والواقع لا تُغيّره المفاهيم والشعارات بمجرد تبنيها أو اسستنساخها، ولايمكن أن يكون الأمر قصا ولصقا.
المفاهيم بحاجة إلى مؤسسات تعيها وتوظفها وتحسن استخدامها وتنميتها وتطويرها وحمايتها من اليقين والعمى وسوء الاستخدام!
- هل يمكن أن تكون العلمانية حلاً ولماذا؟
ربما توحي صيغة السؤال أن الإجابة تفترض نعم أو لا .
ثم تقتضي التبرير لهذين الخيارين، ومضمون هذه الصيغة ورد كثيراً في عددٍ من الكتابات العربية بدءا من كتابات عصر النهضة، ومطارحات محمد عبده وفرح أنطون، ومروراً بسلامة موسى وزكي نجيب محمود و محمد عابد الجابري وحسن حنفي و جورج طرابيشي وفرج فودة ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسفر الحوالي والمسيري وجابر عصفور إلى يومنا هذا .
وكل مرة كان الجدل حول العلمانية ينشط ثم يخفت ولكنه في كل مرة لا يقدّم جواباً واضحاً ولا تعريفاً مانعاً جامعا، ويظل مفتوحاً على احتمالات وتصورات محفوظة، وعبارات مسكوكة توجه أقلام المتجادلين حوله وعنه، والزاهدين عن الجدل فيه.
وغالباً ما تكون آراء المتجادلين منصرفةً إلى مقايسات تاريخية لا موضوعية.
وما أكثر ما تكون معنية بالتفنيد أو التمجيد أكثر من كونها معنيةً ببسط القول في المفهوم وما يحتاجه ليصبح فاعلا.
كما لا تنظر في حدود فعله ومقتضيات استدعائه، وبدائله في حال تعذرت الإفادة منه.
وغالباً ما يأخذ الجدال شكل الشتيمة والتبخيس للعلمانية أو شكل التقديس والأسطرة.
بالعودة إلى السؤال: هل يمكن أن تكون العلمانية حلا؟
لعل هذا السؤال يقتضي أن يُصاغ على نحو آخر فيقال: متى تكون العلمانية حلاً ولماذا؟، لأن “متى” تزَمِّن المفهوم وترفع عنه هالة المُطلق، وتوحي بظرفيته، وتجعل صلاحيته مقيدةً بشروط.
ولكن في ضوء كل ذلك علينا أن نعود للنقاش حول المفاهيم عموما، لنقرر أن المفاهيم لا تعمل بذاتها ولا تلتزم حالةً من الثبات.
فالمفاهيم ليست قوالب جاهزة، وتنميط المفاهيم يفقدها فاعليتها، ويحولها إلى شعارات جوفاء ومقولات مستهلكة.
ولعل من نافلة القول: إن اتساع المفهوم دال على حيويته، كما إن حيوية المفاهيم هي إحدى مشاكل ضبطها.
وثبات أي مفهوم يعني دخوله في عداد الموتى؛ ليصبح ذكره من قبيل تقليب الإرشيف، وقراءة تأريخ المفردة معجميا.
فالمفاهيم المتداولة بكثرة لا يمكن ترسيم خارطة حدودها؛ إذ تكتسب كل مدةٍ أرضاً جديدة،ً أو تخسر من وزنها المعرفي، وتأتي عليها كثرة الاستهلاك بالسأم. كما قد تزيد من اشتداد الطلب عليها.بل إن المفاهيم تصبح في سياق التداول سلعا قد تكون رديئة أو قديمة، كما قد يشتد الطلب عليها لتوّهم جودتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان!
- الولع بالمفاهيم:
هناك من يقول: ” العلمانية هي الحل”،وهو لايدري أنه كمن يقول: الإسلام هو الحل”كلاهما يتحدث بيقين، كمن وجد الحقيقة، وأصبحت ملك يديه يتصرف بها كيف شاء!
وغالباً ما يكون القائل واقعاً تحت تأثير ما قيل له هنا أو هناك، أي أنه من ضحايا التلقين، وقد تواطأ على وعيه ومارس الكسل الذهني واكتفى بما يسمع، “ويحه كالببغاء عقله في أذنيه”.
وحول ولع بعض الذهنيات بمفاهيم بعينها ترى فيها الحل السحري، والخلاص العاجل.
لنقرر أيضاً أن تلك الذهنيات-على اعتبار أنها تبحث- تقرأ الكتب أكثر مما تقرأ الواقع، ولا تعمل على تحرير المفهوم من شروط ارتهانه لتاريخته بحسب ما تعرضه الكتب.
