- محمد عبدالوهاب الشيباني
لم تشهدْ تجاربُ الشعريةِ المعاصرة في الأقطار العربية، خلالَ خمسةِ عقودٍ، حضوراً ثنائياً مكثفاً كما هو الحال في التجربة اليمنية؛ إلا إذا استثنينا ثنائية التجربة العراقية، بتمثيلات الرمزيْن الرائديْن نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، والتجربة المصرية بحضور صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، مع تمايزات فريدة تتكثف في أن الأستاذ عبدالله البردوني والدكتور عبدالعزيز المقالح في الحالة اليمنية، ظَلّا ولعقودٍ طويلةٍ يمثلانِ بوابةَ التعريف الشعري باليمن. فالأول بإحداثه الثورةَ التجديديةَ في قصيدة العمود وتطويعها كلغةٍ حيةٍ وموضوعٍ ورؤية، لتصير أكثرَ قرباً من مزاج القراءة، في وقتٍ ضمرت شجرةُ هذا الشكل برحيل آخر عباقرتها- محمد مهدي الجواهري؛ والثاني بتحوله، في مقتربات القراءة، إلى رمزٍ معرِّفٍ بالحداثة شعراً ونقداً في هذا البلد المُغيَّب.
بعد أكثر من ستين عاماً من محاولاته الأولى للانفلات من سطوة التقليد، لم يزل المقالح مؤمناً بعملية التغيير الثقافي، التي يمكن الدلوفُ إليها من الحداثة الشعرية ضمنَ وسائلَ متعددةٍ في الكتابة
حالة الثنائية هذه ظلت –ومازالت- المعرِّفَ الأهمَّ بالشعر في اليمن عند أكثر الدارسين والمتلقين في الداخل والخارج، وربما على حساب تجاربَ شعريةٍ مميزةٍ لازمتْ هذا الحضور أو أعقبته. ويَرجِعُ السببُ -عند كثيرين- إلى لعبة الهامش والمركز التي جعلت من اليمن هامشاً قَصِيّاً طيلةَ عقود عديدة، صَعُب معه اختراقُ ما يمثله هذا التنميط وتكريساته الذهنية عن هذين الشاعرين.
لكن إذا تمت المعاينة الآن لتجربة المقالح الشعرية والنقدية منفردةً، بعيداً عن متلازمة البردوني، بعد أكثر من عشرين عاماً من وفاة الثاني، وبعد التبدلات العاصفة في مساقات القراءة وانطفاء سطوة الأبوة، وتآكل مفاهيم الهامش بمحدداتها الثقافية، سنجد أن هذه التجربة لم تزل قادرةً على تقديم نفسها كصوتٍ منتصِرٍ للجديد الشعري إلى اللحظة، ليس بحمولات التبشير الذي عمل من أجله وجاهَرَ به قلمُ المقالح في التنظير للجديد والأجدّ فيما يكتب من نقدٍ، وفي تقديمه للتجارب الشابة بكثيرٍ من التفاؤل؛ وإنما في كتابة النص الشعري الخاص به، والتي كان آخرها ما نُشر هنا في منصة “خيوط” منذ أيام قليلة:
عُودي إليّ
كيْ يعودَ الماءُ
والفَراشاتُ
كي يعودَ الحلْمُ
ضوءُ الروح
والحزنُ الذي بداخلي
يصيرُ وردةً وماءْ
أنا هنا
تَغْبطني الطريقُ
يَغبطني الشارعُ
شُرُفاتُ منزلِ الحبيب
يحتويني ظلُّها
تَكادُ من أشواقها
تخْرُجُ من مكانها النوافذُ الزرقاءُ والستائرْ
(*)
ما بين برزخِ الحُبِّ
وبرزخِ الموتِ
مسافةٌ للفرَحِ الجديدِ
للصباحِ، ذلك الذي
ما عرفَتْ كمِثْلِهِ
وصوتهِ
الأيامُ والأحلامْ
أنا هنا …
يشدُّني ظِلّي
إلى الأرضِ
تشدّني الأرضُ إليك
يا ابنةَ السماءِ
يا نافذةَ الضوء…
الرجل الذي تجاوز عتبةَ الثمانين وقيَّد المرضُ بعضَ حركته، لم يزل يكتب النصَّ شفيفاً ودافئاً ومُحباً، بلغةٍ تنتصر للجديد، وبخيارٍ مضمونيٍّ قبل الشكلى يعظِّم هذه القيمة؛ إذ لم تعد كتابة القصيدة (البيتية) بالنسبة له وسيطَ توصيلٍ لمتلقٍّ يحتفي بالطنين ويرقص لتطريبه في زمن التعمية الطويل والقاتل. فبعد أكثر من ستين عاماً من محاولاته الأولى للانفلات من سطوة التقليد، لم يزل المقالح مؤمناً بعملية التغيير الثقافي، والتي يمكن الدلوفُ إليها من الحداثة الشعرية ضمنَ وسائلَ متعددةٍ في الكتابة، ومنها الدرسُ النقديُّ المُواكبُ لها، والذي كان ولم يزل المقالح عنواناً صريحاً لها.
أنا وغيري، من أبناء جيل التسعينيات الشعري “الشبان آنذاك والكهول اليوم”، ندين لهذا الرجل بالشيء الكثير؛ وهو الأمر الذي ينطبق على سابقينا ولاحقينا من الشعراء أيضاً، ليس لأنه احتفى بما نكتب بقدرٍ عالٍ من الحب، وإنما لأن الكثير منا لم يزل يتعلم منه القِيَمَ الفُضلى للتسامح، وكيف بإمكاننا تأثيث حياتنا بالشعر ومحبة الناس، مهما استبدّتْ بنا قسوةُ الأيام وتغوَّلَ رعاةُ الألم وصانعوه بداخلها.