- كتب: العباس ناصر
مقدمة: يعطي جورج زيمل، الاجتماعي الألماني، للعزلة والحرية معنيين مختلفيين عن السائد. يذهب، بدقة وتركيز عاليين، إلى حيث اللا إنفراد بعلاقة العزلة والحرية معاً كحقائق اجتماعية.
ملحوظة:
- 1.النص الذي يتحدث فيه زيمل عن العزلة والحرية بكونها حقائق اجتماعية بترجمة سيرين الحاج حسين، المترجمة في موقع حكمة الشهير، مع تدخل بطريقة ما في اختيار مقاطع الترجمة.
- 2. نص زيمل، قريب أو بعيد عن “قبل أن أقتل رويداً، هو يشكل ما وجدته، كما أقرأ شخصياً، في الرواية بطريقة ما.
يقول زيمل: الحقيقة المجردة بكون أحد الأفراد لا يتفاعل مع الآخرين هي بالطبع ليست حقيقة سوسيولوجية، ولا تعبر عن مفهوم العزلة ككل.
إن مفهوم العزلة هنا لا يعني أبداً غياب المجتمع، بل تتضمن الفكرة وجود خيالي للمجتمع، ثم رفض لهذا الوجود. وكل ما في العزلة من مرارة ومن لذة ما هي إلا استجابات مختلفة لمثيرات اجتماعية.
العزلة هي تفاعل بين طرفين أحدهما يغادر بعد المرور بعدة مثيرات. والفرد المنعزل هو منعزل في واقعه فقط، أما نظرياً، أو بالنسبة للطرف الآخر، فإن هذا الفرد لا زال يمثل عنصراً حياً. يتابع زيمل: هناك حقيقة سايكولوجية ينبغي الإشارة لها هنا. الشعور بالعزلة نادراً ما يكون طاغياً أو حاداً. عندما يكون الفرد في حالة وحدة فيزيقية وليس حوله أحد، بعكس حين يكون هذا الفرد غريباً وبلا علاقات في وسط زحام من الغرباء القريبين فيزيقياً، كأن يكون في قطار، مكان مزدحم أو مدينة كبيرة. بتعبير زميل، فالعزلة ظاهرة أو حالة تحصل داخل الفرد، لكن في الحقيقة وجودها يتعدى داخل الفرد ويخرج ليتكوّن بينه وبين جماعة محددة أو بينه وبين الحياة مجملاً.
لكن لهذا أهمية اجتماعية أخرى، كما يكتب: قد تكون هذه العزلة إعاقة لبعض العلاقات بين شخصين أو أكثر أو حدث دوري فيها. لكن يزيد تأثير هذه العزلة بشكل خاص في العلاقات التي من طبيعتها في الأساس نفي العزلة. أما الحرية، بكونها حقيقة اجتماعية كالعزلة، يؤسس زيمل لها فكرة ما: إن نوعاً من الحرية التي هي في حقيقتها ليست إلا انعدام العلاقات بالآخرين، أو غياب القيود التي تفرضها العلاقات مع الآخرين. وبالنسبة للفرد الذي له علاقات بآخرين، فالحرية لها أهمية أكبر، وبالنسبة له الحرية في ذاتها هي علاقة بالبيئة، وظاهرة متلازمة تخسر جوهر معناها في حال غياب الطرف الآخر، أو النظير في العلاقة. وللحرية جانبان، يشكلان أهمية كبيرة لبناء المجتمع. الأول: هو كونها ليست حالة يمكن أن تتواجد دائماً بشكل يمكّن من ضمان بقائها، ولا يمكن حيازتها مادياً بشكل يضمن تحقيق حرية كاملة دفعة واحدة. الثاني: تختلف الحرية في وظيفتها وحقيقتها عن التحرر “الانعزالي” الكائن برفض العلاقات أو تحصن الفرد داخل مجاله الخاص عن المجالات المجاورة. وهذا بديهي، لأن الإنسان لا يريد أن يكون حراً فقط، بل أن يستعمل هذه الحرية لاستخدامات عدة وبشكل أوسع من نطاقه الفردي، وهذا الاستعمال للحرية هو في الحقيقة ليس إلا امتلاك سلطة على الأشخاص الآخرين أو استغلالهم بصورة ما. فالحرية تتمثل في السلطة والقوة في العلاقات مع الآخرين، في إمكانية جعل شخص ما معتبراً في علاقة ما، في التزامات الآخرين نحوه وإذعانهم له، مما يوجد تحديداً قيمة الحرية وتطبيقها. أهمية الحرية كشيء يختص به الطرف الحر، في أنها تبدو كنقطة تحول في الوظائف الاجتماعية له، حيث أن الحرية والطرف الحر هنا مبنية على حقيقة أن الشخص مقيد من قبل الآخرين ويقيد الآخرين أيضاً.