ولا تعمل على فهم المفهوم وتلمّس نسغ الحياة فيه.
وهذه القراءة تصبح لا تاريخية لكونها تريد أن تزرع المفهوم في تربة واقعها قبل أن تفحص واقعها وترى مدى إمكانية تقبله للمزروع، فضلا عن إمكانية أن يطرح الثمر. ولربما بسببٍ من ذلك جاز القول إن هذه الذهنية يغلب عليها التوهم أكثر مما يغلب عليها الحلم بتغيير الواقع.
وهي لذلك تتجاهل أن المفاهيم تحتاج لتبيئة وتتجاهل أن الواقع قد ينتج مفهومه الخاص، أو يعمل على تهجين المفهوم الذي يُستزرع فيه. وتتجاهل أن الفعل يبدأ من جدلية الحاجة مع الواقع، ومن ثمّ يعمل الفكر وينتج متطلبات المعالجة لسد الحاجة بحدود ما يسمح به الواقع.
وتنشأ علاقة جديدة بين المفهوم والواقع تعمل على تسييق المفهوم، فتمنحه دلالة جديدة، وربما تحتاج أن يطلق عليها مصطلحٌ جديد.
بمعنى أن الفعل لا يبدأ من تصورٍ قَبْلي للحل، أو مقايسة بالغير، تشترط التطابق والتماثل التام، وبمعنى آخر إن تمثّل المقولات لا يكفي لحدوث الفعل.ونجاح التجربة.
ولذا لابد من أن نُخلِّص المفهوم ـ أي مفهوم ـ من غواية التعميم، وسلطة المطلق والرغبة في الكمال، ونعيد معاينة الواقع وتحليله بعيداً عن سلطة المُسلمات والمقولات، والنشوة بالشعارات، فسوء التوظيف لمفهوم ما ينشأ من إغفال دراسة الجدوى، كما ينشأ من مَركزة نموذجٍ بعينه ومحاولة استنساخه كما يتصوره الذهن لا كما يمكن له أن يكون في الواقع.
أو كما تغرينا به تجربةٌ ما هنا أو هناك، في هذا المكان من العالم أو ذاك، أو كما تقربه لنا قراءة مدرسية لتاريخ المفهوم.
ومن هنا تصبح المفاهيم مجاهيل بدلاً من كونها معالم في سياق إنتاجها. ولننظر في العلمانية، فسنجد أنه مجرد مصطلح اكتنز بعدد من الدلالات وتحركت تحته عدد من المفاهيم وفق ظروف وسياقات تاريخية واجتماعية، واقتصادية وسياسية… إلخ.
ومن المعلوم إن بريق هذا المصطلح يغزونا بفعل قراءاتنا لتجارب تاريخية رفعته شعاراً ومارست تحته عدداً من المعالجات التي قد لا تكون بالضرورة علمانية، فأكسبت المفهوم سمعةً تسويقية، وربما جنت عليه وأدخلت عليه ما ليس منه، فحُسِب عليه، وشاع وذاع على أنه منه.
ولو نظرنا في التجربة العلمانية لكمال أتاتورك سنجدها لم تكن علمانية إلا بمعنى ما، أو في بعض جزئياتها.
وربما أقله فصل الدين عن الدولة، أو تحديد فضاء الدين وتوسيع فضاء الدولة، أو لنقل تنظيم العلاقة بين السياسة والدين.
وعلمانية أتاتورك لا كما يتداولها الإعلام أو ما تشير لها الكتابات التعريفية؛ فمعاينة تجربة الرجل تؤكد أنها لم تكن علمانية بإطلاق- أقصد بحسب ما يشاع عن العلمانية من أنها الفصل التام بين الدين والدولة- فقد حفظت سلطة أتاتورك للدين مكانته في المجتمع، ومنعت المشتغلين به من استثمار السلطة الروحية للدين ومد ظله على حساب الفضاء العام.
وهذا يعني أن سلطة أتاتورك لم تلغِ الدين كما تدّعي في عالمنا العربي. بعض الكتابات المتسرعة عن العلمانية.
وقد كانت لهذه التجربة السياسية جوانب أخرى ديكتاتورية وليبرالية وميتافيزيقية إلى جوار بعض الممارسات المحسوبة على مصطلح العلمانية. لكن على التغليب الذي ألتزمه الخطاب الإشهاري لهذه التجربة راج عندنا نموذج العلمانية وكأنها كانت الحل لتركيا !
