- ضياف البراق
هو الرديء ابن الرديء. مع ذلك، يكره الأردياء من الرجال. موزّيكا رديئة هو. لكَمْ هو حزين لأنه لم يشرب عَرَقًا جيّدًا منذ اندلاع الحرب الأخيرة. يتعاطى قَاتًا رديئًا وسجائرَ رديئة ويعشق الرديئات من النساء وأغلب الأحيان يقرأ الكتب الرديئة وقد يتعاطف مع كل ما هو رديء. إنه يموت من رداءة هذا الوطن الذي يَردُؤ يومًا بعد يوم، والذي يُرْدِئ الحياةَ حتى يحيلها إلى محض يباب. الوطن هو مرضنا الجميل، إنه قاتُلنا الوجداني الذي لا ينام، هو سقوطنا اليومي في العشق الوهْمي الذي يضر ولا ينفع، هو العبث والسجون والمقابر والشعارات الكاذبة والمسافات الطويلة، هو هذا البرد القارس الذي ينهش حياتنا ويزيدها دمارًا، هو هذه الثقوب الكثيرة في لحم قلوبنا الجائعة. وطن أردأ من هاتفه المحمول الذي يعيشه به.
رديء. واهٍ. فارغ إلّا من الفوضى الصامتة. انكسرت الحرية بداخله فصار بلا شغف. وانكسرَ الأملُ في دمه وانطفأتْ شُعلتُه في عينيه. الوجود هو الشغف، والعدم فقدانه. يرجع إلى القاموس ليبحث عن المعنى الدقيق للشغف ولا يحصل عليه. فلنبحث عن المعاني في الواقع، هنا أمامنا في الحياة، لا في أمعاء القواميس الخاوية. القواميس ديدان تنخر معاني الحياة. كسرته امرأة قالت له لا تكتب بحزن، امراة تدعّي أنها جاءت لتسعده. كسره طفل جائع سأله أين الله. كسرته جميع التقاليد التي أسكنها دماغَهُ وأطعمها قلبَه. ربما الآن أصبح خفيفًا من بعض الأوهام السامّة. هو المزاجيُّ كالغبار. هو الهارب من الخَواء العاطفي. هو الدائر باستمرار في حلقة استفهامية مُفْرغَة. يقتله الشك ولكنه لا يُسْلِم نفسه لليقين. هو هذا الضوء المدفون في بئرٍ ظلماءَ ملأى بالأشباح والأقفال. حياته أضيَقُ من حذائه، وذاكرته خالية من الألوان. لكنه، على الأقل، ما زال ينتفض ضدَّ منابعِ الألم، يتحرّك، عُمْقيًّا، في كل الاتجاهات بحثًا عن المساحات المُطْلَقة التي تتناغم مع أفكاره وأهدافه ورغباته وانتظاراته. يتخطّى الصعوبات بالفن، ولا يتصالح مع الموت. عليه أن يتخطّى نفسه قبل كل شيء. الفن؟ هو ليس الحياة، وليس هو الموت. إنه ما نشعر به لحظةَ المغامَرة الصادقة. هو ذلك التوازن الجميل الذي نبتكره في خيالنا لتهدئة اضطرابات واقعنا الفاشل.
شاله الأسود ضاعَ بالأمس. لقد ضاعت وسامته إذَنْ. على عادته في الحب، لا يتشبّث بالأشياء التي يحتاجها، ويُضيع الفُرَصَ القليلة من يده. من فشل إلى فشل، يركض عاريًا إلى لا نجاح. آهٍ من طريقٍ لا يؤدي إلى طريق. آهٍ من الحب صائرًا وسيلةً للنفاق والغش والخيانة والتدمير. آهٍ من امرأة لا تؤدي إلى كبد الحقيقة. يستيقظ عندما تنام أصابعه، وينام عندما تستيقظ أحلامه. لا ينام، بل يتعزّل بشهوته المُنكسِرة. كان قبل هذه الحرب، يسهر مع فشله بحرية كاملة، يمازحه أو يلاعبه الشطرنج، وينتصِر عليه. ها هو عائد إلى أطلال طفولته الكالِحة، يقف عليها خاشعًا ولا يبكي، يضحك كثيرًا ولا يختفي الحزن. من كلمة إلى كلمة، يموت. كان يحلُم أن يصير حجرًا في نَهرٍ أزرق. كان يحلم أن تنتهي جميع الحروب. يصعد من فوق إلى أسفل، ويسيطر على كل شيء، ثم ينزل مهزومًا. يتذكّر النسيانَ ويتناسى الحيطانَ الداخلية التي صاغها من إفرازات كآبته. ينخلع عن الحقيقة، وينخلع عن المألوف، ويذوب سريعًا في الهَباء. يطير فوق الكون كله. ذات مرة صار ريحًا وتزوّجها، فأنجبتْ له هذا الرصيف الذي لا اسم له ولا مكان. صار رصيفًا طويلًا يمشي فوقه اليأس، ملطّخًا بدمِ الأمل. صار شمعةً وضيّعها، أو نساها في جيبه. ها هو فارغٌ مثل حُلمٍ في رَحِم قصيدة كتبها لا أحد. يشعر بالزهو رغم الخسارة التي تكبر في حلقه، يتجاسر مثل بطل طُرْوادي يطارد ذبابةً في ظلام التاريخ. يصنع انتصارًا من الرمل، ويأكله وحده ولا يشبع. يصنع إلهًا من فضلاته ويأكله مع الجميع. يخرج من زجاجة مُحطَّمة. دموعه منتهية الصلاحية مثل الأيام التي يعيشها. يكتب أسئلةً انقلابيةً من لا شيء، ثم يحذفها من الورقة. يُشْعِلُ سيجارةً ويتركها تشتعل داخل روحه، ويذهب هو وراء الدخان. الدخان يتوارى بعيدًا، والزمن يغور تحت الرماد. ويغور هو أيضًا. وهو الآن إذ يحاول أن يتخلّص من أوهامه الجديدة، يسقط في أوهامه القديمة. يتناسى أنه قد مات، ويتلاشى وراء الضباب. يصير هو الضبابَ، ويتلاشى كاملًا. يصير ليس بشيءٍ يُذكَر. يعانق قمةَ المجدِ في نومه الطويل.