استعراض خارجي لرواية “قبل أن أقتل رويدا”، لمحمود ياسين، دار نينوى 2017:
لا يعطي محمود ياسين، الكاتب والروائي اليمني، مفاتيح نصه للقارئ. يخفي مفاتيحه ثم يظهر مفتاحاً واحداً في الصفحة 50 من روايته “قبل أن أقتل رويدا”، وما يلبث القارئ أن يكتشف شيئاً عن الحكاية حتى يجد نفسه مجبراً، ومكتوف الأيدي، على الاستمرار في القراءة. فهو يعمل، أي ياسين، مرة أخرى على إخفاء كل مفتاح يمكن تقديمه ثم، في نهاية المطاف، يفتح كل الأشياء ليجد القارئ قد قال في سره: أخيراً، وجدت حريتي. في نصه، كرواية أولى، “تبادل الهزء بين رجل وماضيه”، دار نينوى 2014، لا يتمكن القارئ من معرفة ما يريد ياسين قوله سوى في الربع الأخير من الرواية. في “رويدا” تسير السردية بالعملية نفسها، الجهد نفسه، والصعود نفسه. سبق لياسين أن قال إن “رويدا” ليست سيرة ذاتية، وهي بالطبع ليست سيرة ذاتية. لكن ياسين يحدث قراءه عن أن الروائي، أي روائي، لا يمكن له الافلات من وجود نفسه في النص الذي يكتبه. بطريقة أو بأخرى، يقول ياسين، يتواجد الروائي. يغيب عن القارئ اسم الراوي الذي لا نعرف له اسماً في الحكاية، لكنه يهمس في أذن القارئ قائلاً: يجب أن تبتلع النص بأكمله، فهو يمثل سردية لسيرة تفصح عن حكايتك لا حكايتي وحسب.
وسرعان ما يكتشف القارئ اليمني أن الراوي هو اليمني ذاته، وذاته هو اليمني. وسيكون على القارئ اليمني أن يعرف بعملية الابتلاع تلك أن النص هو حكايته بالفعل الذي غادر بها عزلته إلى الحرية، والأخيرين، أي الهروب من العزلة إلى البقاء على حرية هشة، عمليتين غير ناضجتين كنتيجة لا كفعل. فالحكاية بسردية متعبة تشكل نصاً شاقاً كالصعود إلى أعلى تل حيث الأسد الذي يجب النظر في وجهه ليتقهقر، لكنه لا يتقهقر كاملاً ويبقي على كثير من توازنه. يريد محمود ياسين أن يقول لنا إنه يسير في مشروع روائي، وعليه وعلى اليمني إكماله. لكن متى؟ ربما، عندما يتقهقر الأسد كلياً. ويعرف اليمني من “قبل أن أقتل رويدا” ما يجب عليه فعله ليقتل الأسد ويصلبه أعلى التل. يدخل الراوي في مونولوجات كثيرة، واستيهامات وتذكرت ما قبل قتله لرويدا، وما الذي حدث فيما بعد لكي يفلت من كل العذاب الذي حل به بعد قتله لرويدا للفكاك من عزلة تستمر لست سنوات. الزمن الحكائي يسير بين ماضي وحاضر الراوي نفسه، ويتنقل السرد برشاقة بين الزمنين نفسيهما في السطر الواحد، الفقرة الواحدة، والحلقة الواحدة. تستجد أشياء في حياة الراوي بعد أن قتل خطيبته رويدا تخرجه من عزلته الصاخبة باللاوعي.