رغم إن الأمر قد يرجع في جوانب عديدة لشخص كمال أتاتورك نفسه، ولسلطويته ورؤيته لإدارة مجتمعه، وشدته وحزمه؛ بدليل أن علمانية تجربة أتاتورك لم تستمر فيمن تلاه من حكام تركيا.
ورغم إن الجيش التركي تدخل أكثر من مرة لفرض سلطته وتقويض حكومات منتخبة بدعوى حماية نموذج أتاتورك، ولكن هذه السلطات التي أدّعت أنها امتدادٌ لأتاتورك لم تُحدِث التنمية التي أحدثها أتاتورك وتسببت هذه الانقلابات العسكرية في تراجع الحلم الأتاتوركي ونشأ عنها تردي الاقتصاد وتفشي الفساد، فهل نحسب ذلك على العلمانية؟ أم نحسب ذلك على أتاتورك؟ أم نحسبه على سوء الإدارة و سلطوية العسكر؟
وبالمثل نجد أن العلمانية في الدول الأوربية لم تنقذها من الحروب العالمية، بعد أن كان الدين يحرك حروبها الصليبية ويجيش الجيوش تحت راية الكنسية، ففاشية موسوليني كانت علمانية صرفة.
وبالمثل نازية هتلر وشيوعية ستالين.
وكل تلك الأمثلة وغيرها تدل على أن العلمانية ليست الحل- كما إن الإسلام أو أي دين آخر ليس هو الحل- فالفصل بين الدين والدولة لم يكن كافيا لجلب الأمن والسلام لتلك المجتمعات.
ولم يكن كافياً لمنع تغوّل الاستبداد والتسلط والديكتاتورية والقمع، وكان لذلك الأمر عواقبه الفادحة التي شهدها العالم في حروب عالمية خلّفتْ ضحايا بالملايين! ولا ندري هل يصح بعد ذلك أن ننسب كل ما سفك من دماء للعلمانية أم لسوء استخدامها. أم للشر البشري الذي لا تنفع معه حضارة المفاهيم؟ الشر الذي يلوّث ويعبث ويقتل ويتشدق بالديموقراطية حينا، وبالعلمانية حينا، وبالحداثة حينا آخر.
- بناء المفهوم: إن الوعي بالواقع ومتطلبات بنائه يقتضي إعادة بناء المفهوم في الوعي قبل أن يُفرض على الواقع، وإعادة بناء المفهوم تقتضي أن يكون المجتمع متوفراً على مؤسسات قادرة على بناء المفاهيم في أذهان متلقييها، وتوحيد آليات استهلاكها؛ ليكون المفهوم مُوحِداً لعموم المجتمع وناظماً لرؤيةٍ تحقق التعايش وصيغة قابلةٍ للتداول. -تحييز المفاهيم:
بمعنى وضعها في حيز محدود بالزمان والمكان، فتحييز المفاهيم مدخلٌ هام للوعي بها والعمل على تمثلها بحدود ما يتطلبه الواقع لا ما يقوم في الأذهان من تصورات وتفسيرات، وما يترتب عليها من مغالاة ومبالغة في تقدير المفهوم وكأنَّ السر الخارق للعادة يكمن فيه، وبمجرد اعتماده سيتغير الواقع.
ومما يشار إليه أيضا أن المفاهيم تصبح ذات فاعلية أعلى وأسرع في المجتمعات التي تعمل على تنمية استقلالية الفرد وتنشئته على تحمّل المسؤولية تجاه مجتمعه، وتقوم تلك التنشئة على التفكير النقدي، والبحث العلمي ليكون دور الفرد صادراً عن الوعي بواقعه ونابعاً من الحرص على تنمية الجانب الإيجابي في المجتمع، و الحد من أثر سلبيات الواقع سواءٌ كانت تلك السلبيات عاداتٍ أو تقاليد أو دين أو ممارسات سلطوية… إلخ.
ثُمّ لنسأل أنفسنا قبل أن نتنازع المفهوم أو نتنازع عليه، وندور حوله ونعلّق به الآمال، كيف بدأ المفهوم وكيف انتهى، وهل كل التوظيفات له ناجحة؟ وهل كل ما قيل عنه، وما صدر من تصورات في الستينيات مثلا، ما يزال صالحاً للعمل به في القرن الواحد والعشرين؟!
هذا على افتراض أن واقعنا صار مهيأً لذلك!
