- سناء مبارك
رواية للنيجيري تشنوا أتشيبي، نشرها في العام ١٩٥٨ وعاصر مجدها حتى توفته المنية في ٢٠١٣ عن عمر تجاوز الثمانين بقليل. لازالت هذه الرواية تفتن محبي الأدب حول العالم رغم قدمها، في أمريكا وحدها تباع منها مائة ألف نسخة سنويًا..
قرأتُ الرواية على دفعات ليس لأنها مملة، ولكنها من نوع الوجبات الشهية التي لا تريد أن تشبع منها دفعة واحدة وتحبذ لو تضع البعض منها في البرّاد لليوم التالي.
في الرواية التي كتبت باللغة الإنجليزية وترجمت متأخرة – وبشكل بديع – للعربية تطل أفريقيا بكرًا، ارضًا للإنسان الذي يأكل مما يحصد ويتفاعل متناغمًا مع بيئته العذراء، تكاد من فرط التفاصيل أن تلتسع بلهيب الشمس وتشتم الأرض المحترقة في جوفك، تجلس مع أفراد القبيلة في مآدبهم لتأكلوا اليام أو حساء الإيجوسي أو تحتسوا نبيذ النخيل، هكذا تعامل إنسان تشنوا أتشيبي الذي وضعه في إطار قبائل وهمية، مخترعًا لها الآلهة والأساطير والقوانين القبلية التي تبسّط الأخلاق وترسم للقوّة معايير صرفة. فالرجل الأضخم أو الأشجع أو الأثرى هو صاحب السلطة والجاه..
الرواية وإن ظهرت في قشرتها تحكي لحظات التحول في إفريقيا ما قبل الاستعمار وما بعده، إلاّ أنها تذهب بعيدًا وتخوض بنَفَس هادئ ووقور في ملاحم جدلية كبيرة، عن الأديان والتبشير كسلاح “الرجل الأبيض” لتمكينه من الأرض السمراء، الراوي الذي بدا وكأنه محايدًا يضعك كقارئ أمام صراع آخر فتجد نفسك لا تستطيع التفريق إن كنت تحب الاستعمار أم تكرهه، تميل إلى الفكر الحضاري الذي جاء به البيض حينًا وتتساءل إن كان ينبغي على “ثمن التحضّر” أن يكون باهضًا إلى هذه الدرجة، فالدين المسيحي الذي جاء به المبشرون يساوي بين الناس ويجذب المنبوذين ويهدم الخرافة والتطيّر والأوثان، ويضع القوانين العقلانية، والحكومة التي نشأت بمحاذاته بنت المدارس والمستشفيات والمحاكم ولكنها في المقابل “امتلأت بالذين لم يخضعوا لقوانين الرجل الأبيض”، ثم تنقلب سريرتك وأنت ترى كيف عقرت هذه التباشير سلوة الناس وفرقت بينهم وقطعت أوصالهم فيرن في بالك تساؤل من نوع : هل يجب على الحضارة المستوردة أن تحولنا إلى عبيد؟
لا أعرف إن تنبأ الكاتب إلى حقيقة أن العبودية ستتشكل بفعل الحضارة إلى أنواع مختلفة، وأن الرجل الأبيض الذي أذعن الناس لبطشه سيتحول إلى هذه الرأسمالية التي جعلتنا نلهث خلف المادة والوظائف المرموقة خاضعين تمامًا لقوانين جردتنا انسانيتنا وحولتنا إلى مكائن، ثم تنظر للناس من حولك مأسورين في سجن الهواتف النقالة وإغراء وسائل التواصل فتعرف أن للحضارة ثمن جم.
بطل الرواية الذي يمكن ببساطة تحويله من شخص إلى قضية (مقاومة) أو ضمير (ضد الظلم) أو فكرة (كرامة) او وطن (تداعت أشياؤه) ، رجل شجاع تمتد جذوره عميقًا، استمد حبوته من عرق جبينه وقوة أعضائه، رجل دفع ثمن المقاومة غاليًا، إنه الغصن الذي ظن من فرط حماسه أنه أقوى من العاصفة فإذا بها تقتلع شجرته.
الرواية مليئة بالحكاوي الشعبية والأمثال وهي مناسبة جدًا لعشاق الاقتباسات، من بين جميعها اخترت لكم هذه
“كل شيء ممكن، لكن ليست كل الوسائل ملائمة”.
قرأت الرواية بقلب وعقل نسوية من القرن الحادي والعشرين، فلم استوعب كم كان حضور المرأة ناقصًا في الرواية وكم كانت مجرد رقم سالب في الأحداث، ربما كان الأمر كذلك في القبائل الأفريقية، لكن وظيفة الأدب أن يصنع وعيًا وحلمًا ورؤية. فالكاتب لم يتخذ موقفًا ناقدًا من أفكار ذكورية ربما تكون واقعية نقلها بكل تراضي، حتى أنه بدا متماهيًا معها، فالرجل في روايته يتزوج نساء بلا عدد، كما أن بطل الرواية الذي كان يحب رجاحة عقل ابنته تمنى مرارًا وتكرارًا لو انها ولدت ذكرًا بدلًا عن أخيها الذي ترك “عهد ابائه” والتحق بركب الغرباء. لم أعلم الحكمة من تكرار هذا التمني في الرواية بصورة مستفزة.
لكن هذا لا يمنع أن الرواية تحفة فنية عابرة للوقت، بالطبع أنا لستُ ناقدة وما كتبته أعلاه هو مجرد مشاركة لكتاب جيد، لأني أحب الكتب الجيدة.