في الزمن نفسه نجد زمناً محدداً ظاهراً للعيان: 11 فبراير، 2011. من الذي أخرجه من عزلته إلى فضاء يحتاجه أكثر من أي وقت مضى؟ يتمكن القارئ من معرفة العاملين الرئسيين: الثورة، والجنس. في البدء كانت ثورة 11 فبراير عاملاً كعلاقة مجتمعية على الراوي أن يخوضها، وفي النهاية جسد سارا الملحدة الذي يجعل القارئ لا ينام سوى بعد تذكره على الفراش، وكيف أنها راحت تتنازل عن إلحادها، لسبب ما، وهي تمتدح جسد الراوي بالجملة هاته: ما شاء الله، وسيم. كيف خرج الراوي، ابن قرية فلاح والذي انتقل فيما بعد إلى المشنّة وخليج الحرية وبيت سارا الملحدة الذي يحوطه رجال الأمن القومي، من عزلته بهذين العاملين؟ وحدها الحكاية تخبرنا. لم نعرف، بالضبط، أين راحت سارا، لكن الراوي كان قد فكر بالزواج منها ليرد لها جميل نبلها معه. هنا، على القارئ أن ينتبه لكل الإشارات: يعيش الراواي، الذي سيقوم القارئ على تسميته “اليمني”، فيما بعد هروبه من عزلته في حرية هشة، فقد وجد نفسه وودع عزلته لكن لم يجد مجتمعه ودخل في عزلة أخرى يمكننا تسميتها: عزلة المجتمع اللامدركة لما هو آت، المجتمع الذي لا علاقة بين أطرافه. ينتهي المطاف باليمني وقد وجد نفسه حراً، لكنه يمضي وحيداً داخل مجتمع يمتلئ بالوحيدين القاطنين معاً بعزلة مجتمعية لا فردية. لقد أنهى محمود ياسين روايته بطريقة شيقة: يمكنك فعل كل شيء، ويمكنك أن تروح بعيداً وتفكر باستخدام امرأة خمسينية كانت لا تروقك من قبل في عادة سرية. هنا، حيث لا أحد، أستطيع فعل كل شيء كما يحلو لي. لكن، ويا للغرابة ويا للأسف، بمفردي. وكان جديراً أن يأتي الخلاص الذي يقوده المجتمع ككل بعد أن يعرف كل ما هو آت.
ملاحظات عامة:
- 1. ألف: فيما أظن قمت بالكتابة عن الحكاية بشكل خارجي و”لم أحرق الحكاية”، بتعبير القارئ الذي ينزعج من ذلك الشيء.
- 1. باء: الحكاية تبدو للوهلة الأولى عادية، إذ هي حكاية يتحسسها كل يمني مع نفسه ولا يجد صعوبة في ذلك. بمعنى آخر: قصة مألوفة من قاع المجتمع، من الشارع اليمني. لكن كيف تجري الحكاية، وما وراء الحكاية؟ إنها عملية شاقة ومؤلمة. بخصوص يوميات الحكاية: يقول باختين، الروسي الذي يعلمنا أسرار الرواية، عن الرواية إنها قاع المجتمع. ومحمود ياسين راح يحاكي مجتمعه وسيجد القارئ في الحكاية يومياته التي تحاصره.