- المفهوم والإيدلوجيا:
أما لو راجعنا ما يكتب عن العلمانية في سياقها المعرفي؛ فسنجد أن عددا من دارسيها يقولون: إنها مجرد آلية قانونية لتنظيم علاقة الدين بالفرد والمجتمع والدولة. و من شأنها أن تحد من تغوّل سلطة الدين على المجال العام، بمعنى أنها لا تلغي الدين وإنما ترشده وفق منظومة قانونية. ومنهم من يقول: إنها تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، في حدود المصلحة الجمعية، فالدين ليس المشكلة وإنما التدين الذي يؤدلجه ويحوله إلى يقين، ويعممه ليصبح سلطة متغولة.
وبالمثل تكون المشكلة إذا تمت أدلجة العلمانية وتحويلها إلى دوغما، ويراد لها أن تصبح سلطة متغولة تعمل على إلغاء الدين أو مصادرة حرية المعتقد.
و يمكن إيجاز ذلك بأن العلمانية ليست أكثر من مصطلح لاقوة له في ذاته، ولايمكن أن يكون له أي جدوى إلا بتوفر شروط موضوعية في الواقع، مثله مثل الاشتراكية والديموقراطيةوالفيدرالية والجمهورية…إلخ.
وحين يصبح المفهوم – أي مفهوم- إيدلوجيا يبدأ بالتآكل بفعل ما تأخذه الممارسة من بريقه، وما تحيله عليه من سلبيات غالباً ما تكون في سوء فهم ممارسيها أو في سوء تصرفهم.
ويصبح المفهوم ضحية المتشدقين به،كما حدث مع الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. وكما حدث مع الليبرالية والديموقراطية في عدد من دول العالم الثالث والرابع التي ما تزال تحكمها الشموليات العسكرية وتلبس ديكتاتوريتها لباس العلمانية والحداثة والديموقراطية !
- استهلاك المفاهيم:
إن استهلاك المفاهيم في عالمنا العربي امتداد لولعنا بالاستهلاك لكل شيء من باب التقليد، وحب التباهي و مغالطة الذات وزعم التحضر، ولو كان لنا أي حظٍ من الصدق مع النفس، لراجعنا مقولاتنا وحررنا أحلامنا من سلطة التقليد للغير.
ولواجهنا أنفسنا بضرورة قراءة كل ما نتلقفه من مفاهيم في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
مع أن حاجتنا للفهم يجب أن تكون سابقة على ولعنا بالتقليد، والاستنساخ. “فما كل ما يلمع ذهباً”.
ثم لنعمل بعد ذلك على النظر في كيفية تحقيق النموذج الذي نظنه جيدا، دونما حاجة لتوثين المفاهيم وعبادتها، والاعتقاد بها إلى درجة الغياب عن الوعي بالواقع.
ولربما كان الأجدى أن نبادر لإنتاج مفاهيمنا من واقع وعينا بواقعنا، وخصائص هذا الواقع ومتغيراته وإبدالاته. فالمفاهيم صناعة بشرية واستهلاكها في ظروف معينة قد تكون له أضرار أكثر مما رجوناه من منافع.
ومن الجدير ذكره أن المفهوم الذي يُستهلك أداتياً ـ لا معرفيا ـ في غير ما صنع له، مثله مثل أي وسيلة أخرى، أو آلة أو تقنية يصبح مع الأيام خردة، بمعنى أن الواقع سيتجاوزه وسيجعله غير صالح للاستعمال؛ فحياة الإنسان في تدافع وتسارع.
وكثيرٌ مما كان يصلح بالأمس قد لا يصلح لليوم أو للغد.
وميزة المجتمعات التي نستورد مفاهيمها وسلعها أنها في مراجعة مستمرة للمفاهيم التي أنتجتها،ودائما تضيف وتحذف وتجري التعديلات والتحسينات بحسب متطلبات الواقع المتغيّر، ووعي الإنسان المتجدد بحاجاته ورغباته وتطلعاته.
وهي لا تتعامل مع المفاهيم كموضة أو تقليعات، ولا تستلها أو تجتزئها من سياقاتها وتحولها إلى إشكاليات.
بمعنى أن استخدامنا الخاطىء لأي مفهوم سيجني على المفهوم، وحينئذٍ سيصبح المفهوم خارج حقله. وقد يصبح مجرد شعار بائس، أو مجرد رهينة يعمل تحت إرادة المشتغلين به لا إرادة من أنتجه في سياقه المعرفي.
ولذلك لا يجب أن يكون الحلم بالتغيير من خلال الرهان على المفاهيم في ذاتها، وإنما من خلال تأهيل المستخدم وتدريبه، أي من خلال الرهان على مستخدميها ومدى وعيهم بخطوات الاستخدام وضرورات الاستخدام ومحاذير الاستخدام.