- ضياف البراق
أضجرني اليومَ سائقُ الباصِ بأحاديثه التافهة طوال الطريق. لا أعرفه لأنني لأول مرة أركب معه. ما زلتُ للآنَ أشعر بالغثيان من مرارة أحاديثه الكثيرة التي لم أفهمها. كم خنقني بسخريّاته الفارغة من أي معنى، وكم أتعسني بحركات ملامحه التي تشبه حركات عجوز يحتضِر. كان يهرف بما لا يعرف، واثقًا من نفسه. وكلما أشعلتُ سيجارةً طلبني واحدة منها وأرغمني لأشعلها له بولّاعتي. فعل ذلك أكثر من خمس مرات. ولو ركب معه أي حيوان من الغابة وسمع حديثه لانتحر على الفور. كان يسب الركّاب المساكين أو يشتمهم، ولكنه يمتدح السلطة ذات الشعارات الملصوقة على جدران الباص من الداخل ومن الخارج أيضًا.
تزداد سرعة الباص قليلًا وهو لا يحتمل ذلك. تعتريني رغبة ساحقة لأن أصرخ بأعلى صوتي: لا تسرع أيها السائق المجنون، لا ترمِ غضبك ولا فشلك ولا طيْشك علينا، امشِ ببطءٍ أقل من هذا، أنا تُخيفني سرعةُ الحمار إذا أسرع، أنا لا أبحث عن نفسي ولا أبحث عن قوتي ولا أبحث عن حلقة داروين المفقودة ولا عن الوردة التي قتلت “ريلكه” ولا عن المكتبة التي قتلت صاحبها “الجاحظ” ولا عن “سدوم” التي خسف بها الله فاختفت بأكملها من الأرض، ولا أبحث عن جمجمة آخر ديناصور انقرض، لا أبحث عن مقدمة أول عاهرة في التاريخ، ولا عن مؤخرة ابن خلدون، ولا عن العفريت الذي تَنسُب له العربُ بيتًا ثقيلًا من الشعر، ولا عن المناسبة التي انبنى عليها اسمي “ضياف” الوحيد في البلاد كلها، لا أبحث عن أي أحد ولا عن أي شيء.. “أنا حذاء، أين طريقي؟”.
واحد من الركّاب يقطع كلام السائق المُضجِر، ويتكلّم على نَفَسٍ واحد بجهارة صوته: هذا الشعب الذليل لم يعد يستحق الحياة، لقد صار مُنبطِحًا كجثة هامدة، شعب مريض عقليًا، شعب لا يرى أبعد من أنفه، إنه يصنع الثورات ويأكلها، ويصنع الطغاة ليأكلوه، شعب لا يفرِّق بين المايوه والسروال الطويل، ولا يفرِّق بين القذارة والحضارة، شعب فاشل تاريخيًا في ردع اللصوص وقطّاع الطُّرُق والأرزاق، قطّاع الأيدي الشريفة وشبكات المياه والكهرباء وشرايين الحياة، ولكنه ناجح فقط وباستمرار في التصفيق لهم وحمايتهم.. شعب من رماد..
راكب آخر يقطع كلامي ” العميق” ويشتم زوجته التي ينتوي تطليقها قريبًا: والله إنها أكسل المخلوقات، وتتحدث دائمًا عن الاهتمام، الاهتمام هو الحب، الحب هو الاهتمام، الاهتمام يقتضي كذا وكذا، والحب يستمر بالاهتمام.. ولكنها لا تهتم إلا بنفسها فقط، وتعبث بكل أساسيات البيت، وتلعب برأسي مثل الكرة، وفي الليل تترك كل هذه الفلسفة الحامضة، وتتسلل إلى جسدي وتبتلعني دفعة واحدة، ثم تلفظني ميتًا وتختفي، ويتكرر هذا كل يوم وكل ليلة.. إنها تعاملني مثل حكومة عربية تعامل مواطنيها بكل حبٍّ واهتمام!
وراكب آخر يُسكِت الجميع ليقرأ علينا آخر قصيدة كتبها على منوال أحمد مطر، لكنها ملأى بالكوارث اللغوية والإضافات التي لا يحتملها الشعر ولا يحتملها العالم بأجمعه. استمعنا للقصيدة وشعرنا بالغثيان، وربما كدنا نقول له: الشاعر المتدين عِلّة مسيئة للشعر. الشاعر المشحون دينيًا، لا يكون شاعرًا حقيقيًا إلّا إذا تمرّد. قيمة الشعر العليا تنبع من كونه متمرِّدًا على القيود والظلاميّات. الشعر، مثل الحب، لا يتصالح مع الدين أو لا يخضع له. نحن نرفض تديين الشعر، ونرفض كلَّ شاعرٍ يخدم السلطات الدينية والسياسية والرجعية.. أو يتملّقها. نحن نرفض الشعر الوظيفي بجميع أنواعه. الشعر أوسع من أن يكون محصورًا في قضية واحدة أو في بيئة محددة. نحن نرفض الوعظ المنظوم الذي يُسمّى شعرًا وهو أصلًا يخلو من حقيقة الشعر. الشعر الذي نحبه هو الذي يخترق المألوف ويتجاوز الحدود المانعة للتفكير الحر. الشعر هو الكشف والمساءلة والرقص العميق في المساحات المُطْلَقة. إنه الخلق الذي ينتج الرؤى والأفكار والدهشة. الشاعر الحقيقي هو الرافض لكل السلطات. ولهذا قال شاعرنا العظيم نزار قباني: لا شيء يعلو فوق قصيدتي..
يتوقف الباص بعد مسافة قصيرة، ينزل راكب ويصعد راكب آخر. أوْ على الأصح، ينزل فاشل ويصعد فاشل آخر. هذا الصاعد سيتكلم بمرارة مُحزِنة، قبل أن يحط مؤخرته على الكرسي المعطوب: يرتكب اليمني الأخطاء يومًا بعد يوم، لا ليتعلّمَ منها ولكن ليكرّرها معه معه، فيموت في آخر المطاف وقد خسر كل شيء. وأغلب المرضى عندنا، وخصوصًا الفقراء منهم، يموتون كل يوم بالأخطاء الطبية، لأنّ مهمة القطاع الصحي أو الطبي الأساسية، هي جمع أكبر قدر من المال وإنتاج المزيد من الأخطاء والأمراض والجثث..
راكب آخر يشكي ويبكي ويدخن بشراهة. راكب آخر يكابد آلامه الفظيعة، يحاول أن يتنفّس قليلًا ويفشل. وراكب آخر ينتِّف شنبه الأشعث المنكوش ويخطف السيجارة من فمي ويزيدني ضجرًا. وراكب آخر لم يتوقف عن الثرثرة الوطنية البائسة، تاركًا الرغوة تسيل من طرفي فمه. وراكب ينزل وراكب يصعد، والسائق يطلب المزيد، ويسب ويشتم الحياة، والباص يختنق. ضجة أشباح وروائح كريهة تزداد وحسرات تتصاعد وقهقهات غبية تخرج من أفواهٍ يتعوّذ منها الشيطان. قف هنا يا باص، أريد أن أتقيأ كل حياتي.