- 2. الكتابة تحضر فيها الأخطاء الإملائية هنا وهناك، مزعجة أحياناً وأحيانن تربك القارئ وتقطعه ليقول: هذه سردية فاتنة، يجب أن تكتمل إملائياً. نتذكر معاً ما قاله ياسين قبل سنتين، في النهاية هو صحفي يجيد الكثير من أسرار اللغة العربية، إنه يجد في ضبط الضاد والظاء وهمزتي القطع والوصل ترف وعادية. لا يتواجد إشكال في الضاد والظاء في الكتابة، لكن الوصل والقطع تتوهان في الكثير من الكلمات. ما يجب قوله هنا إن هذه الأخطاء الإملائية، بغض النظر عن كونها قليلة أو كثيرة، يتحملها محمود ياسين والناشر معاً. كان كاتب بريطاني يتحدث بشكل جدي عن حاجة كل الكتّاب، في الشرق والغرب، إلى التحرير الجاد. لا تحتاج سردية “قبل أن أقتل رويدا” إلى التحرير بقدر ما تحتاج إلى تجاوز الإملائية التي اتفقنا عليها في المدرسة الإعدادية. هكذا أتصور محمود ياسين: إنه يكتب بكسل شديد في ما يخص الإملائية. وربما حتى لو لاحظ في كلمة ما خطأ إملائياً لا يقوم بإصلاح ذلك ويروح، بكل برود، ليشعل سيجارة.
- 3. النص يسير بحبكة قوية وأحداث تلزم القارئ على البقاء. قد نجد نقصان بطريقة صريحة كما هو المعتاد في شكلية الرواية، لكن الكاتب يكتب سرية جديدة، بطريقته. وفي ما يبدو، كثيراً، كان ذلك عن قصد. إذ أن الروائي يريد القارئ، على سبيل المثال، اكتشاف اسم الراوي من الحكاية بطريقة ما، وصفاته وأشياء أخرى. ذلك ما يجعل كتابة ياسين متفردة. وما يجعل الرواية، كنص، تدخل في نطاق ما قاله باختين: الرواية الحديثة، تلك الرواية المفتوحة، في تصوري، التي لا يفرض عليها شيء بل هي من تفرض كل الأشياء.
انطباع عن النص، بشكل عام:
.. قبل أيام تحدثت مع محمود ياسين على ماسنجر، عن الكتابة وأشياء أخرى. قال ياسين متحدثاً عن أسلوبي في الكتابة إنني ككمبروفتش، الكاتب البلقاني، هو يقول عن نفسه: أنا مغوي متهكم ومتماجن وبهلوان، لا يسعني إلا أن أروق. ربما ما قاله ياسين صحيحاً وربما لا، لا يهم، حقيقي لا يهم. لكن، ولأن الناقد الأكاديمي قد مات والعمل جاري على حفل تأبينه يصبح ما يقوله المتهكم والمتعالي، أي متهكم ومتعالي، جنباً إلى جنب اللاعشوائية، أو لنقل: سلطة القارئ النقدية كانطباع شخصي يزعم أنه دقيق. سبق أن قلت إن محمود ياسين روائي عظيم. فعملية إعطاء المجد لياسين هي عملية تقنية لما أزعم ملكه من أسرار الرواية التي أحيط بها. إنني، بطبيعة الحال، وهذا يبغني التركيز عليه، أحيط بالرواية كقارئ شرس يجلس كهرّ لديه ستين عيناً كأزرار آلة. هكذا يبدو لي الأمر ولا أستطيع أن أتكهن بغيره: لقد جلس إله الرواية يضع ساقاً على ساق وقال إنه صنع الكثير من الروائيين. لكنه، بعد أن راح ينزل ساقه الأيمن عن الأيسر، رجع وقال إنه بالفعل صنع الكثير من الروائيين لكنه كتب القليل من النصوص الجيدة، الموجودة هنا وهناك. في تلك الأثناء التفت الإله إلى ياسين وراح الأخير يقهقه.