- ضياف البراق
زمن الحرب هو زمن الزيف والبشاعة والعنف بمختلف أشكاله. إنّ الواقعَ المحكوم بالعنف يجعل الأشياءَ بلا قيمة، ويتيح المجال لانتشار التفاهات واختفاء الحقائق وانبعاث الروائح الكريهة وعلو الأصوات القبيحة. وفي البيئة العنيفة يغدو كلُّ شيءٍ عنيفًا، حتى الكلام البسيط. إننا في هذا الزمن العنيف، لم نعد نسمّي الأشياءَ بأسمائها الحقيقية، وهذه كارثة خَطِرة جدًّا. حتى الكتابة الإبداعية انزلقت في مستنقع العنف، وها هي تتوغّل في العدمية يومًا بعد يوم، غير أنّها هي الخاسرة في آخر الأمر.
أصبحنا نطلق كلمة (مناضل) على أشخاص بعيدين كل البعد عن النضال، وهم لا يستحقون حتى أبسط الأوصاف النضالية. نَعمْ، أصبحت تلك الكلمة تُقَال لمن هبَّ ودبَّ. تلك الصفة النبيلة صارت رخيصةً كهذه المرحلة الرديئة التي نعيشها. لقد أصبح السياسي المرتزق مناضلًا لامعًا، وكذلك أصبح الإرهابي أو قاطع الطريق، وكذلك أصبح القاتل والفاسد، وكذلك أصبح الرجعي المُتطرِّف المعادي لروح لحداثة وحركة التنوير. هكذا، نعم هكذا صرنا نمنح القيمة المبارَكة لغير مستحقيها، وهذا هو الظلم بعينه. أمّا المناضلون الشرفاء فلا يحصلون على أي تقدير من الناس في مجتمعنا المُنخلِع عن الوعي الإنساني الحقيقي. هنا يعيش المناضل الشريف كأنه في منفى، لا في وطنه، ويموت غريبًا في الغالب. كفى مهزلة، فلننظرْ إلى المناضلين الحقيقيين، ولنكنْ إلى جنبهم على الدوام، ولنسخطْ على الفاسدين حيثُ نجدهم.
اليوم، كثيرًا ما نرى تلك الألقاب الوصفية الكريمة وهي تُبتذَل، وتُزيَّف معانيها، وتُمنَح للظلاميين والفاسدين، لا لمستحقيها الجديرين بها، نشاهدها تُهان على صفحات كثير من مواقع النت، وعلى كثير من شاشات الإعلام التي واجبها الأساسي هو نقل الحقيقة، والتشبُّث بها، والدفاع عنها، لا العكس. وبالمثل، بل بأسوأ من ذلك، صارت كلمة (شاعر) تُهَان هي الأخرى بشكلٍ مرعِب جدًّا؛ إنها تُطلَق حاليًا على كثيرين ممن لا علاقة لهم لا بالشعر ولا بالشعير حتّى، يا له من انحطاط مخيف! غير أنّ السمين باقٍ لا ينتهي، والغث زائل مع الزمن.
مناضل: هذه صفة إنسانية واجتماعية عظيمة، لكنها للأسف الشديد صارت تُلقى في غير موضعها. إنّ الذي يعتاش على الدِّين يُقال له اليوم: مناضل. الذي لا عمل له سوى الاشتغال بالدين، فهذا لص وليس مناضلًا ولا رجل خير. رجل الخير الحقيقي هو المناضل النزيه الذي يُقدِّم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، ويشتغل بالتنوير والفعل من أجل انتشال مجتمعه الغارق في مستنقعات الجهل والبؤس، لا من أجل تخديره وتنويمه وإغراقه في مزيدٍ من العذاب. الأناني ليس مناضلًا على الإطلاق. المناضل ليس الذي يشتغل بالفساد والنهب والقمع، إنما هو ذلك الذي يؤدي دور الشمعة في الظلام، على الأقل.
والطبيب الذي لا يهتم بالمريض الفقير، مثلما يهتم بالمريض الغني، هذا نذل وليس مناضلًا. ما أكثرَ الأطباء السفلة في مجتمعنا!
أكرِّر: هذه الأيام السياسي الانتهازي أصبح يُدعى بالمناضل، ومثقف السلطة الذي لا يلتفت إلى معاناة الناس من حوله، هذا أيضًا أصبح يُحتفَل به على أساس أنه مناضل كبير!
المناضل الأصيل، لا المزيَّف، ليس المُهرِّج الذي يصنع، بالكلمات الفارغة، من الحَبَّة قُبَّة، وهو مستريح على فراشه؛ بل هو الثوريُّ الحقّاني الواقعي الذي «يحترق ليُضيءَ الطريقَ للآخرين». المناضل إذَنْ، في هذا المستوى، هو الذي يكافح الشر الاجتماعي دائمًا وأبدًا، ولا يسعى إلى المجد الباطل.
ومن المناضلين الطيبين الصادقين في مجتمعنا اليمني، حسب رأيي الشخصي، هم أصحابُ المِهَنِ المُحتقرَة: إنهم الجزّار والحلّاق والزبّال أو عامل النظافة؛ فهؤلاء يعيشون على عرق جبينهم، أيْ بكل شرف، وعلينا، نحن المستفيدين منهم دائمًا، علينا أن نحترمهم ونقدِّرهم أحسنَ تقدير. المناضلون أخيرًا، هم جميع الشرفاء الذين يخدمون الحياة باستمرار، رافضين العبودية والفقر والدمار والموت.